لست من المقتنعين بأهمية القمة العربية الأخيرة، ولا بكل سابقاتها، وأيضاً بكل ما يقال ويتم ترديده عن مسار عربي تم الاتفاق عليه ويحضر للتنفيذ لحل المعضلة السورية، وذلك لأنني لا أرى له أي أهمية؛ فالواقع العربي والدولي في لحظته الراهنة أكبر من أن تتمكن دول مأزومة في معظمها من أن تقرر أو تفعل فيه. بصريح العبارة، هي ليست قمة إيجاد حلول للأزمات العربية المستعصية. إنها قمة ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” الذي يتطلب مشروعه الاقتصادي منطقة أكثر استقرارا، وأقل صراعات إن لم تكن من غير صراعات. لكن هل توصل القرارات والشعارات وإغماض العين عن جوهر الصراعات إلى إنهائها؟!
في معظم النقاش الدائر حول القمة الأخيرة والتي شارك فيها بشار الأسد بعد غياب 12 عاما يغيب السؤال الأهم وهو كم يمتلك من اجتمعوا في جدة من الممكنات لحل المعضلة السورية؟ وإلى أي حد يمكن فعلا أن يمتلك القادة العرب النية أولا، والقرار ثانيا، لمعالجة مشكلاتهم الكثيرة والبنيوية المستعصية بعيدا أو بمعزل عن الأطراف الدولية، أو عن الصراع الأساسي الدائر اليوم بين كتلتين كبيرتين اقتصاديا وعسكريا. وأيضا، بصريح العبارة مرة أخرى، كيف يمكن للسعودية أن تمضي في إيجاد حل في سوريا وهي تتعمد تجاهل الجذر الحقيقي للمعضلة السورية؟
منذ أن اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا بدأت السعودية سياسة جديدة تستند إلى رؤية جديدة للمنطقة على ضوء المستجد الجديد في الصراع الدولي، فظهرت مواقفها الرافضة للإملاءات الأميركية، ثم ظهرت بوادر التقارب العميق مع الصين وروسيا، وتم مؤخرا توقيع اتفاق تقارب مع إيران وإعادة العلاقات بينهما، وها هي تقرر إعادة سوريا إلى الجامعة العربية. يظهر جليا في هذه الخطوات كلها سعي السعودية إلى تصفير مشكلات المنطقة خدمة لرؤيتها الجديدة ومشروعها الذي ذكره ولي العهد “محمد بن سلمان” مرارا. باختصار لم تفكر الخطة العربية في الشعب السوري، ولا في طبيعة النظام السوري، ولا في حقيقة علاقته وارتباطه العميق بإيران؛ وهي الآن تخطو خطوة في فراغ.
مشكلة سوريا أعقد من بضع مليارات، وأعقد من عودة قسم من اللاجئين، وأعقد من وضع حد لتجارة الكبتاغون
بعيدا عن الإحساس بالخذلان الذي يعيشه السوريون المعارضون اليوم، وبعيدا عن مهزلة الانتصار الذي يرقص على وهمه سوريون آخرون، هناك حقائق عديدة لم تعد خافية، ونسيانها أو تجاهلها لن يفيد في شيء. هذه الحقائق لم تتبدل أو تتغير قبل القمة أو بعدها، وتغييرها في حاجة إلى معطيات ملموسة ومعاشة على الأرض. وبالتأكيد، فإن الوقائع المعاشة لا تخلقها قمة أو قرار أو مليارات يسهل رصدها، فمشكلة سوريا أعقد من بضع مليارات، وأعقد من عودة قسم من اللاجئين، وأعقد من وضع حد لتجارة الكبتاغون.
في القمة الأخيرة اتضح تماما أن النظام السياسي العربي بمجمله لا يزال كما هو منذ عقود، ولم تفرض التغيرات الهائلة التي اجتاحت العالم أي تطور في منهجيته أو طريقة تعاطيه مع الواقع المرّ للشعوب العربية وأزماتها المتفاقمة والتي نجمت أساسا عن طريقة إدارة هذا النظام لدوله ومجتمعاته. ومن حضر في القمة – كعادة كل القمم – هم قادة وزعماء يحمل كل منهم مشكلاته وهمومه وأزماته، ويقتصر ما يسعى إليه على محاولة الاستفادة من القمة في ترسيخ سلطته.
ربما تختلف قمة اليوم عن سابقاتها من حيث ظهور مصدر قلق إضافي لم يختبره القادة العرب سابقا، ويمكن تلخيصه بأن تبعيتهم التاريخية المطمئّنة والمحسومة لطرف ما تحتاج اليوم إلى مستحقات أكبر من كرسي السلطة، والقمع، وبناء السجون، فهم عباقرة في هذه الأمور، لكن أمامهم اليوم نظام اقتصادي عالمي يهتز بشدة ومحاور جديدة تتشكل، وعالم يتبدل على وقع صراع بالغ الخطورة وليس من السهولة تقرير مصير النظام العربي وتموضعه ضمن الصراع العالمي الراهن. فالراسخ الوحيد في هذا النظام العربي البائس والمحكوم بالهزيمة مهما طال الزمن إنما يكمن في تصميمه على تجاهل الشعوب وحقوقها.
في “جدّة” لم يكن بشار الأسد يريد ما يتجاوز الحضور؛ فهذا الحضور يمنحه وضعا أفضل في معركة سحق شعبه، ويمنحه بعض الشرعية التي فقدها منذ أن اجتاحت دباباته بيوت السوريين، ويقوي من فرصة فك العزلة عنه بوصفه نظاماً مارقاً مجرماً، فهل كان يحلم بأكثر من هذا؟! أما ما تبقى من خطة “خطوة مقابل خطوة” فلسان حاله يقول للعرب “انقعوها واشربوا ميتها”. ولهذا كان ممثلا لإيران وروسيا في القمة، ولم يكن أبدا ممثلا للشعب السوري الذي لم يحظ بأي ذكر في كلمته أمام القمة.
يبدو أن هناك من “ما يزال” يتوهم من القادة العرب أن السوريين سيعودون صاغرين تحت مظلة حكم عائلة الأسد
الحقيقة الأهم التي قالتها القمة العربية الأخيرة في جدة، والتي يجب أن يعيها السوريون جيدا هي أن طمس جوهر ما يحدث في سوريا، وتغييب حقائق ما حصل في الثورة السورية خلال سنواتها كلها، هدف رئيسي لأطراف دولية كثيرة في مقدمتها النظام العربي؛ وأن اختصار حلم السوريين وتضحياتهم بقضايا المساعدات وعودة قسم من اللاجئين والعفو عن معارضين هو محاولة للإجهاز على حلم السوريين بالحرية والكرامة.
اليوم تحاول القمة العربية رسميا إعلان انتهاء الثورة السورية، وتعلن أن ما بعدها هو ما يجب العمل عليه. لكن يبدو أن هناك من “ما يزال” يتوهم من القادة العرب أن السوريين سيعودون صاغرين تحت مظلة حكم عائلة الأسد، ومن يتوهم أنه بإعلان انتهاء الثورة السورية يغلق الباب أمام ثورة من يحكمهم.
اليوم، وكما قال النظام الرسمي العربي كلمته، يتوجب على السوريين أن يقولوا كلمتهم أيضا؛ وأقصد بهذا السوريين كلهم لأن الأمر لم يعد مجرد خلاف في الرأي: إنه أولا وأخيرا، ومنذ البداية، مسألة وجود أو لا وجود.
Sorry Comments are closed