مقدمة
لم يعد تحيزًا أو محض رغبة الحكم على مؤتمر سوتشي الذي عقد في 30 كانون الثاني/ يناير الفائت بالفشل، وأنه شكل ضربة مؤلمة لمحاولة الروس بتصدر المشهد وتقديم حل، أو وضع الصراع الدامي الذي تشهده سورية منذ سبع سنوات على سكة الحل. لقد كان الروس أنفسهم أول المساهمين في فشله، ليس لحجم الإرباك الذي رافقهم في الإعلان عن المؤتمر والإعداد له وغموض أهدافه ومحاولاتهم اليائسة في المواءمة بين رؤى ومطالب الأطراف المشاركة أو المعنية فيه بكل تناقضاتها العصية على الحل فحسب، بل لأنهم وضعوا له بشكل مسبق سقفًا مغلقًا عندما أعلنوا أن من يريد تغيير الأسد أو إسقاطه لا مكان له في المؤتمر، وأصروا على تجاهل جذر الصراع بصفته صراعًا بين نظام ديكتاتوري مستبد وتمييزي من جهة ومجتمع يتوق إلى الانعتاق والحرية من جهة أخرى، وأن هناك شعبًا ثار ضده وقدّم تضحيات لا مثيل لها طلبًا للحرية والتحرر من نير استبداده المديد الذي يخنقه.
لقد أيقن الروس، في ضوء الاتصالات المكوكية التي أجروها مع مختلف الأطراف، بأن المؤتمر لن ينجح في تحقيق الأهداف المرسومة له، كما أذعن الكريملين إلى هذه النتيجة حين أعلن “أن المؤتمر لن يسفر عن حل حاسم وأن بوتين لن يحضره”. كما أنهم يدركون تمامًا صعوبة تجاهل المجتمع الدولي أو الالتفاف الساذج على قراراته. وإذا كان الأمر على هذا الوضوح فعلام إصرارهم على عقده إذًا؟ سؤال قد تصعب الإجابة عنه بمنطق سياسي، ربما هي عنجهية القوة أو ضحالة الخبرة الدبلوماسية أو قناعتهم بسحب نموذج غروزني على الصراع السوري على الرغم من اختلاف الحالة والمعطيات، أو تقطيع الوقت انتظارًا لظروف أفضل تسمح بإجراء مساومة شاملة مع الغرب والخروج من الاستعصاء في علاقتهم المكلفة مع الأطراف الدولية المنافسة.
أحد الاستنتاجات التي راجت، ولا يخلو من صوابية، أنه “في الدول الاستبدادية، وروسيا نموذجها الفظ، يصعب تجاوز ما ينطق به الرئيس”، وكان هذا حال بوتين عندما أعلن انتصاره على الإرهاب وأعطى الأمر بعقد مؤتمر لـ “الشعوب السورية” في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي مقلب آخر، الذي ربما يعطي صورة عن آلية عمل العقل السياسي الروسي، كتب الباحث الروسي يفغيني كروتيكوف “كيف سيكون شكل سورية بعد الحرب؟ يمكن أن تكون الإجابة عن هذا السؤال في روسيا ما دام السوريون أنفسهم يتجاهلون الإجابة عنه بصراحة، وما دام الغرب يحاول كعادته تشكيل سورية ما بعد الحرب على طريقته، متجاهلًا واقع الأمور الفعلية على الجبهات، وفي النتيجة يصبح المشروع الذي يرتبط بالكامل بـ (الفكر الروسي) مهمًا للعالم كله”. إذًا القضية السورية بتعقيداتها كافة هي في عهدة الفكر الروسي، ولم يعد هناك من حاجة للقلق بشأنها!.
