منذ إنشائها دخلت الجماعات العسكرية «الإسلامية»، أي التي تتغطّى بالإسلام، أو تعتبره بمثابة مرجعية لها، بحسب فهمها الضيق له، في عمليات متواصلة من التنافس والإزاحة والاقتتال في ما بينها، ما أضرّ بها وبصدقية الثورة السورية وبالسوريين عموماً، كما بصورتهم عن أنفسهم وإزاء العالم.
هكذا سقطت مناطق القصير والزبداني وكثير من مناطق القلمون والغوطة وريف دمشق ودرعا وإدلب وحلب، بسبب اقتتال الجماعات العسكرية الإسلامية في ما بينها، وبسبب خذلانها لبعضها في مواجهة «داعش» أو «النصرة» (الانسحابات الفجائية)، وهذا الأمر ما زال قائماً، على الأرجح، رغم كل المآسي والأهوال التي خبرها السوريون، وعلى رغم كل التراجعات التي منيت بها ثورتهم، على الصعيدين السياسي والعسكري.
هذا ما يحدث في الغوطة (في ضاحية دمشق الشرقية)، هذه الأيام (ومنذ نيسان/ابريل 2016)، حيث الاقتتال بين «أخوة المنهج»، أي «جيش الإسلام» و «فيلق الرحمن» و «أحرار الشام»، وأيضاً بين كل واحد من هذه الجماعات و «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً)، مع مئات من الضحايا، على رغم أن النظام يستهدف هذه المنطقة بالقصف وباحتمالات السيطرة عليها، ما يذكر بسقوط حلب (أواخر العام الماضي) بيد النظام، في خضم اقتتال الفصائل العسكرية في ما بينها.
وقد يجدر لفت الانتباه إلى أن الحديث هنا يقتصر فقط على الجماعات التي حسبت نفسها على الثورة السورية، ما يستثني «داعش» و «جبهة النصرة»، لأن هذين لهما حديث آخر، بحكم أجنداتهما المختلفة، وعدم احتسابهما على الثورة، ومناهضتهما من الأساس وفي شكل صريح وحاسم لأجندتها، وتعمدهما منذ البداية استهداف «الجيش الحر» وجماعات المعارضة العسكرية الأخرى بكل تلاوينها.
وفي الحقيقة فإن الجماعات العسكرية الإسلامية، أو معظمها، كانت نأت بنفسها عن المعارضة السياسة، كما شهدنا، إذ لم تنضوِ في أي من كياناتها الجمعية المعروفة، وفضّلت الإبقاء على استقلاليتها، أو على حالتها الخاصة، لا سيما مواردها المالية والتسليحية، بما في ذلك تحكّمها بطريقة أحادية وقسرية بالمناطق التي تخضع لسيطرتها، هذا أولاً.
ثانياً، لقد تعمّدت هذه الجماعات النأي بنفسها عن المقاصد الأساسية التي اندلعت من أجلها الثورة السورية، والمتلخّصة بالطلب على الحرية والكرامة والمواطنة، وإقامة دولة مؤسسات وقانون، مدنية وديموقراطية، ما يكفل الحؤول دون إعادة نظام الاستبداد بأية صورة أو ذريعة كانت، بل إن بعض هذه الجماعات كان غاية في الصراحة في شأن معاداته للديموقراطية ورغبته بفرض تصوراته عن الدين والدنيا على السوريين، بطريقة قسرية، الأمر الذي طبع الثورة بطابع ديني وطائفي أفاد النظام.
ثالثاً، كأن واضحاً منذ البداية، أيضاً، أن كل جماعة من هذه الجماعات مرتهنة تماماً للجهة التي تدعمها، بدل الارتهان لمصالح السوريين وحقوقهم وتطلعاتهم، يفاقم من ذلك أن الحديث يدور عن أنظمة متعددة ومختلفة في السياسات والأولويات، والمشكلة الأكبر أن ذلك الانصياع لإرادات هذه النظم على الصعيدين السياسي والعسكري، أي حتى الخطوات العسكرية كانت تبدو وكأنها استجابة لإملاءات خارجية ما أو مرتهنة بها.
يستنتج من كل ما تقدم أن هذه الجماعات شكلت نوعاً من حالة انشقاقية في الثورة والمجتمع السوريين، وأنها بدل أن تقوي المجتمع السوري إزاء النظام ساهمت في إضعافه، بمساهماتها، عن قصد أو من دونه، في تصديعها وحدته المجتمعية، وتقويضها اجماعاته السياسية، وطريقتها التعسفية في الهيمنة عليه، وتبديد طاقاته في معارك عسكرية بدت في معظمها، بالنهج الذي خيضت به، فوق قدرته على التحمل.
وقد يجدر الحديث هنا، للتحديد ومنعاً للالتباس، عن ثلاثة استدراكات في التعاطي مع نشوء الظاهرة المسلحة في سورية، أولها، أن النظام هو المسؤول عن التحول من الصراع السياسي إلى الصراع العسكري، لأنه المسؤول عن انسداد التطور في هذا البلد، وحرمان مواطنيه من الحقوق، ثم باستخدامه الجيش منذ البداية ضد شعبه، وبإدخاله إيران وميلشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية (وبعدها روسيا) في الحرب ضد السوريين. وثانيها، أن الموقف من هذه الجماعات لا يصدر بسبب خلفيتها الإسلامية، وإنما بسبب استخدامها الدين في صراع سياسي، وتحويله إلى صراع أيديولوجي/ ديني وطائفي، وبسبب فهمها المتزمّت والمتطرف والضيق للإسلام، ومحاولاتها فرض تصوراتها عن الدين على مجتمع السوريين، وأولهم «السنّة»، ما يفترض التمييز بين هذه الجماعات وتيار الإسلام السياسي المدني والمعتدل، والذي يعطي الأولوية للصراع السياسي وللحالة الوطنية السورية.
