عبّر الكثير من أبناء السويداء عن مشاعر الفرح والزهو إثر إطلاق سراح الناشطة المدنية ريتا العقباني، وانتشر رسم ساخر يشير إلى نهاية المباراة بين المخابرات الجوية من جهة ولواء الجبل وتجمع أحرار الجبل من الجهة المقابلة، حيث سجّلت المخابرات الجوية هدفاً باعتقال العقباني لتتلقى رداً قاسياً بخمسة عشر هدفاً عندما أخذت الفصائل المحلية مقابلها هذا الرقم من ضباط وعناصر قوات الأسد كرهائن. العقباني “المنحدرة من السويداء” كانت قد اعتُقلت في دمشق يوم الاثنين الفائت، وجاء الرد في السويداء يومي الأربعاء والخميس لينتهي التصعيد سريعاً بالمقايضة بين الرهائن من الطرفين، ولتسجّل انتفاضة السويداء نصراً يكسر الرتابة، ولو أن أثره لن يدوم طويلاً.
هذه ليست المرة الأولى التي تحتجز فيها فصائل محلية في السويداء عناصر من قوات الأسد أو مخابراته، من أجل إطلاق سراح معتقلين، وهناك سوابق لعمليات التبادل منذ تأسست فصائل ما سُمّي آنذاك “الجيش الحر”، تعاطى من خلالها الأسد كميليشيا على قدم المساواة مع الميليشيات المعارضة. فيما يخص السويداء تحديداً، زاد في منسوب الفرح أن الرهينة التي تمت استعادتها هي سيدة، ما يجعل لاعتقالها وتحريرها حساسية محلية ربما تفوق نظيراتها في معظم أنحاء سوريا. صفحة السويداء 24، على سبيل المثال حذّرت من أن “اعتقال السيدات على وجه الخصوص خط أحمر”.
حادثة اعتقال العقباني وتحريرها أتت مع الاحتفال بمرور 300 يوم على بدء انتفاضة السويداء، من دون وجود رابط مباشر بين الحدثين. ومن المؤكد أن تحريرها أعطى المنتفضين نصراً معنوياً يُضاف إلى النصر الذين سجّلوه بمواظبتهم على التظاهر طوال عشرة شهور، من دون أن تتجرأ مخابرات الأسد وقواته على قمعهم كما فعلتا عندما انطلقت الثورة السورية عام 2011. وربما تزداد الأهمية المعنوية لهذه الإنجازات مع فشل المحافظ الجديد الذي عيّنه الأسد مؤخراً في إحداث اختراقات ذات شأن، بما فيها اختراقات تتناسب مع سجله المخابراتي.
لكن، وهذا لا يبخس المنتفضين حقهم من الصمود والاستمرار، يمكن القول أن انتفاضة السويداء كانت قد وصلت إلى حالة من المراوحة في المكان مردّها الوصول إلى أقصى ما يمكن ضمن ظروف المحافظة وضمن ما يحيط بالشأن السوري عموماً. فالانتفاضة توسّعت إلى حد الجزم بأن النسبة الكبرى من الأهالي قد تبنتها، فضلاً عن تبنيها من المرجعيات الروحية الدرزية ذات الاعتبار الكبير اجتماعياً ثم دينياً. ذلك تحقق بعملية سلمية لم يتخللها سوى النادر من أعمال عنف افتعلتها مخابرات الأسد، وكانت على سبيل الاختبار وجسّ النبض ليس إلا.
في الحصيلة النهائية حظيت السويداء بوضعية لم تُتح من قبل لغيرها من المناطق الثائرة، بموجبها أُقصيت عن التأثير أو الوجود مؤسساتُ الأسد المخابراتية والعسكرية، بينما تم الاحتفاظ بالمؤسسات الخدمية والمدنية، فلم يستخدم الأسد أسلوبه المعهود في الانتقام والعقاب الجماعي بحرمان المحافظة من الخدمات الضرورية. ضمن هذا السياق لا يُعرف بعدُ كيف سيكون تعاطي أهل الانتفاضة مع انتخابات مجلس الشعب المزمع إجراؤها منتصف الشهر المقبل، وما إذا كانت ستُترك للسلطة حرية إجرائها وما تقتضيه من تشكيل لجان انتخابية وتوزيع لصناديق الاقتراع وحراستها.. إلخ.
