مضى أقل من شهرين من عمر حكومة تصريف الأعمال في دمشق التي تشكّلت بعد إسقاط النظام السوري. كانت المدّة كفيلةً بإحداث انقسام كبير بين المكوّنات السورية على اختلاف ألوانها، وانتماءاتها، فساد الانقسام بين منتقد القرارات والسلوكات الصادرة من الحكومة ومؤيدٍ لها، وما بينهما فئة سورية التزمت الصمت، واكتفت بدور المراقب ريثما تنتهي المدّة للحكومة الحالية، وقد حدّد نهايتها قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في مارس/ آذار المقبل.
حينما شكّل الشرع حكومته الحالية وبدأ في تعيين الوزراء على أساس الولاءات لا الكفاءات، كان السوريون في أجواء احتفالية، يعبّرون عن فرحتهم بإسقاط النظام، وتحرير المعتقلين، ومشاهدة قصور الأسد ودخول قاعاتها، والتقاط الصور مع قيادات هيئة تحرير الشام، التي نُسب إليها الفضل الأول في إسقاط النظام، بعد مشاهد الانضباط حين دخول المدن وفرض الأمن ومنع حالات الانتقام بين المعارضين والمؤيدين لنظام الأسد، خصوصاً في معاقله في أرياف حمص وحماة والساحل السوري، وتلك أجمع السوريون على أنها أحد أكثر إنجازات هيئة تحرير الشام أهميةً لمنع انزلاق سورية في أتون حرب أهلية وخوضها في الدم والثارات الفردية. كما أنّ هروب معظم قيادات النظام من الصفَّين الأول والثاني، الذي قاد إلى حلّ الجيش وتفكيك الأفرع الأمنية، أسهم إلى حدّ كبير في إبعاد السيناريو الليبي من سورية، إذ تصدّرت المشهدَ فصائلُ المعارضة السورية، وظهرت في موقف موحّد بقيادة هيئة تحرير الشام.
إذا أجمعت الغالبية في مارس/ آذار المقبل على تشكيل حكومة تكنوقراط، فلن يستطيع أحمد الشرع أن يجابه الإرادة الشعبية
هذان الإنجازان، لولا تحقّقهما في سورية بأيدي هيئة تحرير الشام، لكنّا رأينا حملات تخوين رسمية للشرع، وتحمليه مع فصيله ذي التوجه الإسلامي مسؤولية انزلاق البلاد في مستنقع الحروب الدامية. ربّما هذا ما قاد بعضهم، من باب تقدير الصانع ووعي مبنيٍّ على معرفة سابقة لما حدث من أمور كانت قبل شهرين في خانة المستحيلات، إلى أن يُؤجّل تصويب سهام النقد على سلوكيات هيئة تحرير الشام في إدارتها البلاد، أو إلى أن يختار التحفّظ على ملاحظاته، انطلاقاً من قاعدة إعطاء فرصة للواصلين الجُدد إلى دمشق، وواجب دعمهم ضرورةً أولى لاستعادة الدولة، ومنع الفوضى، وتحقيق الاستقرار النسبي في البلاد، وهذه منطلقات لم تخطر في بال السوريين من باب الترف أو الاختيار والتفضيل، بل هي توجيه المرحلة الحالية، مرحلة التأسيس المهمة لوضع سورية في سكة النهوض، والتعافي الدوري، ولن يُكتب لها النجاح إذا لم تشهد سورية حالةً من الاستقرار النسبي، وفرض الأمن في كامل البلاد، وتدوير عجلة الاقتصاد.
