بمجرّد إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، في جنوب لبنان، انطلقت هيئة تحرير الشام، ومعها شركاؤها وفصائل محسوبة على المعارضة السياسية المقرّبة من تركيا إلى محافظة حلب وسيطرت على المدينة بسرعة قياسية، والأمر نفسه بالنسبة لأطراف محافظة حماة، ما يجعل من الصعوبة التنبؤ بالأحداث فيما بين كتابة هذه السطور ونشر هذا المقال اليوم الثلاثاء!
بالضرورة، هنالك أبعاد إقليمية واستراتيجية تؤطر التطورات السورية، وهي أقرب ما تكون إلى انعكاسات مباشرة لحالة الفوضى الإقليمية الراهنة، وتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزّة وما أدّت إليه من انسحاب لنسبة كبيرة من أنصار حزب الله إلى لبنان للقتال هناك من جهة، والأزمة المستترة بين إيران والرئيس السوري بشار الأسد من جهةٍ ثانية، وانشغال روسيا بالحرب الأوكرانية من جهة ثالثة، فمثل هذه الأحداث بالضرورة تمثّل فرصة سانحة وتاريخية للمعارضة السورية للعمل على استثمار حالة الضعف لدى النظام وتحقيق انتصارات ميدانية، وهو سيناريو كان مبيّتاً لدى هيئة تحرير الشام منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة، إذ التقيت حينها أحد الإعلاميين المقرّبين من الهيئة، وأخبرني عن نيات وتوقعات بأن تشنّ الهيئة حملة عسكرية قوية ضد النظام السوري، بما قد يصل إلى محاولة الوصول إلى دمشق وإسقاط النظام!
بالضرورة، لا تزال هنالك محدّدات استراتيجية دولية وإقليمية لترسيم المسارات المتوقّعة للمرحلة المقبلة، فالموقف التركي مهم على هذا الصعيد، لأنّ تركيا طرفٌ مهم ومؤثر في الصراع، ولا تزال تعمل على إحاطة موقفها بحالة من الغموض وصبغه باللون الرمادي، فهي من جهة ترفض التصعيد، ومن جهةٍ أخرى تتحدّث أنّ من رفض المصالحة معها هو النظام السوري، لكن من الواضح أنّ تركيا أعطت الضوء الأخضر للفصائل القريبة منها، لمشاركة هيئة تحرير الشام في العملية، ولم تمانع بذلك، وهو بحدّ ذاته موقف أزعج الروس الذين اعتبروه خرقاً لصيغة أستانة (بين روسيا وتركيا وإيران).
من الصعب جداً أن يترك النظام الإيراني نظام بشّار للسقوط، فهو سيخسر بذلك ورقة إقليمية استراتيجية، لذلك ستتدخل إيران بكل قوة في المرحلة المقبلة
إلى أيّ مدى يمكن أن تضغط تركيا لاحقاً على حلفائها وشركائها للتراجع خطوات إلى الوراء إذا افترضنا أنّ هنالك مخاوف دولية وإقليمية من وصول المعارضة إلى دمشق وانهيار النظام هناك؟! هذا وذاك يعتمدان على الموقفين الأميركي والإسرائيلي، فمن الواضح أنّ إسرائيل بدأت تنظر بصورة مكثفة إلى تطور الأمور في سورية، وبالرغم من أنّ إسرائيل لا ترغب بسيطرة مسلحين إسلاميين على الجغرافيا السورية، وأن يكونوا على الحدود، إلّا أنّها، في الوقت نفسه، تنظر بغضب إلى العلاقة الاستراتيجية بين بشار الأسد والإيرانيين والنفوذ الإيراني في سورية، ما قد يعني أن تكون هنالك خيارات جديدة لإسرائيل، فيما يتعلّق بالوضع في سورية، في ضوء ترسيم خطوط التوتر مع إيران في المرحلة المقبلة، وهي سياسات برسم التفاهمات الأميركية- الروسية.
بالنسبة للأميركيين، انتهت مقاربتهم، قبل أعوام، إلى ما يشبه التقاسم مع الروس للملفّ السوري، أو تفويض الروس بالتعامل مع النظام السوري، مع الاحتفاظ بعلاقات استراتيجية (لدى الأميركيين) مع الأكراد، والاكتفاء بمتابعة حركات “داعش” ومحاصرتها. وتبدو المعضلة بالنسبة للسياسة الأميركية تجاه التطورات الحالية متعلّقة، بدرجة رئيسية، بأنّ هيئة تحرير الشام هي منظمة إرهابية على القوائم الأميركية (بالرغم من محاولات أبي محمد الجولاني، زعيم المنظمة، تقديم ضمانات ورسائل للدول الغربية). وفي الوقت نفسه، ترى أميركا في النظام السوري حليفاً لإيران وحزب الله، بل ومسرحاً لنفوذ المليشيات الإيرانية، ما يعني أنّ الحرب الدائرة الآن بين خصمين، فضلاً عن أنّ النظام السوري يعتبر حليفاً لروسيا، وأميركا تريد إرهاق روسيا وإرباكها وتحجيم نفوذها في أكثر من مكان، بخاصة مع التقارب الروسي- الصيني- الكوري الشمالي- الإيراني في الأعوام الأخيرة.
هل هنالك موقف أميركي أو إسرائيلي حاسم؟ لا يبدو ذلك موجوداً ، بالرغم من أنّ هنالك قلقاً من أن تؤدي انتصارات المعارضة المسلحة وفتح الشهية على الوصول إلى دمشق أو استثارة المناطق الأخرى في حمص ودرعا للقيام بثورة عسكرية جديدة ضد النظام، وبالتالي، العودة إلى مرحلة الحرب الداخلية، لأنّ من الصعب جداً أن يترك النظام الإيراني نظام بشّار للسقوط، فهو سيخسر بذلك ورقة إقليمية استراتيجية، لذلك ستتدخل إيران بكل قوة في المرحلة المقبلة.
نشهد في المشرق العربي حالة من الانهيار الكبير في مفهوم الدولة الوطنية وتفكّك “مخرجات” سايكس بيكو
ثمة رواية أخرى يتبناها عديد من المحللين السياسيين، وتذكّرنا بالمرحلة الأولى من الحرب الداخلية السورية، عندما استخدم النظام ورقة الإرهاب و”داعش” لعرقلة الأجندة الدولية في إزاحته، وقد نجح بدرجة كبيرة في توظيفها لتخويف العالم، واليوم ترى دولٌ عربية وغربية عديدة هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إسناد أو دعم مباشر أو غير مباشر لنظام الأسد، وربما تعجيل التطبيع معه في المرحلة المقبلة، ودفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أخذ مسألة مكافحة الإرهاب بالاعتبار في رسم سياساته!
إذا تجاوزنا البعد العملياتي، وحتى الإقليمي، للوضع الحالي في سورية، فإنّ من معالم وإشارات ما يحدث حالياً أنّنا نشهد في المشرق العربي (العراق وسورية وفلسطين ولبنان، بالإضافة إلى اليمن، ويمكن أن نضيف إليها دولاً أخرى مثل السودان وليبيا) حالة من الانهيار الكبير في مفهوم الدولة الوطنية وتفكّك “مخرجات” سايكس بيكو، وبروز الفواعل ما دون الدول (أو أشباه الدول)، التي ترتبط بأيديولوجيات دينية أو عرقية أو طائفية بوصفها اللاعب الرئيس في المنطقة، وانجراف الحدود الجغرافية- السياسية فيما بينها، وهو ما يذكّرنا بنبوءات المستشرق المعروف برنارد لويس، بخاصة نبوءتيه؛ الأولى، انهيار مفاهيم الدولة الوطنية في المشرق وبروز الطائفية والعرقية عبر الجماعات والقوى التي تقوم عليها، والثانية ضعف الدول العربية وصعود القوى الإقليمية؛ إيران وتركيا وإسرائيل لاعبين رئيسيين في المنطقة العربية!
والحال إنّ هذا هو الوضع اليوم، فهل سيتجذّر خلال الفترة المقبلة من خلال تقسيمات جديدة ليست جغرافية، بل عرقية- طائفية- دينية تمثّل “الوجه الجديد” للشرق الأوسط، أم هنالك في جعبة العمّ سام تصوّرات جديدة لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وداخل هذه الدول على أسس جديدة؟ وهل سيمرّ مثل هذا الترتيب عبر بوابة التفاهمات الإقليمية مع إيران وروسيا مثلاً، أم عبر تصعيد وتوتر وتحجيم للدور الإيراني من خلال استخدام الأدوات نفسها التي تستخدمها إيران؟!