أعلن حزب الله، بعد تحفظه على الثورات العربية، عن مشاركته العسكرية في الحرب السورية إلى جانب الرئيس بشار الأسد تزامنًا مع حصاره لبلدة القصير السورية المحاذية للحدود اللبنانية في مايو/أيار 2013، وتعرَّض من حينها إلى اليوم لخسائر في الأرواح تربو على الألف بحسب أكثر الأعداد تحفظًا، وحقق، بحسب إعلامه، إنجازات في مواجهة من يسمِّيهم “بالتكفيريين” في عدة مناطق بسوريا، إلا أنه خسر موقعه كأحد حركات المقاومة وطنيًّا وعربيًّا ويغرق باطِّراد في حرب مذهبية ضد الأكثرية في الإقليم، ويبدو أن مساره هذا سيقوده إلى إعادة تعريف “الطائفة الشيعية” على أنها أقلية لبنانية مذهبية وليست جزءًا من الأكثرية المسلمة، كما انتهى إليه “اتفاق الطائف” الذي جعل السلطة مناصفة بين المسلمين (سُنَّة وشيعة) والمسيحيين.
ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن حزب الله كان يُعد حزبًا “مقاومًا” من قِبل شريحة عربية واسعة وحظي بدعمها، لأنه خاض حروبًا عدَّة ضد إسرائيل وكان برنامجه الأساسي يقوم على “مقاومة المحتل والتوافق الداخلي” كأولوية قصوى وفق ما كان يعلن ويؤكد، ما يشي بأن تدخله في الحرب السورية جاء في لحظة مبكرة لتتقدم فيه الأولوية الإقليمية أي مصالح المحور الإيراني على ما سواها. وهذا لا ينفي أن هناك تطورات أخرى استدعت من المحور الذي يتبع له الحزب، اتخاذ إجراءات إقليمية للحفاظ على مصالح سياسية بعضها -صغر أو كبر- يتصل بالشأن اللبناني أو يمس بمسؤولية الحزب عن “طائفته الشيعية”، وبالتالي تستحق (بحسب رؤية الحزب ومحوره) أن يبذل لها في سوريا ما بذل حتى اللحظة.
الأول: ويعتمد فيه التمييز بين الدول التي شهدت “حراكًا ثوريًّا” أو ما تُسمى دول “الربيع العربي”: فهناك دول تابعة لأميركا، وهي “النظام” المصري والتونسي واليمني والبحريني إضافة إلى الليبي “في آخر أيامه” بحسب وصف أمين حزب الله حسن نصر الله، وهناك أخرى وهي “النظام السوري” حصرًا الذي ينتمي لمحور المقاومة، وأنه الوحيد من بينها الذي يصحُّ “وصفه بأنه غير خاضع للنظام الأميركي”، وهو من دول الطوق “المواجهة لإسرائيل”، والمستهدَف من هذه الأخيرة لتحالفه مع إيران رأس “محور الممانعة”(1).
أمَّا على المستوى الثاني، فاعتمد التمييز بين مراحل الثورة، ورأى أن ما يجري في العالم العربي هو “حراك وطني حقيقي في كل بلد” ويعبِّر عن إرادة “شعبية وطنية ولم يكن مشروعًا أميركيًّا”، ولكنَّ أميركا “ركبت الموجة، وأظهرت دعمها لمطالب الناس تمهيدًا لحرف الثورة عن مسارها الطبيعي”، وكذلك بهدف تحسين صورتها وتخفيف خسائرها هناك، وليكون لها يد وشراكة في صياغة تلك الأنظمة على الأقل إذا لم تكن لها بالكامل(2).
اختلف حزب الله في المستوى الأول مع شريحة كبيرة من “جمهور المقاومة” عربيًّا، أي الجمهور المؤيد والداعم لمقاومة إسرائيل، فغالب هذا الجمهور لم يفرِّق بين أي من دول الربيع العربي وأنظمتها، بل أخذ تعاطفه وتأييده للثورة السورية على وجه الخصوص يتعاظم ويشتد كلما ازداد القمع والقتل(3). في حين اكتفت إيران من حليفها السوري الرئيس بشار الأسد بإصلاحات شكلية أو محدودة، ارتكزت عليها إعلاميًّا وسياسيًّا للقول بأن تحقيق التغيير جارٍ تحت سقف النظام، حتى إن أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، اعتبر في مقارنة “أذكت التحليل الطائفي” أن ما يجري في البحرين من قِبل النظام هو أشد مما يجري في سوريا(4).
