شهد الأسبوع المنصرم العديد من الأحداث ذات الدلالة سوريّاً، كان آخرها الإعلان عن فتح معبر “أبو الزندين” التجاري قريباً جداً، وهو معبر بين مناطق سيطرة الأسد وفصائل معارضة تحت الإشراف التركي في الشمال السوري. صفحة “المجلس المحلي لمدينة الباب” على فيسبوك أعلنت قبل يومين عن تجهيز المعبر خلال 48 ساعة، وعزت قرار الانفتاح على الأسد إلى الحرص “على تحسين الظروف المعيشية لأهالي المنطقة وتعزيز النشاط الاقتصادي المحلي، حيث سيتمكن التجار وأصحاب الأعمال من استخدام المعبر لنقل البضائع والسلع، مما سيسهم في تنشيط الحركة التجارية وزيادة موارد المجلس المحلي لإنفاقها للصالح العام”.
قرار المعارضة الانفتاح اقتصادياً على الأسد أثار نقاشاً واعتراضات في أوساط مؤيديها، وجلّ الاعتراضات أتى لما يحمله الانفتاح من اعتراف به يُفترض ألا تُقدم عليه المعارضة. إلا أنه في المقابل من هذا التحفظ يمكن القول أيضاً أن الانفتاح يتضمن اعترافاً من الأسد، اعترافاً منه بما دأب على تسميتها بـ”العصابات الإرهابية المسلحة”، وبما يجعله طرفاً على قدم المساواة في التعامل معها.
جنوباً، في السويداء، نُزع فتيل الأزمة حسبما أُعلن، بعدما شهدت المحافظة ليلةً من استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة على خلفية إقامة قوات الأسد حاجزاً جديداً لها. التسوية بين الجانبين نصّت على زحزحة مكان الحاجز إلى الغرب مما هو عليه، وتبديل اسمه إلى نقطة عسكرية ما يتضمن عدم تعرّض عناصره للمارة تفتيشاً أو احتجازاً. دعا الناشطون إلى الاحتفال يوم الجمعة في ساحة الكرامة، باحتساب التسوية نصراً لانتفاضة السويداء، بما أن الأسد تراجع عن إقامة الحاجز وتورّع عن استخدام العنف لمحاولة فرضه على الأهالي.
أيضاً، ومهما قيل في إخراج الاتفاق، الأكيد أن الأسد “الذي يستخدم مفاهيم السيادة داخلياً فقط” قد قبِل بالتفاوض مع “عصابات إرهابية مسلحة” بموجب التوصيف المعتمد من قبل إعلامه للفصائل الخارجة عن سلطته. واحتفال ناشطي السويداء بما يعتبرونه انتصاراً هو ليس بزحزحة النقطة العسكرية لبضعة أمتار، هو احتفال بأن يُضطر الأسد إلى التفاوض مع الفصائل المحلية وتقديم تنازل لها، ما ينطوي على كونه مجرد طرف من أطراف الصراع لا بصفته ممثلاً للشرعية بينما الآخرون خارجون عليها.
ضمن الأسبوع ذاته، ظهر الأسد في مناطق سيطرته كأنه يقدّم تسوية ما لمحكوميه من خلال سياقين منفصلين؛ أولهما الأخبار عن إعادة هيكلة الدعم المقدَّم حكومياً للسلع الاستهلاكية الأساسية، وثانيهما الإعلان عن حزمة على ثلاث مراحل لتسريح عشرات الآلاف ممن يؤدون الخدمة العسكرية الاحتياطية في قواته، بحيث يُفترض أن يبدأ التسريح مطلع الشهر المقبل وينتهي تسريح الجميع نهاية أكتوبر 2025. التسوية هنا هي في تمرير تخلّي الحكومة عن الدعم، وهو قرار من المؤكد ألا يحظى بأدنى شعبية في الظروف المعيشية الكارثية حالياً، وفي المقابل تسريح عشرات الآلاف من الشباب والرجال الذين يؤدون إلزامياً الخدمة الاحتياطية، وهذا بالطبع مطلب لهم ولمئات الآلاف من ذويهم.
لكن التباين بين الخبرين السابقين ينجلي بشيء من الانتباه، فتسريح عشرات الآلاف يأتي أيضاً على قاعدة التخلص من عبئهم الاقتصادي بعدما انتفت الحاجة إليهم ميدانياً. بل إن تسريحهم في الظروف الحالية يعني الزج بهم في سوق البطالة، مع مختلف العواقب الاقتصادية والاجتماعية، أي أن الأسد يتخفف عملياً من إطعامهم ورواتبهم الزهيدة وراء ستار تحريرهم من قبضته. جدير بالذكر أن الخدمة الإلزامية في قوات الأسد كان لها دائماً اعتبارات اقتصادية، بوصفها نوعاً من البطالة المقنّعة الرخيصة الكلفة، ولطالما استُثمرت فيما يشبه أعمال السخرة.
