مع سيطرة هيئة تحرير الشام على معبر باب الهوى الحدودي بين سوريا وتركيا، وتحجيم دور حركة أحرار الشام الإسلامية، اعتبر الكثير من المحللين والكتاب أن إدلب قد انتهى أمرها، وبدأ ترقب موعد الضربة العسكرية عليها. وسرعان ما لونتها وسائل الإعلام ومراكز أبحاث ودراسات باللون الأسود بدلا من الأخضر على الخرائط التي ترافق التقارير والمنشورات، في إشارة إلى سيطرة جبهة «النصرة» عليها عوضاً عن اعتبارها «منطقة محررة». وذهب آخرون إلى رسم سيناريوهات كثيرة لعملية «حرق إدلب» المرتقبة وتدميرها، بعد أن شاء تشبيهها بـ«تورا بورا» الأفغانية، حيث تحصن مقاتلو حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن، وشُنت ضدها أحد أكبر الهجمات المشتركة بين القوات الأمريكية والبريطانية والألمانية، وكذلك القوات الأفغانية المدعومة من تلك الدول، واستمرت العملية سنتين متواصلتين حتى انتهت عام 2002.
اليوم، وبعد نحو شهر من سيطرة «هيئة تحرير الشام» على غالبية مناطق محافظة إدلب، لم تتخذ أي من الدول الداعمة موقفاً واضحاً وصريحاً بشأن وقف أو استمرار دعمها الإنساني لتلك المناطق، إنما عكفت على إعادة تقييم الوضع الميداني وبناء استراتيجية للمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني في الأماكن التي لا تسيطر عليها «جبهة النصرة». وترافقت حركة إعادة التقييم مع نية لعزل أو استثناء المجالس المحلية الواقعة في أماكن السيطرة المباشر للتنظيم، أو التي استطاع فرض عناصر منتسبين إليه في عضوية بعض المجالس. وهو ما حذر منه المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، مايكل راتني، في البيان الذي أصدره في 2 آب (أغسطس)، وحديثه عن «خطة جبهة النصرة بالاختباء وراء إدارة مدنية». وكان راتني قد وصف محاولات النصرة التسلل إلى المجالس أنها «أساليب مراوغة مكشوفة وعقيمة هدفها الأول الالتفاف على التصنيف». وأضاف أن أمريكا لن تتعامل مع أي «واجهة يتم انشاؤها للتغطية على جبهة النصرة وسنعتبرها ملحقاً لمنظمة إرهابية وامتداداً لعصابة الجولاني».
التطورات العسكرية في إدلب ربطت سيناريوهات التعامل مع الواقع الجديد بين القضيتين العسكرية والإنسانية، ويمكن القول إن التوجه بخصوص إدلب سيُختصر بثلاثة سيناريوهات للمعالجة في المستقبل القريب:
أولها: قطع المساعدات بشكل نهائي عن محافظة إدلب وجوارها من مناطق ريف حلب الغربي شرقي اللاذقية، وريف حماة الشمالي. ويفترض مؤيدو هذا الطرح أن حرمان البيئات المحلية والأهالي من الدعم الخارجي الإنساني الذي يتلقونه سيدفعهم إلى الغضب على النصرة والاحتجاج ضدها، على اعتبار أنها سبب جوعهم.
ثانيا: ترك إدلب لمصيرها بحيث تدخل الفصائل في احتراب طويل يستنزف كافة الأطراف فيها، وهو ما قد يسهل إمكانية الحسم العسكري ضد المعارضة، وقد يدفعها إلى الرضوخ لمطالب الدول في التسوية السياسية.
ثالثا: قصف دولي واسع النطاق على كامل محافظة إدلب مع المعرفة المسبقة باحتمال سقوط مدنيين يُعرفون دولياً بـ«الأضرار الجانبية». ومن شأن هذا الاحتمال أن يقوض قوة النصرة الضاربة، تحضيراً لعمل عسكري كبير يجري بالاتفاق بين روسيا وتركيا وأمريكا.