وثالثها، أنه ينبغي التمييز، أيضاً، بين هذه الجماعات العسكرية التي لم تأتِ كنتيجة للحراكات في التيارات السياسية والمدنية الإسلامية في سورية (الإخوان أو الجماعات الدعوية والصوفية)، والتي لم تنم بسبب التطورات في الصراع المسلح، بقدر ما هي أتت ونمت أساساً بفضل الدعم المالي والتسليحي والتوظيف الخارجي، هذا من جهة، وبين الظاهرة المسلحة التي تنضوي في إطار جماعات «الجيش الحر»، أو الجماعات المناطقية التي ظهرت للدفاع عن النفس، من جهة أخرى، لأن هذه الجماعات نشأت في شكل طبيعي ووفقاً لقدراتها الذاتية، وكرد فعل على لجوء النظام للصراع المسلح، وهي التي تمت إزاحتها من الجماعات الأولى، ومن جبهة «النصرة» أيضاً.
وبصراحة فإن الموقف من هذه الجماعات إذاً ينبع من منهجها في التفكير وطريقتها في العمل ونمط إدارتها لسلطتها، إذ إنها لم تنجح ولا على أي صعيد، حتى على صعيد خطاباتها فقد بدت متزمتة ومتشددة وغريبة عن الإسلام الشعبي، الوسطي، المعتدل والمرن، للسوريين. وهي لم تنجح في إدارتها للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، أي «المناطق المحررة»، لأنها إدارتْها لها أتت بطريقة تسلطية وعشوائية ومصلحية. كما لم تنجح في صوغ استراتيجية عسكرية لمواجهة النظام، باعتمادها طريقة احتلال أو تحرير مناطق، من دون أن تكون لديها القدرة على حمايتها، أو تأمين المواد الضرورية لها، أو حتى إدارتها بطريقة ناجعة، تجعل منها نموذجاً لسورية المستقبل. وبالنتيجة فإن تلك المناطق بدت مناطقَ محاصرة تفتقد للمواد الأولية للعيش، وحقلَ رماية لصواريخ النظام وبراميله المتفجرة، وبيئات يهجرها قاطنوها، أو طاردة لسكانها، ما ولّد مشكلة اللاجئين السوريين، ما أثقل على الثورة وجلب كوارث ومآسي غير مسبوقة، من دون أن تفعل هذه الجماعات شيئاً لتدارك ما يحصل.
إضافة إلى كل ذلك فإن هذه الجماعات لم تكن فقط بمثابة ظاهرة انشقاقية في الثورة السورية بأخذها إياها من البعد الوطني إلى البعد الطائفي، ومن البعد السياسي إلى البعد الديني، وإنما كانت بمثابة ظاهرة أدت إلى تقويض ثقة مكونات الشعب السوري ببعضها بعضاً، بتعددها وتنوعها، فضلاً أن أكبر ضرر وقع من هذه الجماعات العسكرية كان على «السنّة»، أي على الجماعة التي يدّعون حمايتها أو تمثيلها، رغماً عنها.
وفوق كل ذلك فإن كل جماعة عسكرية وجدت نفسها في مواجهة جماعة أخرى، بحيث بتنا إزاء وضع يقوم فيه «إسلاميون» بقتل «إسلاميين»، أي أن تنكيل جماعة إسلامية ما بغيرها لم يقتصر على من يخالفها من الجماعات السياسية الوطنية، إذ شمل ذلك الجماعات الإسلامية المتماثلة معها، ما يعني أن لا علاقة للإسلام بهذه الصراعات، التي هي بمنزلة صراع على السياسة والسلطة والمكانة والموارد من جهة، وجزء من صراعات الأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، على النفوذ في سورية المستقبل.
بالنتيجة، فإن اقتتال هذه الجماعات يدمر ما تبقى من فكرة الثورة السورية النبيلة والمشروعة، ويقوض فكرة الوطنية السورية، ويفاقم ما يعانيه مجتمع السوريين في «المناطق المحررة»، ويقدمها لقمة سائغة للنظام، في وقت يعيش فيه واحدة من أصعب لحظاته الدولية والإقليمية، لا سيّما مع بدء العدّ العكسي لتحجيم إيران، ومع القرار ببدء التحول نحو حلّ انتقالي فعلي في سورية.
هكذا يقتتل من حسبوا أنفسهم يوماً «إخوة المنهج»، وظنوا أنهم تمكنوا من فرض ذاتهم على سورية وعلى مجتمع السوريين، في حين أنهم ساهموا في خدمة النظام، وفي الإضرار بسورية وبمجتمعها وبثورتها، وبالتيارات الإسلامية المدنية المعتدلة أيضاً.
طبعاً، تتحمل بعض القوى والتيارات والشخصيات الوطنية والديموقراطية مسؤولية كبيرة في وصول الحال إلى هذا الدرك، أولاً، بمحاباتها هذه الجماعات، بدل نقدها وترشيدها أو الحد من تأثيراتها، لا سيما محاباة نهجها في العمل المسلح. وثانياً، بالسكوت عن كونها تمثل انشقاقاً في الثورة السورية، بتحويلها من الخطاب الوطني الديموقراطي إلى الخطاب الديني الطائفي المتطرف. وثالثاً، بعدم فضح ارتهانها للأطراف الخارجية. ورابعاً، بعدم انتباهها إلى الأخطار الناجمة عن طبع الثورة السورية بطابع هذه الجماعات. وخامساً، بعدم مبادرتها لتشكيل البديل المناسب، في إقامة كيان أو كيانات وطنية فاعلة تمثل الثورة السورية حق التمثيل.
عذراً التعليقات مغلقة