على غير عادته، ذهب الأسد وحيداً إلى انتخابات مجلس شعبه، هذه المرّة. هو الذي اعتاد سابقاً حضور مثل تلك المناسبات برفقة زوجته، ليقدّم نفسه بصورة الرجل العصري الذي يدلي بصوته بصفته مواطناً، وإلى جانبه امرأة عصرية هي الأخرى، كما تعلمون.
وعلى غير عادته أيضاً، لم يكن هذه المرّة، يوزِّع ضحكاته الشهيرة هنا وهناك، بمناسبة ودون مناسبة. وكأن هناك شيئا ما مستجدٌّ في بنيته النفسية. تذكرون في يومٍ ما، كيف سمعنا قهقهاته أمام الكاميرا، وهو يتنقل بين البيوت المدمّرة، بينما كان يتحدث إلى من فقدوا أحبتهم للتوّ خلال زلزال 2023.
ما يلفت النظر أكثر، كان التجهيز للقاء صحفي مدروس بعد إدلائه بصوته. (تجمهرت) بانتظار الرئيس المخضرم (جموعٌ) من مراسلي كبريات وكالات الأنباء والتلفزات المختلفة. طبعاً هم أُبلغوا من (الجهات المختصة) بمكان مركزه الانتخابي مسبقاً! حضر هناك مندوبو “شام FM”، “الوطن ONLINE”، وكالة سانا، تلفزيون الميادين، التلفزيون السوري بفرعيه الفضائية والإخبارية، قناة سما التلفزيونية، روسيا اليوم، إضافة إلى مندوب “ALBAATH-MEDIA”! أرجو أنكم ستحتملون مني تلك التفاصيل، هذه المرّة فقط (لأهميتها).
في كل بقاع الأرض، يحرص الصحفيون على اقتناص فرصة لقاء رئيس دولة ما، ليحصلوا على تصريحٍ أو موقف بخصوص آخر الأحداث الساخنة. لكنّ صحفيي الأسد كانوا على درجة عالية من التهذيب والالتزام، فلم يسألوه عن الحرب على غزّة مثلاً! وهو الحدث الأبرز عالمياً هذه الأيام، ولا حتى عن الضربات الإسرائيلية التي تتلقاها دمشق بتواتر لم نشهده من قبل. شخصياً أتفهم أن أسئلة أولئك تأتي أو تمرّ على الأقل، عبر الأجهزة الأمنية. لكن أكثر ما لفتني، أنه لا الأسد ولا صحفييه تطرقوا لغياب زوجته، خلال أول ظهور له بعد انسحابها من المشهد بسبب المرض حسب بيان الرئاسة، ولأسباب مختلفة حسب الكثير من التخمينات.
روّج نظام الأسد إلى أنَّ كل ما حدث في سوريا هو نتيجة مؤامرة خارجية، فليس في الأمر لا ثورة شعب ضد الظلم والاستبداد، ولا من هم يثورون.
حسناً لنقل أن الأمر مسألة عائلية، لم يُرد لا هو ولا صحفيوه الخوض بها احتراماً للخصوصية. لكن ألم يكن غريباً (ليس بالنسبة لي) في هذه المواجهة الركيكة مع الإعلام، أن الأسد لم يتحدث، ولم يسأله الرفاق الصحفيون عن موت (مقتل) مستشارته الخاصّة لونا الشبل قبل أيام قليلة؟ وهي الشخصية البارزة التي لعبت، خلال السنوات الماضية، دوراً خاصاً نعرفه جميعاً! كان حرياً بأي إنسان في موقعه أن يذكرها، في أول ظهور له، ولو بكلمات بسيطة تعبر عن الامتنان لما قدمته الراحلة من خدمات له (وللوطن)، لكنه لم يفعل أيضاً.
طبعاً أخمِّن أنكم جميعاً تعلمون لِمَ لمْ يفعل. عموماً، باستثناء البيئات المعارضة التي تناولت الأمر بسخرية وشماتة، وبعض الأخبار المختصرة هنا وهناك، لم يجرؤ سوري في مناطق سيطرة الأسد التعليق حول موتها. كانت أسئلة (المؤتمر الصحفي) محصورة بأمرين اثنين، أراد مستشاروه الإعلاميون (الأمنيون) الحديث عنهما. الأول حول الانتخابات، وهو أمر نافلٌ لكن لا بد منه، لأنه الحدث الذي ظهر خلاله، والثاني هو الرسائل الطريّة التي أراد تمريرها بشأن العلاقات مع الجارة تركيا.