أما هدف الوصول إلى جيش محترف من المتطوعين، المعلن ضمن الحزمة نفسها، فهو في حالة الحكم الحالي لا يعني سوى التخلص مما تفرضه الخدمة الإلزامية لجهة “المساواة” بين السوريين، وإن تكن بنسبة عظمى مساواةً في الضيم. فمن المعلوم أن التهرّب من تبعات الخدمة الإلزامية على السلطة كان يحدث خلال عقود سابقة بإنشاء ميليشيات خارجة عن الجيش التقليدي، مثل سرايا الدفاع والوحدات الخاصة ثم الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، حيث كان يُنتقى المنتسبون إليها من متطوعين أو مؤدّيي الخدمة الإلزامية على نحو تحيط به الشكوك والاتهامات الطائفية خاصةً. إلغاء الخدمة الإلزامية في حالة الأسد سيؤدي تلقائياً إلى إعراض شرائح واسعة عن الخدمة العسكرية، بينما سيتيح له ممارسة الانتقائية على مستوى الجيش ككل هذه المرة، ما يجعله بشكل فاضح فئوياً على غرار الاتهامات التي يوجهها إلى ما يسمّيها بـ”العصابات الإرهابية المسلحة”.
القضاء الفرنسي قال كلمته الأخيرة يوم الأربعاء الفائت، فرفضت محكمة الاستئناف في باريس الطلبَ المقدَّم من مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب، ويطلب فيه إلغاء مذكرة التوقيف الفرنسية الخاصة ببشار الأسد، بحجة عدم أحقية القضاء الفرنسي رفع حصانة الرؤساء أثناء وجودهم في السلطة، وكانت مذكرة التوقيف قد صدرت بناء على اتهامه بالمسؤولية عن الهجمات بالكيماوي على غوطة دمشق صيف 2013. في واحد من دلالاته، يميز قرار محكمة الاستئناف بين العنف الحكومي الذي يمتلك شرعية، ويحتفظ بموجبه الرؤساء بحصانتهم، وبين العنف الذي ينحدر بالسلطة إلى مستوى عصابة إرهابية مسلحة. ورغم مجيء الحكم في سياق منفصل عن تطورات هذا الأسبوع داخل سوريا فإنها يبدو متمماً لها من حيث المغزى، وبما يخالف الفكرة الرائجة عن تعويم الأسد دولياً.
ذلك لا يعني نقض فكرة التطبيع مع الأسد، بقدر ما يعني أن التطبيع جارٍ ولو ببطء أو تعثّر، خارجياً وداخلياً، إنما على مبدأ وجوده كسلطة أمر واقع لا تختلف عن السلطات المجاورة له في سوريا. جدير بالذكر أن هذه السلطات تتبادل الاتهامات فيما بينها، وحصيلة الاتهامات المتبادلة، إذا صُدِّقت أو صَدقت، تنصّ على أنها جميعاً عصابات إرهابية مسلحة، فضلاً عن وجود بعض زعمائها على قائمة المطلوبين دولياً هنا أو هناك.
الطريف، وغير المعلَن منذ سنوات، أن ضباطاً دخلوا في مفاوضات مع فصائل معارضة “لتبادل الرهائن” كانوا يخاطبون أقرانهم على أنهم عصابة ويلوّح المتكلّم بأنه مثلهم ينتمي إلى عصابة؛ منعاً لسوء فهم يضعه في موقع رجل دولة. في حاثة عرفناها عن كثب صيف عام 2012: اختُطف رجل واقتيد معصوب العينين إلى مكان مجهول، عرف لاحقاً أنه فرع شبيحة لجان الدفاع الوطني في جرمانا. هناك اتهمه ضابط برتبة عقيد بالانتماء إلى جبهة النصرة، وأصرّ على اتهامه رغم توضيح المختطَف أنه شيوعي وهو ما تعرفه أجهزة المخابرات جيداً. إلا أن شيوعيته لم تشفع له، ولا مخاطبته العقيد استعطافاً بـ”سيدي”. بل ردّ الضابط بأنه اختطفه كرئيس عصابة ولم يعتقله كضابط، مطالباً الرجل “إذا أراد النجاة” بالتحدث إلى ابن عمه في دير الزور، وهو من جبهة النصرة التي اختطفت عناصر من قوات الأسد. الضابط عاد ليعبّر عن غضبه عندما أُعطي الرجل فرصة للتحدث إلى ابن عمه وبدأ بالقول أنه محتجز لدى سيادة العقيد الذي… فأخذ الضابط الموبايل من يده وصاح: لست ضابطاً، أنا أتحدث إليكم كرئيس عصابة مثلكم…. وعلى ذلك راح يطرح المبادلة وإلا.
منطق العصابات ليس دائماً بلا فائدة، فبفضله نجا ذلك الشيوعي من تهمة الانتساب إلى جبهة النصرة. ومن لديه أدنى خبرة بضباط الأسد يستطيع تخمين قاموس البذاءة الذي حذفناه من سرد الحادثة.
عذراً التعليقات مغلقة