إذاً، الأمن والاقتصاد هما المُحدّدان الرئيسان اللذان ارتكزت عليهما حكومة الشرع في إدارة المشهد السوري، وتعتبر أن من دونهما لا يمكن إنقاذ سورية من تركة الأسد، ومن دونهما أيضاً لا يمكن التقدّم بخطوات مصيرية في سورية، كعقد مؤتمر حوار وطني بين السوريين، أو تفعيل العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين، أو تشكيل دستور وإجراء انتخابات، وينطبق ذلك على ملفّ العلاقات الخارجية، في موضوع رفع العقوبات، وانتزاع شرعية دستورية، وإقناع الدول بالمواظبة في التوافد إلى دمشق، والتعامل مع شخصيات الحكومة الحالية، والسعي الدؤوب لتطمينهم على مصالحهم ومستقبلها مع سورية. ذلك كلّه من أجل كسب الجميع من دون استثناء، وقبولهم بالانفتاح على الحكومة، وجذب الاستثمارات، والمساعدات، في قطاعات الحياة السورية كافّة، لكن أيّ دولة لن تخطو إلى الأمام في ملفّ ضخّ الأموال والاستثمارات ما لم تر بشكل ملحوظ نوعاً من الاستقرار الأمني والمجتمعي في سورية، ومشاهدتها قيادةً قويةً في دمشق تعي تماماً التحدّيات التي تُواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي.
أصدرت الحكومة قرارات داخلية شابها كثير من السجال وتصويب سهام النقد، وصلت أحياناً إلى الهجوم والتخوين
استناداّ إلى معادلة الأمن والاقتصاد، استنبطت حكومة تصريف الأعمال قراراتها، ووظفت كامل الأجواء السورية لإنجاحها، فأصدرت في البدء عفواً عامّاً عن قوات النظام البائد (ممن لم تتلطّخ أيديهم بقتل السوريين)، وأنشأت مراكز تسوية في المحافظات السورية كلّها، وكان لافتاً الإقبال الكبير من عساكر ومجنَّدين لتسوية أوضاعهم، وتسليم سلاحهم، ومَن رفض ما زال يواجه الحملات الأمنية المستمرّة، مع التأكيد هنا أنّ أحمد الشرع، ووزير خارجيته أسعد الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أو قصرة، صرّحوا في أكثر من مناسبة بأنّ قتلة السوريين من ضباط النظام ومَن شاركوا في إبادتهم سيحاسبون في مرحلة لاحقة وفق القانون السوري والقضاء الذي يحتاج إلى إعادة هيكلية.
تماشياً مع ملفّ الأمن، أصدرت الحكومة قرارات داخلية شابها كثير من السجال وتصويب سهام النقد، وصلت أحياناً إلى الهجوم والتخوين من منطلق العداء للإسلاميين، كسلسلة التعيينات التي قرّرتها الحكومة لإشغال شخصيات في مناصب وزارية، وفي مؤسّسات الدولة ومجالس المحافظات، فظهر شبه إجماع سوري عامّ على أنّ التعيينات هي من لون واحد، في الإشارة إلى اتّباع الحكومة نهجَ الإقصاء والتفرّد بالسلطة على حساب الكفاءات والثوريين من السوريين، الذين امتلكوا خبرات متراكمة، وكفاءات علمية، يرون أنفسهم أحقّ من كثير من الشخصيات التي تصدّرت المشهد اليوم، وهناك من رأى في نهج إدارة الحكومة الذي كان في إدلب منذ 2017، معتبرين أن عقلية الجماعة لا زالت طاغيةً على المشهد، وهي لا تتناسب مع منطق الدولة، ومنافية لتصريحات الشرع نفسه حينما أعلن انتهاء الثورة والانتقال إلى منطق الدولة.
يتساءل بعضهم في هذا الصدد: عن أيّ دولة نتحدّث في وقت ما زالت الحكومة تنغلق على ذاتها، ولا ترضى حتى بانفتاح جزئي، وبمشاركة بقيّة القوى السياسية، ومنظّمات وكيانات سورية ثورية، وأصحاب كفاءات، وأطياف أخرى تُمثّل شرائح المجتمع كلّها. هذا النقد البناء مهم ويجب أن يدوم، وأن يعلو صوته، لأنه يحمل مطالب محقّة، ومشروعة للسوريين كلّهم، وأكثر من ذلك، إنّ الانتقادات الموجّهة الرافضة قرارات الحكومة في ملفّات الاقتصاد والتجارة والجمارك وتغيير المناهج ودور المرأة وتسريح الموظّفين وتعطيل التلفزيون السوري وغياب الشفافية ورفض تعويم شخصيات كانت شريكةً في إجرام النظام، كإعادة تعيين ديالا دياب في منصب وزيرة الثقافة، والرفض الشعبي والامتعاض من تأخير العدالة والمسامحة مع فلول وشبّيحة النظام، وملفّ الرواتب، والاعتراض على الاعتراف ببعض الجامعات الخاصّة، وتجاهل تفعيل الخدمات في بعض المحافظات على حساب المركز، وتهميش المخيّمات، ونسيان أهالي المعتقلين والشهداء وجبر خاطرهم… جميعها مطالب محقّة.