لقد عُقد المؤتمر، وأصبح من ماضي هذه المأساة الإنسانية الفظيعة بدلالاتها وتداعياتها كافة، وبات مهمًا البحث فيما بعده، وإلى أين تتجه الأمور، ذلك أن الفشل الروسي قد تفجّر انتقامًا لم يخفه الروس على شكل مئات الغارات الجوية حتى الآن على سراقب وريف إدلب الجنوبي وفي غوطة دمشق، فالمعارضة التي قاطعت تحتاج إلى تأديب على رأي لافروف، أو حتمية وجوب القضاء عليها “لأن امتناع هيئة التفاوض والعديد من القوى العسكرية والسياسية عن المشاركة في مؤتمر سوتشي الذي يُعد خطوة مهمة في إجراء عملية السلام، يعتبر مؤشرًا واقعيًا على تغلغل القوى الإرهابية المتطرفة” بحسب ما هددت صحيفة حميميم العسكرية الروسية الرسمية.
أولًا: جهد روسي ضائع
لقد بذلت روسيا جهدًا هائلًا مع الأطراف المعنية كافة لتمرير المؤتمر بأقل قدر من الضرر السياسي الذي سيلحقه بها فشل المؤتمر، بعدما لحظت حجم الاعتراض الذي أبدته تلك الأطراف وأدى لتأجيل المؤتمر مرتين، وإدخال أكثر من تعديل على برنامجه ومخرجاته، من دون أن تنجح في تسويقه على الساحة الدولية. لكن روسيا لم تكن واضحة مع هذه الأطراف، وسوّقت عند كل طرف ما كانت تظنه أنه يرضيه، وبما أن أهداف هذه الأطراف متناقضة بشكل كبير، فقد سادت حالة من التوجّس وفقدان الثقة بالتوجه الروسي حتى عند المتعاونين مع الروس، فما بالكم بالأطراف التي تعتبر روسيا عدوًا ومحتلًا، أو تلك التي تخوض معها صراعًا على النفوذ. فما هو الشكل النهائي الذي رست عليه مخرجات المؤتمر والمواقف المختلفة منه.
1- مواقف النظام وإيران وتركيا
أ- النظام
منذ أن طرحت فكرة مؤتمر سوتشي لم يكن النظام متحمسًا له، وقد رفض فكرة الانتخابات الرئاسية التي قال بها الروس، ووافق على فكرة انتخابات برلمانية يمكنه التحكم فيها، كما اعترض على فكرة دستور جديد، إنما وافق على تعديلات دستورية على دستور الـ 2012 المعمول به، لكن، وبسبب الضغوط التي مورست عليه، وافق على الحضور، وجهدت أجهزته الأمنية في إعداد لوائح الحضور من الداخل، في الوقت الذي عمدت لتحويله إلى مهرجان كاريكاتوري إمعانًا في تسفيه المؤتمر من خلال نوعية الحضور الذي وافقت عليه، بحيث أن القادمين من الداخل والذي يقال أن عددهم تجاوز الـ 1200، أغلبهم من موالي النظام في حزب البعث والنقابات المهنية وبعض من يحسبون أنفسهم على المعارضة من أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” أو ممن ينتمون إلى بعض الأحزاب التي رخص لها برعاية أمنية بعد الـ 2011، إضافة إلى بعض الفعاليات الدينية والعشائرية والقومية ولجان المصالحات المحلية وبعض التائبين والعائدين إلى حض الوطن؛ ومع ذلك لم يُسمح لأكثر من سبعين مدعوًا من تيار قدري جميل بالحضور واثنين وعشرين من تيار قمح وفقًا لما صرح به كل من قدري جميل وهيثم مناع. وإذا تجاوزنا التصرفات الغوغائية التي مارسها بعض الحضور بناءً على توجيه مسبق، فإنه يكفي للدلالة على استهتار النظام بالمؤتمر تخفيض تمثيله الرسمي فيه وحضور علي كيالي التركي منفذ (مجزرة البيضا) في بانياس وصفوان قدسي مداح الجبهة الوطنية الذي عين رئيسًا للمؤتمر.