1. استمرار الوجود الإيراني الفاعل في سوريا، لا بل إن شرعيته الواقعية تتعمَّق في مواجهة ما يُطلِق عليهم اسم “التكفيريين” و”الإرهابيين” ويقصد بذلك حتى اللحظة، وإلى حدٍّ ما، كلَّ فصائل المعارضة السورية المناوئة لحكم بشار الأسد؛ وهذا يعني تمدد النفوذ الإيراني لتصبح طهران مجاورة للبنان، وظهيرًا حقيقيًّا لحزب الله، باعتبار أن الخبراء والنخبة العسكرية الإيرانية بمتناول اليد وبأعداد لا يمكن للبنان أن يتحملها، في حين يسمح الظرف السوري والإقليمي وربما الدولي بمضاعفتها ولو إلى حين.
2. الاطمئنان إلى التواصل الجغرافي ولو بصعوبة، ما بين إيران ولبنان حيث دولة المركز لحزب الله، عبر العراق وسوريا، بعد خلق مساحات خالية من الديمغرافية السورية مع حدود لبنان خاصة تلك المحاذية لبيئته الطائفية، وهو ما يجعل الحزب واثقًا وآمنًا في مواجهته لكل محاولات “الاستئصال أو الحدِّ من النفوذ التي قد يتعرض لها”. وستُبنى على هذا الخط مصالح اقتصادية وثقافية ودينية وسياسية لصالح ازدهاره الأيديولوجي، وأهمها على الإطلاق أنها تضمن استمرار يده العليا لبنانيًّا كحزب مهيمِن ونافذ على كل الصعد وبدعم مطلق من طائفته.
3. تكريس دوره لبنانيًّا كمدافع عن حدود لبنان سواء في مواجهة “إسرائيل” أو مع “الجماعات المسلحة” السورية، وبسبب مواجهته لهذه الأخيرة حظي دوره باعتراف دولي ضمني خاصة من أميركا كأحد الأعمدة في مواجهة تمدد “الإرهاب” القادم من سوريا إلى لبنان. وساعده على تحقيق ذلك مسألتان: الأولى: الحرص الدولي على حماية لبنان من تداعيات الأزمة السورية، لأنها ترى فيه الملاذ الأخير للأقليات المسيحية وغير المسيحية في الشرق. لذا، قد تكون هذه الدول تغاضت عن التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، ربما لعدم استطاعتها منعه خاصة في البداية، لكن بالمقابل كانت حاسمة في عدم السماح لأي انعكاسات للأزمة السورية بالتأثير على الوضع اللبناني، خاصة في ما يتعلق بالشأن الأمني، وهو ما لا يزال قائمًا حتى اللحظة(12). أمَّا الثانية، فهي ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” في سوريا خاصة على الحدود مع لبنان، بوصفهما تنظيمين مصنَّفين متطرفيْن دوليًّا، فضلًا عمَّا طال لبنانَ من تفجيرات قامت بها مجموعات سورية مناوئة للحزب(13)، ليصبح بالنسبة للقوى الدولية القبول بدور الحزب في حماية الحدود مع سوريا ولو مرغمين لا غنى عنه ما لم يتغير المشهد القائم راهنًا.
1. إن عدد مقاتلي حزب الله بالجملة، خاصة أولئك الذين يعتمد عليهم، يُحصى بالآلاف، وأي خسارة في هؤلاء هي خسارة كبرى، خاصة وأن الحرب السورية هي جبهة مفتوحة الأجل، وليست كتلك التي كانت تُخاض ضد إسرائيل؛ حيث للمعارك فيها بداية ونهاية، خاصة منذ ما بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000. وبالطبع بحسب أكثر الإحصاءات تحفظًا زاد عدد قتلى حزب الله في سوريا على الألف؛ هذا فضلًا عن الجرحى والمعوقين(15)، وكلما امتد الخط الزمني للحرب فإن مؤشر قدرة حزب الله على الاستمرار فيها يتراجع، لأن ما تتطلبه الحرب السورية من مقاتلين وحجم نيران يفوق أحيانًا قدرات دول كبرى، فكيف بحزب محدود العدد كحزب الله! وليتفادى -ما استطاع- هذا المصير، يعتمد الحزب استراتيجية “النِّسبة والتناسب”(16)، وتقوم على اختيار أهم المناطق السورية بالنسبة للحزب والارتكاز فيها، لتحقيق أو حماية مصالح استراتيجية وبأعداد مناسبة للسيطرة عليها أو الثبات فيها وبخسائر يمكن احتمالها، إضافة إلى مشاركته بخبراء ونخب في القيادة والتوجيه لبعض المعارك التي يعتقد الحزب أنه يُحسنها.
