* أكرم البني
«شعرت بالاختناق وكأن روحي تنتزع مني ما إن وصلت حافلات الترحيل. كنت على يقين بأنه لن يتسنى لي رؤية حي القابون الدمشقي مرة أخرى، حاولت الانشغال بمساعدة الأطفال على صعود الحافلة كي أشيح نظري عما يجري في تلك اللحظة المؤلمة، فأنا لا أريد أن يطغى ذلك المشهد المذل على صور ومحطات عشتها، في المكان ذاته، طيلة سنوات من العنف والحصار.
هنا، قرب المسجد الكبير، دمرت البراميل المتفجرة بيوتاً عدة كان أحدها بيتي، لم تتسنّ لي المساهمة في رفع الأنقاض ورؤية جثماني زوجتي وطفلي قبل دفنهما، كنت أشارك في كسر هجوم شرس حاول اختراق مشارف الحي الغربية… هناك خلف ورشة صيانة السيارات، خسرت ثلاثة من رفاق الطفولة حاولوا التسلل لاستلام بعض الأدوية والمصول الطبية من مسعفي حي حرستا المجاور. هذا بينما تمتد، بالقرب من تلك الحافلات اللعينة، مقبرة الحي الشهيرة، التي لم تكن فقط ساحة لانطلاق التظاهرات وتشييع الشهداء، وإنما أيضاً «سلة غذاء» أعانت أعشابها ونباتاتها العشوائية الوفيرة أهل الحي على مقاومة جوع الحصار الجائر. وخلفها ثمة ما كان يعرف بسوق الخضار الذي صار أثراً بعد عين، بفعل إغراقه بالبراميل المتفجرة بذريعة تحوله إلى مستشفى ميداني. وبينهما يقع منزل حلاق الحي الشجاع الذي صار مركزاً للتواصل مع التنسيقيات المجاورة، وتوزيع المهمات ومواد التموين وصياغة الشعارات وحتى التدريب على استخدام السلاح.
كانت قائمة الحافلة الأولى تضم عشرين مقاتلاً مع من تبقى من أسرهم إضافة إلى أهالي بعض الشهداء. لم يكن ثمة جدوى، بالنسبة إلينا كمجموعة لا تزال أمينة لشعارات الثورة، من رفضنا الاتفاق الذي سمي زوراً «مصالحة» وتحديداً اشتراطه ترحيل المقاتلين إلى مدينة إدلب. لم ينفعنا شحن النفوس بنجاحنا، غير مرة، في هزيمة قوات النظام وميليشياته، وبأخطار توطين موالين لإيران في بيوتنا، فالطاغي إحساس بعبث استمرار الصمود الذي بات يشبه الانتحار بعد ما أحدثه التدخل العسكري الروسي من تبدلات، والأهم بعد تنفيذ اتفاقات مماثلة في برزة والتل والمعضمية وداريا. زاد الطين بلة الترويج «لرؤية» تبارك الاتفاق راودت أمير إحدى الجماعات الاسلاموية، مدعومة بكلمات ديماغوجية للمفتي الشرعي تعتبر ما حصل نصراً مبيناً لجند الله، وهزيمة منكرة لنظام كافر أرغم على قبول خروج المقاتلين بكامل أسلحتهم!
نظرت بازدراء إلى بندقيتي وتذكرت نادماً يوم حملتها أول مرة، قبلها كان ثمة إصرار عام على سلمية الثورة، كنا نسارع لتسليم ما تتركه أجهزة الأمن من بنادق رشاشة في زوايا الطرقات إلى مخفر الشرطة، ساخرين من محاولاتهم إغراءنا، لكن الأمور تطورت بسرعة عندما أطلقت قوات الأمن وفي شكل سافر ومقصود، الرصاص القاتل على تجمع مسالم سقط إثره العشرات من الأبرياء بين قتيل وجريح.