ب- إيران
هي الأخرى لا تريد المؤتمر على الرغم من كونها أحد رعاته، لأن نتائجه في الغالب لن تصبّ في مصلحتها، ما عدا تثبيت رأس النظام فيما لو تم. فنجاح روسيا في تمرير المؤتمر ومخرجاته كان يعني زيادة في نفوذ روسيا في سورية، وهذا سيكون على حساب الإيرانيين؛ على العكس من ذلك، فإن من مصلحة إيران تتمثل في فشل مساعي روسيا مع الغرب لجرّه إلى طاولة المساومات من خلال تقديم نفسها على أنها قادرة على إنجاز حل سياسي ما زال المجتمع الدولي عاجزًا عنه أو لا يريده وفق المعطيات الراهنة، ومع ذلك حاولت زجّ بعض الشخصيات ضمن الوفود من دون أن تصيب نجاحًا في أغلب الظن، إما لقلّة من يجهرون بولائهم لإيران على الساحة السورية، أو لأن النظام لا تريحه مثل هذه التصرفات حتى لو جاءت من إيران، لكنها ألهبت جبهات ريف إدلب الجنوبي بالتزامن مع تحضيرات المؤتمر وعقده بدعوى تطبيق مخرجات أستانا6 فيما يخص (تخفيض التصعيد) في تلك المنطقة الواقعة شرقي سكة الحديد في أرياف حماه وادلب الشرقية وريف حلب الجنوبي ومطار أبو الضهور.
ت- تركيا
وضعت تركيا مسألة عدم دعوة الهيئات التي تتبع (حزب الاتحاد الديمقراطي) مثل (قوات سورية الديمقراطية) أو (وحدات حماية الشعب) أو (الإدارة الذاتية) شرطًا لحضورها ولتليين مواقف بعض أطراف المعارضة السورية المتعاونة معها، وارتأت دعوة ممثلين عن (المجلس الوطني الكردي) العضو في (ائتلاف قوى الثورة والمعارضة)؛ كما كان من بين الاشتراطات التركية غير الجادة وقف الحملة العسكرية التي يشنها النظام وحلفاؤه بتغطية جوية روسية في ريف إدلب الجنوبي، وعملت على سحب الاعتراضات الروسية على حربها في عفرين؛ ومع ذلك خفّضت مستوى تمثيلها في المؤتمر بصورة ملحوظة. وقد ظهرت بعض الإشكالات مع الوفد التركي، كان في بعضها متضامنًا مع موقف بعض الوفود المعارضة التي وصلت مطار سوتشي واحتجت على الترتيبات البروتوكولية المتعلقة بالمؤتمر والتي سبق للروس أن وعدوا بالأخذ بها من دون أن يفوا بوعودهم كالعادة، وكان هذا دالًا على أن العلاقات التركية- الروسية لم ترق إلى مستوى التحالف، ولم تتجاوز مرحلة التفاهمات الآنية التي أملتها حاجة كل من طرفيها إلى الآخر لمواجهة التحديات الداخلية لكل منهما أو لتوتر علاقاتهما بالغرب على اختلاف الأسباب والسياقات.
2- الأمم المتحدة
لم يكن خافيًا على الأمم المتحدة نيات موسكو أو رغبتها في سحب البساط من تحت أقدام المسار الأممي في جنيف ومرجعياته القانونية عبر شقّ مسار جديد، بعيدّا عن مرجعيات تحدّ من الطموحات الروسية ورؤيتها للحل، وأن يكون سوتشي نقطة انطلاق لهذا المسار بسلسلة من الجولات على غرار أستانا، لذلك كانت الأمم المتحدة حذرة ومتحفظة إزاء المؤتمر من دون أن تقطع مع موسكو العضو الدائم في مجلس الأمن. وكان ذا دلالة أن يدعو دي مستورا إلى جلسة عاجلة للتفاوض في فيينا، كانت بمنزلة جولة تاسعة لجنيف، يومي 24 و25 كانون الثاني/ يناير الفائت للبحث في بند وحيد يتركز حول الدستور، على غير ما جرى في جولات جنيف السابقة، أي قبل أيام قليلة من موعد عقد مؤتمر سوتشي. كما اشترط دي مستورا لحضور مؤتمر سوتشي، الذي سبق وأن رفض فكرة ترؤسه، تعاونًا روسيًا واضحًا بالضغط على وفد النظام لإنجاح جولة فيينا، الأمر الذي لم يحصل، على الرغم من حضور بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، هذه الجولة ولقائه وفد هيئة المفاوضات وغيره من الوفود، وأطلق وعودًا سخية في إيجابيتها سواءً للمعارضة أو للمبعوث الخاص، لكن من دون أن يوقع على أي وثيقة تتضمن هذه الوعود التي اكتفى بأن تكون شفهية. وأضيفت هذه الجولة التي لم يحدث فيها أي اختراق إلى الجولات السابقة الفاشلة، وقد وصفها دي مستورا بـ “الصعبة”.