حتى الآن نالت الانتخابات من متظاهري السويداء ما تستحق من لافتات ساخرة، ونال السخرية أي شخص ستسوّل له نفسه الترشّح. والسخرية من انتخابات المجلس هي تقريباً من عُمر إنشائه، حيث تم تعيين أول مجلس بلا اقتراع، بينما أتت الدورات اللاحقة باقتراع شكلي، ولم يكن الأعضاء في أي يوم نوّاباً وممثلين حقيقيين للشعب. لكن المؤسف حقاً هو أن هذا الابتذال الانتخابي الأسدي إما وُجد له تلاميذ نجباء يستلهمونه خارج أماكن سيطرة الأسد، أو أن بعض المسيطرين في تلك “المناطق المحررة” يرون أنفسهم بغنى عن فكرة الاقتراع ككل.
تستطيع السويداء تقديم نموذج أفضل، وأن تستغل المناسبة الانتخابية المقبلة لتقلبها على رأس الأسد. لقد وصلت ثورة السويداء إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه دون إسقاط الأسد، حيث أن تحقيق هذا الهدف يتطلب توافقاً وطنياً وخارجياً. ما نقترحه هنا هو أن تنظّم السويداء انتخابات نيابية حرة بالتوازي مع تلك التي ينوي الأسد إجراءها، وبهذا تستقطب الأضواء إلى تجربة مطلوبة محلياً وخارجياً، بينما ستتكفل المقارنة بتسليط الأضواء على ابتذال وزيف صندوق الاقتراع الأسدي.
السويداء مؤهّلة حالياً أكثر من غيرها لتنظّم انتخابات تختار فيها نواب المحافظة إلى برلمان سوري بديل، ولو أن هذا البديل غير موجود حالياً. العبرة هي في تنظيم انتخابات حقيقية حرة في التوقيت الذي ستحدث فيه تمثيلية الأسد الانتخابية، وبحيث تُجابَه تمثيليته لأول مرة ببديل جاد وبعدم الاكتفاء بالسخرية منها. لا يعيق الفكرة أن البرلمان أو المجلس النيابي البديل عن “مجلس الشعب” لا وجود له، إذ تستطيع السويداء تنكّب الريادة التي تهرّب منها آخرون، وأن تقدّم برهاناً ملموساً على استفادتها من الدروس المريرة لهيئات وفصائل المعارضة.
بمثل هذه المبادرة تتجاوز السويداء التفكير التقليدي الذي يربط كل شيء تقريباً بإسقاط النظام، وهذا هدف مؤجّل كما هو حال عودة سوريا موحّدة. لقد عززت تجارب سلطات الأمر الواقع هنا وهناك الانطباعَ بأن السوريين قادرون على الثورة، وقد فعلوا، إلا أنهم فشلوا في السياسة من خلال هيئات المعارضة، وفشلوا في الحكم من خلال إدارة “المناطق المحررة”. وحيث أن الكثير من ناشطي السويداء يؤكّد على تميّز انتفاضتها، وهذا هو المُرتجى، فإن إثبات ذلك لا يتوقف عند الثورة التي أنجزوها، بل في ما بعدها. ثم إنهم قد اصطدموا بالحائط الذي تنتهي عنده الثورة، ولم تعد للمظاهرات ما تضيفه سوى الاستمرار شبه الاضطراري لأن العودة عنها ستكون بمثابة الخيبة.
من المفهوم أن السويداء تحاشت حتى الآن اختيار قيادة محلية كي لا يجري تأويل ذلك سلباً، خاصة مع الإصرار على دورها الوطني والتذكير بإرث الثورة السورية التي قادها سلطان باشا الأطرش. لعل فكرة انتخاب السويداء حصتها من برلمان سوري بديل تقدّم اقتراحاً يتجنب تلك المحاذير، ومهما كانت التجربة محفوفة بالمصاعب فمن المؤكد أنها ستحظى بالتقدير وتثبت جدارة السوريين بأفضل من السيرك الانتخابي المقرَّر لهم منذ عام 1971.
عذراً التعليقات مغلقة