وبالنظر للمقترحات الثلاثة التي بدأ تداولها والبحث في نتائج كل منها، يمكن القول إن أيا منها لن يكون ذا جدوى إذا ما طبق منفرداً. فإمكانية حسم عسكري في إدلب غير ممكنة الآن بسبب انشغال القوتين الرئيسيتين، أي أمريكا وروسيا، بمناطق نزاع أخرى تعتبر أكثر أولوية. فواشنطن تركز جهدها على معركة «تحرير الرقة» والتحضير لمعركة دير الزور، التي من المتوقع أن تنطلق ابتداءً من منطقة الشدادي جنوب الحسكة، باتجاه الكسرة على ضفة نهر الفرات اليسرى. في المقابل، تصب موسكو جهدها على إنفاذ مناطق خفض التصعيد في الغوطة وريف حمص الشمالي وجنوب غرب سوريا، وتدعم عسكريا قوات النظام للسيطرة على السخنة وتأمين بادية السلمية وحقول النفط شمال تدمر في ريف حمص الشرقي، وذلك فضلاً عن معركة الوصول إلى دير الزور انطلاقا من محافظة الرقة غرباً.
حل مشكلة «النصرة» معقد للغاية، وازداد تعقيداً مع رجوعها خطوة إلى الوراء بعد سيطرتها على معبر «باب الهوى» ونيتها تشكيل «إدارة مدنية» تضم كل الفاعلين المحليين والفصائل والهيئات الشرعية، وفتح أبواب تواصل مع بعض العشائر في ريفي معرة النعمان الشرقي وابو الظهور، واختراعها مجالس شورى مقربة منها بهدف فرضها كرقيب على المجالس المحلية في مناورة لعدم وقف الدعم الدولي المقدم لتلك المناطق. فهي بذلك تحاول بسط سيطرتها على المحاكم الشرعية التي انتزعتها من سلطة «أحرار الشام» بحيث تصبح تلك المحاكم المرجعية الأولى للإدارات المدنية كالمجالس المحلية وغيرها.
وإلى ذلك، فإن تفكيك سيطرة «النصرة» وتحديد نفوذها يحتاج إلى استراتيجية كاملة لا تقتصر على عمليات عسكرية، وإنما بحاجة إلى توازٍ مع تشجيع المكونات الأهلية ودعم منظمات المجتمع المحلي في وجه تغول التنظيم الكبير. فإذا كان الحديث كثر مؤخراً عن «بيئة حاضنة» للنصرة، إلا أن «الحاضنة الثورية» الرافضة للتنظيم جملة وتفصيلاً لا تزال فاعلة في عدة مناطق ومدن في إدلب، مثل معرة النعمان والأتارب وسراقب وجرجناز وحزانو وكللي وحزارين وخان شيخون ومرعيان. فبالإضافة إلى مقاومة النصرة عسكرياً، التي شهدتها عدة مناطق كتلك الخاضعة لسيطرة حركة نور الدين الزنكي وسرجة في جبل الزاوية ومعقل قبيلة الموالي شرق معرة النعمان ومناطق سهل الغاب الذي تسيطر عليه حركة «أحرار الشام» الإسلامية، جرت أيضاً مقاومة شعبية في عدة مناطق ومبادرات مدنية لصد النصرة كمثل انتخابات سراقب التي يمكن البناء عليها. أما تكتيك تجويع المدنيين وقطع الدعم عنهم، ومن ضمنهم «الحاضنة الثورية» تلك، فإنه يهدد فعلياً بخيبة أمل عارمة واستكانة لسلطة الأمر الواقع، سيما في منطقة غنية وزراعية مثل إدلب تملك مقومات صمود، وقد تحتاج زمناً قبل الشعور بالضغط الفعلي.
وبالنظر إلى تجارب القضاء على تنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» بشكل عسكري محض، فإن النتائج جاءت كارثية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أسفر عن تدمير أحياء كبيرة في الموصل، ثاني مدن العراق. ويعاد اليوم في معركة طرد التنظيم من عاصمة خلافته في الرقة، حيث أدى القصف الجوي إلى مقتل أكثر من ألف مدني حتى كتابة هذا المقال، ولم تتمكن «قوات سوريا الديمقراطية» من السيطرة على نصف المدينة حتى اللحظة.
لذا فإن القضاء على جبهة النصرة بالحل العسكري وحده ليس ناجعاً، إذ ليس من شأنه القضاء عليها وإنما مجرد طردها من مكان حوصرت فيه، وإعادة فتح الباب أمامها للانتقال إلى مكان آخر.
عذراً التعليقات مغلقة