كان المحور الأول ثرثرة مكررة عن الدور المحوري لمجلس الشعب في مرحلةٍ وصفها على أنها “انتقالية!” تعيشها سوريا، وهذا التعبير كان لافتاً. لكن الأهم هو المحور الثاني الذي استغرق ثلثي ذاك اللقاء، وكان عن إمكانية العودة لعلاقات طبيعية مع تركيا. الكلُّ يعرف، أن ما حدث بين الجانبين، في العقد الأخير من المواجهات العدائية بما فيها العسكرية، إضافة للتصريحات النارية المتبادلة، أصعب من أن يتم تجاهله وتجاوزه بيسر وسهولة.
بهذا الصدد، سيحتاج الطرفان بالتأكيد إلى فترة تمهيدية لتهيئة الرأي العام لتلك الانعطافة (التكويعة بالمصطلح الدارج) الحادة جداً. وإن كان الشارع التركي لا يمانع إطلاقاً بعودة تلك العلاقات، حتى بتنا نسمع التصريحات التركية الناعمة مبذولة، بفائض من الكرم، في كل وقت، فإن بيئة الأسد تحتاج لفترة حتى تستطيع ابتلاع تلك الانعطافة المؤلمة، وابتلاع مسوغاتها. ولهذا السبب نرى الأسد يتدرّج في تصريحاته.
مع ذلك، من المتوقع أننا قريباً سنشهد تلك البيئة (المُتفهّمة)، وهي تصفق لديبلوماسية الأسد المبهرةً. وحدها المعارضة السورية ستكون في حيص بيص.
روّج نظام الأسد إلى أنَّ كل ما حدث في سوريا هو نتيجة مؤامرة خارجية، فليس في الأمر لا ثورة شعب ضد الظلم والاستبداد، ولا من هم يثورون. بطبيعة الحال كان التركيز دائماً على الدور التركي في تلك المؤامرة، وخصوصاً دور الرئيس أردوغان. تذكرون كيف ابتهج النظام وموالوه، وأطلقوا بغزارة غير مسبوقة، رصاص الفرح ليلة محاولة الانقلاب 2016، لاعتقادهم أنهم تخلصوا من عدوّهم الأول، قبل أن تأتيهم الأخبار المخيبة عن فشل الانقلاب. مع كل ذلك، عليهم اليوم أن يبتلعوا، رغماً عنهم، تلك الاستدارة الحادة.
الطامحون الوضيعون لم يتّعظوا حتى اليوم، ولم يسألوا أنفسهم السؤال الأهم: إذا كانت تلك الأسماء الوازنة، تقتل بتلك البساطة، فما هو مصير الأقلّ شأناً؟
بعد المؤتمر الصحفي (العفوي) بساعات قليلة، أوردت الوكالات خبر مقتل رجل النظام براء قاطرجي، بعبوة ناسفة وضعت في سيارته خلال عودته من لبنان. قاطرجي الذي يوصف بأنه (رجل أعمال) وهو في الحقيقة عضو في مافيا الأسد، ممن واتتهم الظروف، فتحوّل من مهرِّب إلى أحد الفاعلين الاقتصاديين، ككل أثرياء الحروب الذين يظهرون في مثل تلك المناخات. الرجل قدّم للنظام، الحقيقة لكل من يطلب بمن فيهم “داعش”، الخدمات مقابل المنافع التي كان يراكمها. ولكن لماذا أذكر القاطرجي في هذا السياق؟
الحقيقة أذكره لأعود إلى تجاهل الأسد، والمراسلون المؤدبون، موت مستشارته الأقرب. وأذكره كي أقول ما يعرفه معظمكم، بأن لا لونا الشبل ولا القاطرجي ولا أي متنفّذ، مهما ارتفع في درجات القرب من النواة الصلبة لنظام الأسد، سيكون بمأمن على حياته وثروته، عندما ينتهي دوره الوظيفي. فهو، بنظر النظام، مجرّد أداة (أداة؟! حسناً، لا أريد أن أسرف في الوصف، فأبدو شتّاماً). أداة رخيصة قامت بوظيفتها وانتهى دورها، والأمثلة أكثر من أن تُحصى في عهد الأسدين. لكن كما هو معروف، الطامحون الوضيعون لم يتّعظوا حتى اليوم، ولم يسألوا أنفسهم السؤال الأهم: إذا كانت تلك الأسماء الوازنة، تقتل بتلك البساطة، فما هو مصير الأقلّ شأناً؟
عذراً التعليقات مغلقة