لازلت أشعر بالفزع وأنا أتلمس أخبار الفاجعة التي تطال السوريين الحالمين بالتتالي، منذ خمس سنوات ربما سمعنا خبر شاب توفي إثر أزمة قلبية، قال لنا طبيب في العائلة حينها: “كل ضغط يؤدي للانفجار، ستسمعون الكثير من هذه الميتات لاحقاً”. ومع هذا لم يكن الموت هو خوفنا الوحيد بل على العكس، فبعد سبع سنوات ونيف من التنكيل والعنف وضحايا الدم وخبزنا الغارق به بدأنا نوقن أن يوماً سيمر بنا بلا موت لا يحسب في تاريخنا المعتم هذا، إلا أن خوفنا كان من وحدة القضية دونهم، الوحدة في إيمانك وأنت ترى أسلافك من العاملين فيه يتساقطون تباعاً.
حسناً إن لم يكن الموت هاجسنا الأكيد فما هو الذي أريد التطرق له تحديداً؟
أريد الحديث بشكل خاص عن الموت غير العلني، الموت الخفي الذي لا تنعيه صفحات الأصدقاء، ولا يستغله مدعو المحبة الذين التقوا باسمك صدفة فأهالوا عليك تراب الوفاء بعد رحيلك، ولا تراه عين الذي يراك كل يوم ساهماً عن عالمه.
ذلك الموت الذي يقطن في خبايا الجسد المستمر في الحياة غصباً بين عمله وعائلته ووجوه التعب والرزق معاً، الجسد الذي يعاين انفصام الجدوى والعدم في داخله، وتجبره لقمة الخيبة على اجترار نفسه في هذا العالم دون أن يشعر بضئيل حاجة لفعل ذلك.
كثيرون بيننا ماتت أرواحهم وتعطلت عن العمل والحلم، بات وجودهم طيفاً يذكره البعض وينساه آخرون، بعض الناشطين الذين قرروا اعتزال الثورة دون إشعار آخر ودون تصريح يذكر سوى التعب والخيبة، سواء بعد أن غادروا مدنهم أو بعد أن نكبتهم الغربة بالعجز، وبعضهم الآخر هرب من جيوش التشبيح التي باتت تتشكل الآن تبعاً للجماعات منفصلة تماماً عن الفكرة الأساسية التي اجتمعوا تحت ظلها يوماً.
أعرف الكثيرين ممن اختاروا الصمت الطويل عن الإدلاء برأيهم وأعرف ما يشق في قلبهم من حزن وخيبات متراكمة وانزواء عن كل معايير الحياة وتقييماتها.
أنا من أولئك الذين انسحبوا صامتين عندما وجدوا أن الأمر بات منهكاً أكثر، وعندما صارت جدوى وجودهم متناسبة طرداً مع انهياراتهم الداخلية واستنزافهم.
في كل مرة أحاول أن أتفهم ما آلت له حالنا، تتعبني التفسيرات الكثيرة، الملل الذي يصاحب أحاديث الغالبية، القفز فوق المجزرة بدعوة “الحي أبقى من الميت”، العيش في قمقم “كنا عايشين” كي لا نخرج رؤوسنا من عنق الزجاجة ونرى الحقيقة.
في مواجهة الأمر وعلى مواقع التواصل تحديداً إذا حاولت الإبحار فيها لبعض الوقت، سترى سوريا واضحة المعالم بتشعباتها الطائفية والمناطقية سواء كان ذلك بلغة حكيمة أو هوجائية، وما بينهما ستجد جيوشاً من المصفقين، وفي موكب آخر ستلمح قادة فصائل دون أسلحة إلا أزرار الكيبورد، يقف خلفهم أتباع كثر يستطيعون تحويل دقائقك الافتراضية جحيماً قد تحمله معك إلى الواقع حتى وإن أغلقت هاتفك وقطعت الانترنت عنك أيضاً.
تحولت منصات الرأي التي أمطرنا بها أمنياتنا وأحلامنا وأسماء شهدائنا، إلى عالم تحزبات مقيت، تسيطر عليه توجهات الجماعات وحروبهم، والفالح من يسقط حجارة أكثر باسم جماعته على الآخر. “أنتِ محجبة وبتحكي على الجماعة؟”، هذا ما يبادرني به أحد المدافعين عن مجموعة تفرض سيطرتها بسطوة السلاح وتختبئ تحت راية دينية يتوجب عليّ الهرع والوقوف تحتها كي لا أشقّ الصف برأيه.
الأمر المثير للسخرية مع هذا أن كلهم يتنازعون باسم الثورة بالخط العريض، دون أن يحاولوا صونها بكلمة حق واحدة، وتستطيع أن ترى شياطين النظام تزغرد في صفحاتهم فرحاً وهم يتحاربون على أمر ما، لن نُتَفهه ولن نعلي من شأنه، لكنهم لا يفعلون إلا تشويه قداسة الإيمان الأول الذي جمعنا تحت راية “ايد وحدة” ذات يوم في مظاهرة عابرة.
الأمر الذي يكرر كلما قيل لي أين صوتك فيما يحدث؟
لا أعرف كيف أفسر هذا الصمت، أعرف أني وجدته ملاذاً جيداً عندما ضاقت بنا الأحاديث في ظل انعدام جدواها، وفي ظل كل سيوف الموت التي توجه نحو حناجرنا متى نطقنا من إخوة الدم والثورة، أعرف أن تبعاته وتجلياته داخلي في الحقيقة أسوأ مما يظن البعض، عدمٌ كبير وحزن لا تصارعه مئات الرغبات في العودة، شيء يشبه بلاداً منكوبة آمنت يوماً بحقها في الحياة.
كل هذه الخيبات تتجمع في روح واحدة أنهكتها حروبهم الطويلة ونزاعاتهم على أصغر الأشياء واتباعهم لمبدأ التحزبات والتشبيح _رغم تحفظي على المصطلح جداً_ القائم على رفض الآخر ولو كان على حق فقط لأن رأيه لم يأتِ على مقاسي ..
ربما علينا أن نختار عوالمنا الجديدة، عوالم لا يكون فيها سوانا نحن وفكرتنا التي لا نريد لها موتاً ولا فناءاً، وإن تحولنا في آخر الأمر إلى أصنام صامتة تتابع ما يحدث حولها دون أن تصدر صوتاً. يبدو أن سبيلنا الأخير في هذه الحياة هي أن نحمي إيماننا من أن يتم الإفراط به في أي مكان في هذا العالم ولو كان بين أهله، إن افترضنا ذلك!
عذراً التعليقات مغلقة