أولًا: مقدمة
عاد النظام السوري ليشغلَ مقعد سورية في جامعة الدول العربية بعد 12 عامًا من تجميد عضوية سورية في الجامعة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، على خلفية موقف النظام من مبادرتَي الجامعة العربية الأولى والثانية عام 2011، لوقف العنف الذي مارسه بحقّ الشعب السوري، الذي ثار في آذار/ مارس 2011 مطالبًا بالتغيير بعد 40 عامًا من حكم الأسدَين الأب والابن. وقد عقدت جامعة الدول العربية قمّتها العادية الثانية والثلاثين في مدينة جدة السعودية، بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023، بدعوةٍ من المملكة العربية السعودية بصفتها رئيسة القمة لهذه الدورة، وبحضور زعماء وممثلي جميع دول الجامعة الـ 22، ومن بينهم بشار الأسد مترأسًا وفدًا، لأول مرة منذ اثني عشر عامًا.
وجاء حضور سورية مؤتمر القمة، بعد أن ألغى اجتماع وزراء الخارجية العرب الطارئ، الذي عقد في القاهرة بتاريخ 7 أيار/ مايو 2023، تعليق عضوية سورية، بدفع من دول اجتماع عُمَان الخماسي.
ثانيًا: الاندفاعة العربية تجاه النظام السوري
كانت مشاركة الأسد في هذه القمة، تتويجًا لحراك دبلوماسي نشط منذ حدوث الزلزال المدمّر في الخامس من شباط/ فبراير 2023، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية، وأفسح المجال أمام التعاطي العربي مع النظام السوري، على خلفية البعد الإنساني، لكن هذا المسار تتابع بخطى حثيثة بعد الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني، الذي أنجز برعاية صينية بتاريخ 10 آذار/ مارس 2023، ثم تلاه اجتماع جدّة السداسي بتاريخ 14 نيسان/ أبريل 2023، واجتماع عمان الخماسي ومخرجاته التي وضعت خريطة طريق لمسار التطبيع مع النظام السوري، خطوة خطوة، في الأول من أيار/ مايو 2023، وهي فكرة أطلقها المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، وتقوم على مقاربة عربية روسية، لا تشمل دول الغرب.
وكان من اللافت تسارع خطوات التطبيع مع النظام السوري، فما بين شهري شباط/ فبراير، وأيار/ مايو 2023، تحول النظام من سلطة معزولة إلى دولة يرحّب الحاضرون في القمة بعودتها. وهنا يمكن الوقوف على دور دولتَين كان لهما الدور الأبرز في عودة النظام ورئيسه بشار الأسد إلى الجامعة العربية؛ أولاهما الأردن، مدفوعًا بمجموعة مصالحه وبعدد من الضغوط، منها أعداد اللاجئين الكبيرة، وتهريب الكبتاغون بكميات كبيرة جدًا من سورية عبر الأردن باتجاه دول الخليج. وقد بدأ الأردن حراكًا دبلوماسيًا على مستويين عربي ودولي، للترويج لعودة سورية إلى الجامعة العربية والتطبيع مع النظام، وفق سياسة الخطوة خطوة، وثانيتهما المملكة العربية السعودية، التي اندفعت بعد توقيعها الاتفاق مع طهران برعاية صينية، للتحرك على الملفات الأربعة، التي تكون إيران طرفًا فيها وفي حرب وكالة مع المملكة، وقد بدا الموقف السعودي وكأنه تنفيذ لأحد بنود اتفاقها الأخير مع إيران، إضافة إلى سعي السعودية للعب دور قيادي نشط على المستوى العربي الذي ضَعفت فعاليته كثيرًا، ومحاولتها سدّ بعض الفراغ الأمني الناشئ في المنطقة، وتقدّمت كل من إيران وتركيا لملئه. وتسعى السعودية لتحريك ملفات الصراع في المنطقة، بعد أن دفعها إلى الخلف الغزو الروسي لأوكرانيا وانشغال الدول الكبرى بهذه الحرب، إذ ترى السعودية أن من مصلحة جميع الأطراف في المنطقة أن تهدأ الساحات قليلًا، وأن تقف أو تتراجع التداعيات السلبية التي سببتها.
