يبدو أن علي مملوك قد غادر أخيراً منصب رئيس مكتب الأمن الوطني، ليُعيَّن نائباً لبشار الأسد للشؤون الأمنية، وكان هذا منتَظراً منذ سنة ونصف السنة عندما شاعت الأقاويل حول ترقيته نائباً للرئيس، بينما رآها البعض تنحية له عن مركز قوته في مكتب الأمن الوطني. الجديد في الأخبار المعلنة يوم الأربعاء الفائت أن الأسد عيّن اللواء كفاح ملحم، المُدرج على لائحة العقوبات الأمريكية، خلفاً لمملوك في رئاسة مكتب الأمن الوطني. وحلّ اللواء كمال حسن مكان كفاح ملحم في منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وكان قد عًيِّن نائباً لرئيسها في الصيف الماضي، وهو أيضاً مًدرج على لائحة العقوبات الأمريكية.
وكانت التعيينات الجديدة في مطلع العام قد شملت تعيين قحطان خليل، المعروف بجزّار داريا، رئيساً للاستخبارات الجوية، وترقية العديد من الضباط الكبار إلى مناصب أعلى وهم جميعاً “حسب أوساط المعارضة” من مرتكبي المجازر. لكن من الحصافة ألا تُحمّل ترقية ضباط خاضعين لعقوبات دولية أو من مرتكبي المجازر أكثر مما تحتمل، كأن يُظنّ أن الأسد يتحدى واشنطن بترقية البعض، ويرقّي مرتكبي المجازر على سبيل النكاية بمعارضيه أو ترهيب الباقين تحت سيطرته.
يحدث حتى في هذا النوع من السلطة أن تكون محكومة بالمنطق، المنطق الخاص بها لا غير، وإذا فكرنا قليلاً لوجدنا من المنطقي جداً أن يعيّن الأسد هؤلاء في مناصبهم. فنحن نقترب من انقضاء ثلاثة عشر عاماً على زجّ الجيش والمخابرات في حرب فعلية على معارضي الأسد، وفي المحصّلة من الصعب “بل من المستحيل” تصوّر بقاء ضباط كبار في الجيش أو المخابرات بلا تورّط مباشر في المجازر، والاستدلال السليم يقود إلى أن الذين ارتقوا سلم السلطة في هذه السنوات هم الذين برهنوا على وحشية تفوق وحشية أقرانهم.
لذا، سيكون طريفاً في المقابل ما روّجه بعض الصفحات الموالية عن مجيء التعيينات الجديدة مشفوعةً بتعليمات من الأسد تنصّ على تحجيم تدخل المخابرات في المؤسسات الحكومية، ويُذكر أن تحجيم تغوّل المخابرات كان أول ما رُوِّج عن الأسد الابن غداة تسلّمه منصبه. هنا أيضاً يوجد تصوّر يخالف منطق سلطة الأسد الذي يقتضي هذا النوع الفظ، المتغوِّل بلا روادع، من أجهزة المخابرات، بل إنه يقتضي أن تنحدر سوية قادة وأجهزة المخابرات على غرار الانحدار الذي اعترى السلطة في كافة مستوياتها. أما ذلك التصوّر عن إمكانية الإصلاح بحيث تقترب مخابرات الأسد من ممارسة الدور المعهود عالمياً لهذه الأجهزة، بوصفها قوة ناعمة قدر الإمكان، فهو تصور غير واقعي على الإطلاق.
من النكات القديمة المتداولة بين السوريين أن أجهزة المخابرات العالمية اتفقت على التباري، بحيث يكون الفوز لمن يدخل الغابة ويصطاد منها غزالاً بسرعة تفوق الآخرين. هكذا توالى تسجيل الأرقام بالدقائق حتى حان دور عناصر مخابرات الأسد فغابوا ساعات وأثاروا قلق المنافسين الذين قرروا في النهاية دخول الغابة لإنقاذهم من خطر محتمل، فوجدوهم يعذّبون حماراً طالبين منه الاعتراف بأنه غزال. في الواقع لا في النكتة، شهد السوريون في بعض الأحياء الثائرة على الأسد، في أيار 2012، الدبابات في شوارعهم وقد كُتب عليها: قوات حفظ النظام!
