لا تبدو مصائر شباب الثورة السورية والفاعلين فيها منفصلة عن مصيرها. هناك نهايات مؤلمة كثيرة تجول في أنحاء سورية؛ يغتالُ النظام الناشطين في شوارع المدن وفي المعتقلات، ويعبر الموت الحدود كلها، ليصل إلى مستقرات الهاربين من الموت والاعتقال، ليموتوا قهراً وكمداً، مصابين بأقسى الأمراض وأفظعها.
حيوات كثيرة نمت على آمال الحرية، وحين جاءت ساعة الظفر بها، تبدّى المشهد عن خدع كبرى، نصبتها بعض الأنظمة العربية، ومعها الدول “الديمقراطية”، للسوريين، ولغيرهم من الشعوب الثائرة، حين أيدت الثورات في العلن، وعملت ضدها سرا، لينجلي الغبار عن مصائر قُرّرت لهم في الغرف المغلقة تقول؛ عليكم أن تبقوا محكومين بالنظام المافيوي الذي يؤدي دوره الوظيفي، في خدمة مصالح الجميع سواكم!
لم يتدخل العالم لمساندة الثائرين في الشوارع، بل تركهم يُقتلون أمام عدسات الكاميرات، في مشاهد بثت على الهواء مباشرة، ولم يبادر لفعل شيء من أجل منع النظام من تنفيذ الإبادة الجماعية المستمرّة، وعمليات التهجير القسري.
وتحت نظر العالم وسمعه، رأى الجميع نمو المنظمات السلفية الجهادية، وتحولها من مجاميع صغيرة إلى جيوش كبيرة، تتبادل مع النظام الأدوار في قتل الثورة وتدمير مظاهرها، واعتقال ناشطيها واخفائهم، وطردهم من سورية أيضاً. وبكل يسرٍ وقبولٍ وتوافقٍ بين الأطراف جميعها، قرّر العالم أن الثورة السورية سلفية، وكأنه بذلك يبعد المسؤولية عن نفسه، بخصوص ما جرى طوال سنتين منذ بداية الثورة في 2011 وحتى تاريخ مذبحة السلاح الكيماوي في نهاية شهر أغسطس/ آب 2013. تُرك السوريون لمصيرهم منذ البداية، وهذا ما كان يجهله ناشطو الثورة، الحالمون بصناعة مستقبل أفضل لبلادهم التي استباحها الطغاة بكل ما تحمله سياساتهم من تخلف وتأخر وتجهيل!
“اغتيال حلم الثورة”، تصلح هذه العبارة لتكون عنواناً لفيلم يروي التفاصيل الخاصة بحيوات الناشطين الثوريين ومصائرهم، حيث يمكن لصناعه أن يؤسسوا لسردياته، عبر استعادة الحمولة الفكرية والسياسية لكل المفكرين العرب الذين ناقشوا وعالجوا في دراساتهم وضع المنطقة في ظل حكم الديكتاتوريات، إذ لا يمكن فصل توجه الشباب إلى خيار الثورة من دون أن تتم رؤية هذا التأسيس الذي كان يقارن وضع البلدان العربية المتخلفة بالنموذج الغربي، أي الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وكندا وغيرها، وأيضاً لا يمكن أن يتم تجاهل تأثير الثورات المعرفية والتقنية التي أسست لآلياتٍ وعلاقاتٍ تواصلية بين الافراد والمجتمعات.
“هل أمكن للدول التي تنادي بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، أن تتركَ الشعب السوري هكذا”؟ يطرح ناشط السؤال، محاولاً التفكير بالأسباب الموجبة لولادة التطرّف. هنا سيركز صنّاع الفيلم على فكرة تقول إن الثورات التي حدثت في المنطقة لم تكن مبنيةً على أفكار طوباوية، بل كانت تنهض من خلال وجود النموذج، فالديمقراطية وتداول الحكم ليسا فكرتين خياليتين، بل تتم تطبيقاتهما في كل البلدان الديمقراطية. ولهذا، كان شباب الثورة يعيشون حلمهم ضمن منطق الواقع نفسه، فحين يرحب الغرب بالثورة التونسية، وبعدها الثورات المصرية والليبية واليمنية، لا يمكن لأحد أن يعتقد أن الحالة السورية ستكون مختلفة، وأن الأثمان هنا ستكون كل هذا الجحفل الدموي من التفاصيل! وبالتأكيد، حين تلعب سياسات الدول الإقليمية والدول الكبرى على الفراغ الحاصل بين وقائع الموت السوري اليومي وما يجب فعله لإيقاف المذبحة، ويجد السوري نفسه وحيداً وأعزل، فإن من المثير للسخرية أن يأتي أحد ليسأل: كيف تنامت داعش وأخواتها.
لم تعد تلاوين التعبير عن الخسارة مهمة، فقول أحد الثائرين؛ هذه ليست ثورتي. أو قول شاعر سوري؛ ليتها لم تكن. وكذلك قول أحد ما لقد قتلت الثورة، أو لقد انتهت الثورة. لا تنطلق كل هذه التعابير من عقيدة الإنكار، ولا تذهب إلى عتبة رفض الثورة، بل كلها تبدأ منها ذاتها، لا بل تتنكب حلمها، وتعيش التباين بين ضرورة وجودها وواقع هزيمتها، أو على الأقل تأخر انتصارها، وتحوله من الولادة اليسيرة إلى مخاضٍ طويل، مترعٍ بالآلام والدماء.
إنها، وقبل أي دخول في التفاصيل، كناية عن شعور عالٍ بالخسارة. لقد خدع العالم ناشطي الثورة، وشتّتهم بعد أن دمر أحلامهم، فصار شريكاً في قتلهم، وفي قتل الثورة نفسها. كان من الممكن إنهاء كل ما يجري منذ البداية. ولكن، لم يتم فعل أي شيء، فصار المشهد الذي بدأ بالموت ينتهي بالموت أيضاً. جرى الموت الأول في الوطن في مظاهرات الحرية وأعراسها، وفي معتقلات الطاغية وأقبيته، بينما يقع الموت الثاني في المنافي البعيدة بصمتٍ وألمٍ عميقين.
عذراً التعليقات مغلقة