ثالثًا: في مجريات القمة والموقف السوري
اختتم وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان القمة، مؤكدًا أن القادة العرب وافقوا على بيان جدة، بدون تحفظ، الذي أعدّه الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية العرب للقاء القمة، وتضمن 22 بندًا، تطرقت إلى قضايا فلسطين وسورية ولبنان والسودان والتعامل مع إيران وقضايا الأمن القومي العربي والأمن الغذائي والملفات الاقتصادية والاجتماعية، وقد رحّب رئيسُ القمة وأغلب الرؤساء الذين تكلموا بعودة سورية إلى الجامعة، عدا أمير دولة قطر، الذي غادر القمة قبل إلقاء رئيس النظام السوري كلمته، أما في ما يخصّ سورية، فإنه بعد ديباجة بيان الجامعة التي تؤكد على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، ورفض التدخلات الخارجية في شؤونها، ومحاولة حل القضايا الإنسانية للشعب السوري، فإنّ البيان يأمل بأن تسهم عودة سورية في دعم الجمهورية العربية السورية واستقرارها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، ويؤكد أهمية مواصلة تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سورية على تجاوز أزمتها، وتعزيز الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سورية، اتساقًا مع المصلحة المشتركة والعلاقات الأخوية التي تجمع الشعوب العربية كافة، وكان في البيان بندٌ آخر بخصوص سورية، يشدد على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة[1]. ولكن البيان لم يأت على ذكر حل الأزمة السورية وفق قرارات الأمم المتحدة.
اتسمت كلمة بشار الأسد في القمة بالحديث عن قضايا عديدة عالمية وإقليمية وعربية، ولم تكن من بينها الأزمة السورية، رغم أن أكثر من نصف مليون سوري قد قُتل، ودمّرت مساكنها وبنيتها التحتية واقتصادها ومجتمعها، وأصبح أكثر من نصف سكان سورية لاجئين في الخارج أو نازحين في الداخل، وتعاني سورية أوضاعًا اقتصادية واجتماعية صعبة جدًا، وأصبحت مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة. ولكن الأسد غمز في كلمته من قرار الجامعة العربية بتجميد عضوية سورية في الجامعة سنة 2011، إذ قال: “أن تكون الجامعة ملجأ من العدوان لا منصّة له، وأن يكون دورها كمرمم للجروح لا كمعمق لها، وأن تترك الجامعة القضايا الداخلية لأعضائها لشعوب هذه الدول، فهي قادرة على تدبير شؤونها، وما عليها إلا أن تمنع التدخلات الخارجية في بلدانها، وأن تساعدها عند الطلب حصرًا”[2]. ولم يتطرق إلى نتائج اجتماع جدة السداسي، واجتماع عمان الخماسي.
وصرّح الأمين العام لجامعة الدول العربية “أحمد أبو الغيط”، في مؤتمره الصحفي بُعيد انتهاء أعمال القمة، بأن “العرب يريدون أن ينخرطوا بقوة لحل الأزمة السورية”، وأضاف: “أتصور أنه يجب أن نعمل بمعزل عن القوى الخارجية في الملف السوري، لأن هذا أمر خاص بالشأن العربي، وعلينا إقناع القوى الأخرى بهذه الإرادة العربية، وألا نسعى للصدام مع هذه القوى”[3]. ولا شكّ أن إقناع الأطراف التي لها قوات على الأرض السورية، بأن القضية السورية هي قضية عربية، هي مهمة صعبة، خاصة أن مخرجات قمة جدة لم تكشف عن رؤية وأدوات عربية قادرة على تحقيق هذا الهدف البعيد.