لم لا نحمي أنفسنا؟ بدأ السؤال يطرح بصوت خافت، لكن قوته وجهوريته ازدادتا طرداً مع تصاعد العنف السلطوي واستفزازاته الطائفية، ليلقى الاستحسان والتشجيع. الشروع بتشكيل مجموعات مسلحة تحت عنوان حماية الحشود المدنية والمتظاهرين، ومن هذه الخطوة بدأت سلمية الثورة تتراجع ومظاهر العسكرة تتنامى، ولم يلبث الأمر أن خرج عن السيطرة نحو مناوشات مع رجال الأمن وبعض حواجز النظام، ثم معارك تنازع السيطرة على المناطق والمدن.
هل كان في الإمكان أن نحافظ على سلمية الثورة أمام عنف منفلت للنظام ودموية واستفزاز لم يعرفا حدوداً؟! وأنّى لنا ردع متطرفين جهاديين ديدنهم الإرهاب، أطلقهم النظام مراهناً على نهجهم في قيادة الحراك الشعبي نحو العنف؟ وكيف نواجه كمحتاجين ومعوزين، إغراء المال وقنوات التمويل التي تنطحت لتغطية تكاليف استجرار السلاح وحاجات أسر الشهداء والمقاتلين والجرحى؟
تبدلت أسئلة الماضي ما إن تجاوزت الحافلات العاصمة وبدأت تشق طريقها نحو الشمال، لتتواتر الأسئلة المتعلقة بالمستقبل: كيف سأبقى وفياً لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحرية والكرامة؟ أين سأقف من الصراعات الدموية بين الفصائل؟ هل ثمة فرصة لمناهضة فكر «هيئة فتح الشام» وكيف سيتسنى لي العمل وفق قناعاتي وأنا بين ظهرانيهم؟ هل سأكون هدفاً لممارساتهم القمعية المقززة وربما للاغتيال، وهم الذين لم يوفروا قتلاً أهم رموز العمل الوطني وقادة من الجيش الحر؟
استبعدت من تفكيري خيار السفر خارج البلاد، مثلما استبعدت الالتحاق بقوات سورية الديموقراطية التي لي عليها مآخذ كثيرة. تذكرت كيف تجاوزنا الصعوبات التي اعترضتنا قبل النجاح في تنظيم شؤون حي القابون وتأمين أمنه ومستلزمات حياة الناس، حتى صار مضرب مثل، ليس فقط كآخر حي حمل السلاح وعقد «مصالحة» بل كأحد الأحياء القليلة التي لم يغادره إلا القلة من أبنائه، وقد تمكنت الإدارة المدنية طمأنة قاطنيه وتشجيعهم على البقاء.
وتذكرت إرهاب النظام وأجهزته الأمنية عندما وصلنا الى حاجز «هيئة فتح الشام». ران صمت رهيب على الركاب جميعاً، صمت يفيض بالهلع، بانتظار ما قد تسفر عنه المداولات مع سائقي الحافلات. أراحنا سماع ضحكات خافتة وربما مستهزئة، قبل أن يصعد أحد الملثمين ليدقق في الوجوه.
ساعة كاملة قضيناها على الحاجز قبل أن يسمح لنا بالمرور، ساعة رأينا فيها حياتنا البائسة كشريط يختنق بآمالنا وآلامنا وفشلنا، شريط يختصر ربما كل شيء، كل ما مررّنا به من مرّ وعلقم وحزن وفجيعة وغضب وقهر.
في ساحة معرة النعمان، سمعت صوتاً يناديني تشوبه بحة أعرفها، هو أحد رفاق الحي، أصيب منذ سنة ونقل إلى الشمال للمعالجة، سارع لاحتضاني، ولم أعرف لم اندفعت فوراً للحديث عما مررنا به من حصار وألم ومرض وشقاء. اعترفت بتلقائية الأطفال وصراحتهم بأخطائنا ومثالبنا، بدوت كمن يريد إفراغ كل ما يعتمل في صدره، قبل أن يقاطعني وينبهني لوصولنا إلى حيث سأقيم موقتاً، كي يسارع في العودة لاستقبال مهجرين آخرين».
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة