ما كان يخشاه كثيرون، ويتمناه كثيرون آخرون بالمقابل قد حدث. صحيح أنه ما يزال بين ترامب ودخول البيت الأبيض أكثر من شهرين من الزمن قبل تنصيبه رسمياً في مطلع العام المقبل، لكن الإدارة الديمقراطية ستكون مقيدة إلى حد ما بما أفرزته صناديق الاقتراع، بخاصة أن رئيسها العجوز سبق وتوارى خلف حملة نائبته المرشحة كامالا هاريس، ولم يعد يملك القوة المعنوية لاتخاذ قرارات حاسمة قبل توديع منصبه. بل سيكون عليه التشاور مع الإدارة الجديدة التي سيشكلها ترامب قبل اتخاذ قراراته.
يأتي في طليعة السعداء من فوز ترامب بنيامين نتنياهو الذي لم يخف تمنيه بفوز الرئيس الأسبق الذي منحه الاعتراف رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل إليها سفارة بلاده. سيضمن نتنياهو على الأقل استمرار الدعم الأمريكي لحربه على غزة ولبنان بالحجم الذي كان عليه طوال العام الماضي في ظل الإدارة الديمقراطية، ما لم يزد عليه ترامب الذي سبق وامتدح «أعمال» صديقه في لبنان بمناسبة اغتيال حسن نصر الله وثلة من قادة حزب الله. أما من جهة التراشق الإسرائيلي ـ الإيراني المباشر فمن المحتمل أن يتخذ ترامب موقفاً أشد تطرفاً تجاه إيران بهدف دفعها للاستسلام التام أمام إسرائيل. وإذا كان نتنياهو يتعرض لضغوط دبلوماسية محدودة من إدارة بايدن لدفعه في اتجاه صفقة لتبادل الأسرى مع حماس، فسوف تتلاشى هذه الضغوط بعد انتقال السلطة رسمياً إلى ترامب. أما في الشهرين القادمين فسوف يكون نتنياهو أكثر حرية في رفض أي عرض جديد من واشنطن حتى لو زادت هذه من ضغوطها بعدما تحرر بايدن من متطلبات المعركة الانتخابية التي خسرتها نائبته. الخلاصة أنه أمام لبنان وغزة، و«محور المقاومة» مرحلة ربما تكون أشد قسوة مما رأيناه إلى اليوم.
فلاديمير بوتين سعيد هو الآخر بفوز ترامب، فهو سيمنّي النفس بأن يتجه الأخير إلى خفض المساعدات العسكرية لأوكرانيا، الأمر الذي قد يرفع منسوب التفاؤل لديه بتحقيق انتصارات عسكرية كبيرة على أمل ان يدفع ذلك الرئيس الأوكراني إلى رفع راية الاستسلام والموافقة على الشروط الروسية لإنهاء الحرب. من شأن تطور من هذا النوع، وهو لم يعد احتمالاً بعيداً، أن يأمل بوتين بتحقيق حلمه الأعز على قلبه ألا وهو أن يتم التعامل معه معاملة الند من قبل ترامب ليتمكن من تضميد «جرحه في كبريائه» كقائد قوة عظمى، بعدما عاش سنوات قاسية من العزلة والنبذ والعقوبات في المجتمع الدولي.
في الشهرين القادمين سوف يكون نتنياهو أكثر حرية في رفض أي عرض جديد من واشنطن حتى لو زادت هذه من ضغوطها بعدما تحرر بايدن من متطلبات المعركة الانتخابية التي خسرتها نائبته
موضوع انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية من المحتمل أن يعود ترامب إلى طرحه مجدداً على جدول أعماله، ما لم تقنعه «الدولة العميقة» بوجوب بقائها في سوريا إلى حين إنهاء الوجود الإيراني هناك الذي تقوم إسرائيل بالتضييق عليه من خلال الحرب الجانبية المستمرة. أما رأس نظام الأسد المختبئ طوال فترة الحرب فلن ينفعه الانسحاب الأمريكي المحتمل، ولن يجرؤ على إعلان الانتصار بهذا الانسحاب الذي سيضعه وجهاً لوجه أمام استحقاق مواجهة قوات سوريا الديمقراطية أو التفاهم معها، وهذا ما لا قبل له به في الحالتين.
في الموضوع نفسه من المحتمل أن الرئيس التركي أردوغان قد ابتهج، مبدئياً، لفوز ترامب على أمل أن يسحب هذا قواته من منطقة نفوذ قوات سوريا الديمقراطية ولو كان ذلك على مراحل، وألا يعترض على اجتياح بري جديد لتلك المناطق بهدف القضاء على القوات الكردية، وفرض تصوره الأحادي فيما يتعلق بإنهاء المسألة الكردية التي لا يعترف بوجودها، بصورة نهائية. ففي الفترة الأخيرة كانت هواجس الأمن القومي قد بلغت لديه أقصاها، فدفع حليفه بهجلي إلى التلويح بإطلاق سراح أوجلان مقابل أن يلقي حزب العمال الكردستاني سلاحه. وهو المشروع الذي تلقى ضربة كبيرة بعد العملية الإرهابية التي استهدف فيها الكردستاني منشأة للصناعات العسكرية في العاصمة أنقرة، وكانت بمثابة الرد الدموي على أي نداء قد يوجهه أوجلان للحزب للتخلي عن السلاح. صحيح أنه قد تعرض لمواقف قاسية من ترامب أثناء ولايته الأولى ولكن يبقى أن الرئيس التركي يجد نفسه أكثر ارتياحاً في العلاقة معه مما كانت عليه العلاقة المتوترة مع بايدن، فترامب لن يلجأ على الأرجح إلى الضغط على الأنظمة السلطوية الحليفة بدعوى القيم الديمقراطية على منوال الإدارة الديمقراطية التي سبق لرئيسها بايدن أن دعا صراحةً، قبيل توليه السلطة، إلى التخلص من الحكومة التركية قبل أن يستدرك «عن طريق صناديق الانتخابات طبعاً».
وبالتقابل مع الموقف التركي لن يشكل فوز ترامب مصدراً للارتياح لدى حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري المتمثل في «قسد» فتعود مخاوفهما من انسحاب أمريكي من سوريا يتركهما في مواجهة الشهية التركية المفتوحة لتقويض الإدارة الذاتية. كذلك ربما تتلاشى لديهم ما أثارته الحرب الإسرائيلية من تكهنات بشأن احتمال تقسيم سوريا وحصولهم على منطقة إدارة مستقلة تحت سيطرتهم.
ومن المحتمل أيضاً أن يعاد طرح «الناتو الإقليمي» القائم على تحالف عربي ـ إسرائيلي في مواجهة إيران بعد استئناف مسيرة التطبيع التي بدأت أثناء الرئاسة الأولى لترامب تحت اسم «معاهدة أبراهام» وبعدما يكون نتنياهو قد مهد الطريق أمامه بالحديد والنار.
تبقى كل هذه مجرد تكهنات حتى لو كانت قائمة على أسس عقلانية من تحليل للوضع المشتعل في الإقليم، وعلى استعادة توجهات ترامب في ولايته الأولى، ووعوده أثناء الحملة الانتخابية. فعلينا ألا ننسى الصفة الأبرز لترامب وهي عدم قابلية أفعاله للتوقع.
Sorry Comments are closed