وحمّلت فئةٌ واسعةٌ من السوريين الحكومة المسؤولية، ومنهم من بشّرها بالفشل وبإدخال البلاد في مهدّدات جديدة، بما فيها فتح البلاد أمام التدخّل الخارجي، أو التبشير بسيناريو التقسيم، وغيرهم من النقّاد لديهم توجّهات يسارية وعلمانية امتعضوا من النَفَس الإسلامي لحكومة تصريف الأعمال، وحكموا عليها بالفشل المسبق. حقيقة الأمر نحن أمام انقسام كبير بين السوريين مردّه الأوّل للإحساس بالغبن والإقصاء، والخوف من المجهول وما ينتظر مستقبل البلاد، وبدأت الأصوات ترتفع بعد أن خفتت مظاهر الأفراح بإسقاط النظام، على مقولة “راحت السكرة وإجت الفكرة”. وبالطبع، الجميع محقّ في موقفه، وكلّ طرف يُمسك جزءاً من الحقيقة، فالذي تحفّظ على ملاحظاته تجاه الحكومة الحالية وتغاضى عنها إلى حين، من منطلق دعمه لها واجباً لا ترفاً، هو محقّ. ومن قفز فوق تلك القاعدة وفتح باب النقد على مصراعيه، ولاحق الحكومة في كلّ صغير وكبيرة، من دون النظر إلى إنجازاتها، هو محقّ أيضاً. فهذا، وإن لم ينكر فضل الحكومة في إسقاط النظام، إلّا أنّه لا يستيطيع (ولا يقبل) أن يتزحزح الواقع، فهو مقياس لأداء الحكومة، ولا يقبل بمحدّداتها التي انطلقت منها في تثبيت معادلة الأمن والاقتصاد.
الأمن والاقتصاد مُحدّدان رئيسان ارتكزت عليهما حكومة الشرع في إدارة المشهد السوري
المطلوب إذاً إحداث نوع من التوازن بين دعم الحكومة ونقدها ضرورةً لإنقاذ سورية، وإخراجها من مرحلة المخاض إلى الولادة الحقيقية، ولادة الدولة السورية بالحدّ الأدنى من المقومات، وهذا يعني عدم تبنّي النقد لأجل النقد فقط، انطلاقاً من قناعات شخصية (ربّما من باب العداء للإسلاميين)، ولا يتطلّب اتخاذ موقف المدّاح للحكومة لكونها أسهمت فقط في إسقاط النظام. والمرحلة التي تمرّ فيها سورية مصيرية، ويتحتّم على السوريين التعاطي مع الحكومة الحالية والمساهمة في نجاح فترتها المؤقّتة، وعدم تشويهها وتخوينها، فإذا كانت الدول الغربية والعربية أجمعت على إعطاء فرصة لحكومة الشرع لاختبار مدى الأقوال والأفعال، فمن الأولى بالسوريين أن يعطوا الحكومة فرصتها الحالية، وعدم إطلاق أحكام مسبقة، مع بقاء خطّ النقد البنّاء موجّهاً لها، لتصويبها وتصحيح المسار.
الشعب السوري الذي أسقط النظام، وكسر شوكة إيران وروسيا في سورية، ودفع تضحيات كبيرة ثمناً للتغيير والحرّية، لن تقف أمامه بعد الآن أيُّ عوائقَ للتغيير وتطبيق منجزات الثورة، فإذا أجمع الغالبية في مارس/ آذار المقبل على تشكيل حكومة تكنوقراط، فلن يستطيع أحمد الشرع أن يجابه الإرادة الشعبية، فما نعيشه اليوم ليس نموذجاً سوريّاً مصغّراً كما كان الحال في مدينة إدلب، إنها سورية الكبيرة على امتدد 185 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة تتخطّى في نهاية المطاف كامل قدرات هيئة تحرير الشام.