اشترطت الأمم المتحدة أن تصب مخرجات سوتشي في طاحونة جنيف وليس خارجها، وحتى قبل أسبوعين من سوتشي لم يكن الأمين العام للأمم المتحدة قد تلقّى أي ضمانات مقنعة من موسكو حول علاقة سوتشي بجنيف وفقًا لاشتراطات الأمم المتحدة، ووفقًا لما قاله ديفيد ساتر فيلد معاون وزير الخارجية الأميركية في جلسة استجواب له أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، ثم جاءت ورقة (اللاورقة) للدول الخمس التي سُلّمت إلى دي مستورا قبل سوتشي ببضعة أيام وتضمنت خارطة طريق للحل السياسي في سورية وفقًا لما توافقت عليه هذه الدول لتكون بمنزلة رسالة حُمّلت للمبعوث الأممي إلى القيادة الروسية لفرملة اندفاعها، وللأمم المتحدة تذكيرًا بالهوامش التي يمكن أن يتحرك فيها دي مستورا، والتي تفيد بأن هناك لاعبين آخرين يمكنهم الفعل.
لقد تصنّع دي مستورا “الحرد” ورفض حضور الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، لكنه عاد وتابع بقية الجلسة وتسلّم البيان الختامي ونداء سوتشي والأسماء التي رشحتها الدول الضامنة لعضوية لجنة الدستور وعددهم 150 عضوًا، ومنهم أسماء قاطعت المؤتمر.
عمليًا لم تخرج الأمم المتحدة خاسرة من مؤتمر سوتشي، الذي انتهى بمخرجات اختلفت عما بدأه، فبيانه الختامي كان إعادة تثبيت للنقاط الـ 12 التي سبق لدي مستورا أن قدّمها للوفود في جنيف7 ورفضها النظام ولم يردّ عليها حتى الآن، كما اقتصرت جلسات المؤتمر على يوم واحد ومرة واحدة كما هي اشترطت، كما أن الأسماء المرشحة لعضوية لجنة الدستور، وهي اللجنة الوحيدة التي أقرها المؤتمر، وُضعت بين يدي دي مستورا ليختار منها ثلاثين اسمًا أو أكثر قليلًا مناصفة بين النظام وهيئة التفاوض وتُرك له استكمال العدد لـ 45 أو 50 من منظمات المجتمع المدني التي كان يرعاها على هامش جولات جنيف وبالتزامن معها، كما أن المؤتمر لم يقرر فيما إذا كانت مهمة اللجنة البحث في تعديلات دستورية على دستور 2012 أو صوغ دستور جديد، إلا أن معظم الترجيحات تذهب إلى أن اللجنة ستكتفي بإقرار مبادئ عامة ما فوق دستورية، يُستند عليها مستقبلًا في صوغ دستور جديد. وبعد نهاية المؤتمر تعمّد انطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، التصريح بـ “أن الأمم المتحدة وروسيا الاتحادية على تفاهم تام، وأن مخرجات مؤتمر سوتشي تصب في خدمة مسار جنيف”، فهل يمكن أن يفهم هذا التصريح من باب تخفيف غضب روسيا وعدم قطع الخيوط معها؟
أما بخصوص النداء الذي وجهه المؤتمرون إلى المجتمع الدولي، فكان عبارة عن دعوة للمجتمع الدولي للمساهمة في إعادة إعمار سورية، وتطلّع إلى تكثيف المساعدات الإنسانية والطبية ورفع العقوبات عن سورية.