والحق أن السوريين قد اختبروا النكتة السابقة طوال عهدي الأسد الأب والابن، والوجه الثاني لذلك العنف المفرط الذي تستخدمه المخابرات هو الفشل في ما يُفترض أنه المهمة الأولى التي تقع في صميم عمل كافة أجهزة الاستخبارات، وهي القدرة على جمع المعلومات بسرعة، واستباق الأحداث ما أمكن ذلك. في النصف الثاني من السبعينات لم تنجح مخابرات الأسد في معرفة الجهة التي كانت آنذاك وراء العديد من عمليات الاغتيال، إلى أن كشفت الطليعة المقاتلة عن مسؤوليتها في مجزرة مدرسة المدفعية. وفي آذار 2011 لم تفشل المخابرات في استباق الثورة فحسب، وإنما كان بعض عناصرها على الحواجز يفتشون المارة بحثاً بين الفيسبوك، ظناً منهم أنه قطعة إلكترونية، وعندما راحوا ينهبون البيوت كانوا في البداية يبيعون المسروقات من الأجهزة الإلكترونية حسب الحجم.
اليوم هناك ضابط مخابرات عتيق في منصب نائب أو مستشار للرئيس للشؤون الأمنية، وثمة مذكرة جلب في حقه من القضاء اللبناني، على خلفية اتهامه بتجهيز العبوات الناسفة التي كان يُفترض استخدامها في استهداف شخصيات دينية وسياسية لبنانية عام 2012، في ما عُرف آنذاك بقضية الوزير السابق ميشال سماحة الذي تمت إدانته. إن وجود أعلى شخصية أمنية في موقع الاتهام هذا دلالة ليست فقط على مدى تورط المستوى العالي في ترتيبات يُفترض أن تترك لمستويات دنيا، وإنما أيضاً على الاستهتار الشديد بمبدأ الحرص والكتمان الذي يميّز قادة المخابرات في العالم عموماً، وهو استهتار مدعوم بعجز القضاء اللبناني عن جلبه، مثلما هو مدعوم بترهيب السوريين بالعنف الفظ المباشر.
هذا النوع من السفور يتنافى مع وصفٍ دارج للسلطة بأنها سلطة مخابراتية، ففي الواقع لا يُعدّ تعذيب الحمار ليقرّ بأنه غزال نظاماً مخابراتياً، إذ من المفترض بالنظام المخابراتي أن يكون سبّاقاً على صعيد تقصي المعلومات، ويُفترض تالياً أن تساهم كفاءته تلك في رسم السياسات الداخلية والخارجية، بما فيها احتساب وضبط منسوب الإرهاب الذي يستخدمه النظام في الداخل أو الخارج. وفق هذا التوصيف، يكون تحوّل الأسد إلى نظام مخابراتي بمثابة حلم يداعب نسبة كبيرة من مواليه قبل معارضيه، لأن ذلك يعفيهم من الترهيب المعمم بلا استثناء.
ووفق منطق السلطة ذاته، لا أمل في التحول إلى نظام مخابراتي، فأجهزة المخابرات الموجودة تؤدي وظيفتها المطلوبة على أفضل وجه، وهي ترهيب عموم السوريين، ليتولى الجيش الحرب على الذين لا تنجح المخابرات في تطويعهم. أما الترقيات والتعيينات ضمن المخابرات والجيش فيمكن الجزم بأنها ضمن المسار الطبيعي للسلطة ككل، المسار الذي لا تقتصر كارثته على عدم التغيير ولو قليلاً نحو الأفضل، وإنما الكارثة الحقيقية تكمن في ما يبدو تردّياً حتمياً. كأن هناك قوة قاهرة تقول لقسم من السوريين أن التغيير الذي يرغبون فيه ممنوع، بينما تقول للقسم الآخر أن التغيير الوحيد الممكن هو ذاك الذي يجعلهم يندمون على أنهم تمنّوا حدوثه؛ وكأن كل مستجد في منصب يصنع لسابقيه ماضياً جميلاً!
عذراً التعليقات مغلقة