2. إن أي إعادة قراءة لكل المكاسب التي قد تتحقق لحزب الله في سوريا توضح أنها لا تتلاءم مع الكُلفة التي يدفعها راهنًا وتلك التي سيدفعها مستقبلًا، فحجم الأغلبية السورية التي يخوض حربه على أرضها لن تفنى لا بالقتل ولا بالتهجير سواء كان يستهدف ذلك أم أن هذا ما أصابها نتيجة الحرب، ولا شيء يضمن استمرار تأييد بعضها له، لاسيما تلك التي لا تزال على تأييدها للرئيس الأسد وهي الأقل. كما أن أولئك الذين يعارضون الأسد هم في نهاية المطاف خصم استراتيجي ولأمد بعيد ضد حزب الله كما ضد سواه من الميليشيات خاصة تلك الأجنبية التي اقترفت ما اقترفته في حرب لا مبرر لها في دخولها أصلًا، وهو إرث كبير لن ينتهي حتى بزوال نظام الأسد، وسيعاني منه حزب الله وحلفاؤه لأمد طويل.
3. بخلاف ما كان عليه الوضع في مواجهة إسرائيل، يخوض حزب الله حربه في سوريا بلا حاضنة حقيقية ولا بيئة يمكن الجزم بأنها صديقة له، خاصة وأنه حزب عقائدي ديني يرتكز على “المذهب الشيعي الاثني عشري”، لا بل بدرجة أخص على “ولاية الفقيه”؛ وهو ما يكاد لا يتيسر إلا أقل القليل منه في الديمغرافية السورية. كما أن لعبة التحالف مع الأقليات كما جرت في لبنان يصعب تطبيقها في سوريا لوجود أكثرية حاسمة في هذا الأخير، فضلًا عن أن الأقليات السورية ليست واثقة من قدرة أي تغيير في الجغرافيا والديمغرافيا على حساب الأكثرية من الصمود طويلًا فقد ينهار هذا التغيير تحت وطأة وقائع جديدة على الأرض، بل إن بعض تلك الأقليات ربما لا يرغب ابتداء بتعريف نفسه إلا وطنيًّا وليس مذهبيًّا أو عِرقيًّا.
واستطاع الحزب الاستفادة بكفاءة من الإرث الذي صاغته المقاومة الفلسطينية في لبنان والمنطقة، ليؤكد أنه جزء من هذه السلسلة المقاوِمة لإسرائيل، وأن شرعيته تنبع من انتمائه لها والتزامه بها باعتبارها خيار الشعوب العربية والإسلامية جمعاء، وساعده على ذلك تموضع إيران في القضية الفلسطينية واختيار قيادتها آخر جمعة من رمضان لتكون يوم الوحدة الإسلامية ويوم القدس العالمي، وهي الاستراتيجية التي مكَّنت حزب الله من حيازة الشرعية التي يحتاجها ليكون جزءًا من ثقافة هذه المنطقة قبل جغرافيتها، وجزءًا من مقاومتها “للاحتلال الإسرائيلي” في المنطقة العربية.
ولكن مع الانخراط في الحرب السورية تغير جوهر هذه الشرعية، لتصبح المقاومة شأنًا طائفيًّا ولا يملك للحثِّ عليها إلا الخطاب المذهبي من قبيل شعار “لن تُسبى زينب مرتين” وما إلى ذلك مما يتصل بتصورات تاريخية قائمة على صراع مذهبي، ولتنقل النزاعات إلى داخل العالم الإسلامي والعربي بعد أن كانت للدفاع عنه.
إن هذا التحول الذي طرأ على المحور الذي ينتمي إليه حزب الله وتقوده إيران رغم إصراره على “عنوان المقاومة”، أغرقه في أعمال قتل جماعية وتهجير سكاني واسع على أساس مذهبي في سوريا والعراق، وهو إرث على الصعيد الأخلاقي سيلازم حزبَ الله على الدوام لاسيما أنه في بيئة عربية يغلب عليها “الطابع السُّني”. والأنكى أن حزب الله على شراكة مباشرة بالهدف السياسي الذي يحظى بالأولوية من هذه العملية في سوريا بالتحديد؛ حيث يقوم المحور الإيراني-السوري وفق أحد الاحتمالات المرجوة، بإعادة هندسة للديمغرافية السورية ليربط بين “الدولة المفيدة” التي سيغلب عليها الطابع العلوي كما هو مفترض، بقرى وبلدات شيعية محصنة على الحدود اللبنانية، ما يتطلب تهجيرًا سكانيًّا ما لتجسير الفجوة ما بين الإقليمين الجغرافيين.
مراجع
(3) حتى إن علاقة حزب الله ساءت مع حركة حماس على خلفية الموقف من سوريا على وجه التحديد، حيث رفضت الأخيرة تأييد الأسد وأعلنت عن تأييدها خيارات الشعوب، وإن كانت حريصة على عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية.
عذراً التعليقات مغلقة