3- المعارضة السورية
حاولت “هيئة المفاوضات” التملّص من الضغوط الهائلة التي مورست عليها من قبل بعض الأطراف الدولية، وخاصة تركيا التي بات لها دالّة على الائتلاف، ومن الضغوط الشعبية الرافضة لسوتشي وللاحتلال الروسي، فقد وجهت 1200 منظمة مدنية وحقوقية رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تطالبه فيها بالوقوف في وجه مؤتمر سوتشي وعدم منحه الشرعية الأممية التي يسعى لها الروس. غير أن الخشية الأكبر التي راودت البعض تمثلت في احتمال تفجير الهيئة من قبل الموالين لموسكو في المنصات التي انضمت إليها في مؤتمر الرياض2، أو بعض شخصيات “هيئة التنسيق الوطنية” أو بعض المستقلين، لذلك شكلت وفدًا قام بجولة واسعة شملت كلًا من الأردن ومصر والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ثم روسيا، لاستطلاع رأيها وطرح موقف الهيئة أمامها، كما اجتمع بالأمين العام للأمم المتحدة. طرحت الهيئة بعد هذه الجولة شروطًا لحضورها المؤتمر، كان من بينها إحراز تقدم في جولة جنيف التاسعة في فيينا، الأمر الذي لم يحصل، كما ربطت حضورها بحضور الأمم المتحدة التي اشترطت بدورها أن يُعقد المؤتمر لمرة واحدة، وأن تصب مخرجاته في تفعيل مسار جنيف، وأن تكون هناك جدية في جولة فيينا، إضافة إلى تنفيذ اتفاق الغوطة، الذي عرف باتفاق يوم الجمعة، لوقف إطلاق النار فيها وإخلاء المصابين وإطلاق سراح معتقلين. كما أُضيف إلى هذه الشروط بعض الاستفسارات التوضيحية التي تتعلق بإدارة المؤتمر والهدف منه وآلية اشتغاله.
أقدمت الهيئة إثر ذلك، في اجتماع عقدته في الرياض، وفي ضوء المعطيات التي توفرت لها من وراء هذه الجولة، على طرح مسألة حضور المؤتمر على التصويت، حيث لم ينل موضوع الموافقة على الحضور سوى عشرة أصوات من أصل أربعة وثلاثين كانوا حاضرين. ومن المعروف أن هذه الأصوات العشرة التي صوتت لمصلحة حضور المؤتمر كانت موزعة على منصتي موسكو والقاهرة وبعض المستقلين، غير أن عددًا منهم قاطع المؤتمر التزامًا بقرار الهيئة، ونزولًا عند ردّة الفعل الشعبية الواسعة وبعض الحملات التي طالتهم بالاسم.
لقد شكّلت مقاطعة “الهيئة العليا للمفاوضات” ضربة قاصمة لكل الجهد الروسي، وأفقدت المؤتمر شرعيته ومعناه عندما كشفت حقيقة كونه مجرد “حوار” بين النظام وأتباعه برعاية روسية، ليس إلا.
ومن المؤكد أن هيئة التفاوض كانت في حاجة، في قرارها هذا، إلى غطاء دولي كي تستطيع الوقوف في وجه الضغوط الروسية والتركية وغيرها التي كانت تجري في الكواليس، وجاء بيان الدول الخمس الذي صدر في باريس قُبيل أيام من عقد المؤتمر، إضافة إلى الدعم الذي تلقته من أميركا وفرنسا بالامتناع عن الحضور، ليمنحها مثل هذا الغطاء.
4- سوتشي وبيان الدول الخمس
جاء مشروع الدول الخمس (أميركا، بريطانيا، فرنسا، السعودية، والأردن) الذي سُلّم إلى المبعوث الدولي عشية عقد مؤتمر سوتشي ليُشكل ضربة قاسية أخرى للخطط الروسية. لقد كان بمنزلة رسالة أرادت هذه الدول إبلاغ روسيا من خلالها بأن هناك في العالم أطرافًا أخرى، وموجودة على الأرض، ترى الأمور من منظار مختلف، وأنها قادرة على الفعل. وتأتي أهمية الموقف الجديد للدول هذه، التي تُعتبر طيفًا ضيقًا من طيف مجموعة أصدقاء الشعب السوري قابلًا للتوسع، من كونها تضم ثلاث دول مؤثرة ودائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ودولتين إقليميتين متدخلتين وفاعلتين في الملف السوري.
وقد جاء هذا المشروع على هيئة خارطة طريق للحل السياسي في سورية واضحة المعالم، وتتضمن تفاصيل كثيرة لا يستسيغها الروس. إضافة إلى كونه يكرس مسار جنيف والقرارات الأممية ذات الصلة، وعلى الأخص منها القرار رقم 2254 لعام 2015.
ومن الواضح أن هذا المشروع يأتي إعلانًا عن سياسة أميركية جديدة في الملف السوري، عنوانها العريض الانتقال من حالة الانكفاء إلى حالة الانخراط. وهو تعبير عن تحرك دولي واسع للوقوف في وجه محاولات التفرد الروسي بالحل السياسي. وإذا مضى هذا التوجه في طريقه فإنه يعني أن الحل السياسي المرتجى للمسألة السورية سوف يتمحور على هذا المشروع، آخذين في الحسبان أن الدول الخمس المعنية كلفت وزير الخارجية الأميركية بالتفاوض مع الروس حول مشروعهم هذا.
5- لماذا الدستور قبل الانتقال السياسي
ثلاثة أطراف دولية مهمة منخرطة في الملف السوري، وهي تتصارع في هذا الملف، لكنها تتوافق على إنجاز دستور في سورية أو تعديل الدستور القائم فيها، أي دستور 2012. هذا الأمر يثير مزيدًا من الأسئلة والشكوك حول غايات كل من هذه الأطراف.
فقد قدم الروس في مؤتمر أستانا1 مسودة مشروع دستور جديد لوفد الفصائل العسكرية المشارك الذي رفض تسلّمها، ثم عادوا وقدموها مع بعض التعديلات، وجرى رفض استلامها ثانية. وكان من مخرجات سوتشي تقديم لوائح للجنة دستورية وضعت في عهدة دي مستورا.
الأمم المتحدة، وعبر مندوبها الأممي، تعمل على سلة الدستور، وعلى الرغم من أنه لم تجر أي مفاوضات حول أيٍّ من السلال الأربع التي اقترحها دي مستورا برنامجًا للتفاوض، نتيجة لرفض النظام نقاش أيٍّ من السلال ما عدا سلة الإرهاب، فإنه، أي دي مستورا، عمل منذ وقت مبكر من مسيرة جنيف على دعوة شخصيات من منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوقية للنقاش حول مبادئ الدستور المنتظر، كما عُقدت اجتماعات في باريس وبيروت وكوبنهاغن لهذه الشخصيات للغاية نفسها، وفي نيته -بحسب مخرجات سوتشي- أن يعطيهم ثلث مقاعد لجنة الدستور التي كُلّف بتسميتها.
الولايات المتحدة الأميركية ودائرة حلفائها المصغرة التي عرفت بمجموعة الخمس، وغابت عنها تركيا، قدمت مشروعًا أو خارطة طريق تفصيلية، احتلت قضية الدستور حيّزًا مهمًا منها، وواضح أن تصورها يقوم على نقل نظام الحكم من نظام رئاسي مطلق الصلاحيات إلى نظام برلماني، أو شبه برلماني، يتمتع فيه رئيس الوزراء والبرلمان بسلطات واسعة ستنتزع من صلاحيات الرئيس، مع التنويه إلى شكل من الفدرالية أو اللامركزية الواسعة. فما هي الحكمة من جعل قضية الدستور سابقة على الانتقال السياسي الذي أقرّه جنيف1 وجعله محور العملية السياسية التي تتمحور على (هيئة حاكمة انتقالية) كاملة الصلاحيات التنفيذية، ومنوطة بها مسألتا الدستور والانتخابات؟ هل الأمر سحبٌ لتجربة (بريمر) الفاشلة في العراق عند بعض الأطراف؟ أم هو لضمان الحفاظ ما أمكن على جانب من آليات عمل النظام القائم عند بعضهم الآخر؟ أم ضعف ثقة بقدرة السوريين على التوافق على دستور في معمعان الحرب؟
ثانيًا: ماذا بعد سوتشي؟
لقد انعكس فشل سوتشي، وبالشكل الذي انتهى إليه، خسارة سياسية كبيرة على روسيا عندما عجزت عن ترجمة إنجازاتها العسكرية إلى محرز سياسي سعت له، ومن ثم فإن الأهداف اللاحقة التي تبتغيها في ملفات وساحات أخرى آلت إلى الفشل. وثمة عاملان أسهما بشكل كبير في إحباط الخطط الروسية، أولهما وأهمهما (اللاورقة) التي أعلنتها الدول الخمس من باريس عشية عقد المؤتمر، والتي تُشير بوضوح إلى أن أميركا، مع حلفائها، قد رفعت الإصبع في وجه روسيا في الوقت الملائم الذي اختارته، كما أن مقاطعتها وفرنسا لمؤتمر سوتشي سحبا عنه غطاءً شرعيًا مهمًا سعت له روسيا من خلال توجيهها الدعوة بصفة مراقب للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وثانيهما مقاطعة هيئة التفاوض المؤتمر مدعومة بغطاء دولي مهم وبرفض شعبي واسع له. والسؤال الذي يطرح نفسه عند هذا المنعطف يتعلق بالوجهة التي ستذهب إليها الأمور، هل ستشهد الساحة السورية تصعيدًا وتوسيعًا في جبهات القتال؟ أم أن الروس سوف يُنصتون لمنطق الواقع ويغادروا أوهامهم عن دور عالمي معترف به على حساب الدم السوري، ويتعاونون مع الآخرين في البحث عن حل لهذا الصراع الدامي وإيقافه؟ وهذا هو مضمون التكليف الذي حمَلته الدول الخمس لتيلرسون، مع التنويه بأن القصف الجنوني الذي ينفذه الطيران الروسي في أرياف إدلب، وفي سراقب على وجه التحديد، خاصة بعد إسقاط طائرة السوخوي ومقتل طيارها، لا يدخل في حسابات الصراع بين القوى المتدخلة، وإنما هو مجرد انتقام حاقد لفشل سوتشي لا أكثر.
ثالثًا: خاتمة
من المؤكد أن روسيا بعد مؤتمر سوتشي ستكون غيرها قبله، فقد تلقت درسًا قاسيًا بدأت تداعياته بالظهور، وأولها إقالة نائب وزير الخارجية، الأمر الذي ربما يطال مسؤولين آخرين. لكن لا يمكن التكهن بما سترسو عليه سياستها المقبلة في سورية، لأنه يصعب التكهن بتصرفات الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية التي هي على شاكلة النظام الروسي. لكن التقديرات تذهب إلى إمكان حدوث تغيير في السلوك الروسي قد يتبدى في البحث عن تفاهمات مع الأطراف الأخرى تساعد على خروج روسيا من الطريق المسدود الذي وصلت إليه، ذلك أن تحالفها التكتيكي مع كل من إيران وتركيا يمكن تصنيفه ضمن التحالفات العابرة التي لا يُركن إليها في الصراعات الكبرى، كما أن وضعها الداخلي واقتصادها لا يحتملان مواجهات مديدة.
لكن الأهم من كل ذلك ما يخص السوريين عامة، والمعارضة السورية على وجه الخصوص التي عليها أن تدرك أنها رقم صعب لا يمكن تجاوزه، وأن تثق بنفسها بدرجة أكبر وترسخ تجربتها بشكل أفضل، وبقدر ما تحافظ على أهداف الثورة تحوز على شرعية شعبية أكثر، وكلما مارست سياسة بناءة وثابتة، من دون خضوع للابتزاز، من داخلها أو من خارجها، كلما حازت على ثقة شعبها وفرضت نفسها بصورة أمثل.
عذراً التعليقات مغلقة