وبخلاف بيان القمة العربية، جاء بيان مؤتمر الدول السبع الكبار الذي عقد في اليابان بعد يوم واحد من قمة جدة، ليشدد على موقف هذه الدول الرافض للتطبيع مع النظام السوري والمساهمة عملية في إعادة الإعمار ما لم يتم إحراز تقدم حقيقي ودائم نحو حل سياسي، ويؤكد التزام الدول السبع بعملية سياسية شاملة تسهلها الأمم المتحدة بما يتفق مع قرار مجلس الأمن 2254 في سورية.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل قال في مؤتمر صحفي تعقيباً على مشاركة الأسد في قمة جدة: “موقفنا واضح.. لن نطبع العلاقات مع نظام الأسد، ونحن بالتأكيد لا ندعم قيام الآخرين بذلك أيضًا”[4].
أما جريدة الفايننشال تايمز اللندنية، فقد وصفت وجود بشار الأسد في القمة العربية بالرسالة المرعبة لضحايا النظام، واعتبرت الغارديان الفرنسية أن محاولة إعادة تأهيل الأسد “أمرٌ مخزٍ تمامًا”.
رابعًا: استنتاجات
–شكّلت القمّة نصرًا سياسيًا لبشار الأسد، ولكن الواقع يقول إنه نصرٌ مؤقّت؛ حيث إن العقوبات الأميركية والأوروبية ما زالت قائمة وفاعلة. ولم تعكس كلمة بشار الأسد تفاؤلًا بأن يكون لهذه القمة أثر يتجاوز الخطابات، فقد اتسم خطابه بالابتعاد عن أيّ موضوع ملموس يتعلق بالحل في سورية، وهاجم تركيا بقوة، مما يشير إلى أن طريق التطبيع مع أنقرة ما زال مغلقًا، وأن موسم الحديث عن التطبيع معها ربما ينقضي بانتهاء الانتخابات التركية.
–يعتبر كثير من المتابعين أن السعودية، باندفاعتها الأخيرة نحو النظام، قد أقدمت على مغامرة جريئة، وهذا يمكن تفهّمه، فعندما وقّعت السعودية على اتفاقها مع إيران، في آذار/ مارس الماضي، والذي ما زال قيد الاختبار، كان لا بد لها من التعاطي مع الملف السوري على الطريقة التي افتتحت فيها هذا المسار غير مضمون النتائج، ذلك أن إيران متدخلة بقوة في الملفّات الأربعة التي تشكل مصدر قلق وتوجس وإشغال من التوجه الإيراني.
–يدرك السعوديون حدود قدرتهم على الإيفاء بما يعدون به، لذلك هم حذرون في اختيار كلماتهم، ففي المؤتمر الصحفي الذي تكلم فيه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، عقب انتهاء فعاليات القمة، قال: “سوف نُجري حوارًا مع شركائنا في الغرب، ونحن مهتمون بعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وشركاؤنا سوف يساعدون بذلك، وهناك قرارات أممية تسمح بجهود التعافي المبكر”. وهو يقصد القرارين الأمميين 2642 و2672[5].
–قد يعوّل الأسد على العلاقات الثنائية مع الدول العربية، بخاصة تلك الدول التي لها قدرة ودور في التأثير على القرار الأميركي ودفعه إلى تعليق العقوبات الواقعة عليه، أو تخفيفها، والمعنيّ هنا بالدرجة الأولى السعودية والأردن، بحكم تحالفهما المديد والراسخ مع الولايات المتحدة الأميركية، أو تقديم المساعدات المالية للتخفيف من شدة أزمته الاقتصادية الخانقة.
–السؤال الذي يطرح نفسه يتعلّق بمدى النجاح الذي قد يصيبه هذا الانفتاح على النظام السوري، وفقًا لما طُلب منه من استحقاقات في مخرجات الاجتماع الخماسي في عمان، وفي مقدمتها التعاون الأمني، وخصوصًا في مجال مكافحة تهريب المخدرات التي تشكّل أحد مصادر القلق لدول الجوار والخليج، وكذلك التنسيق مع هيئات الأمم المتحدة لتسريع تنفيذ مشاريع التعافي المبكر وتحسين البنية التحتية في المناطق التي يتوقع عودة اللاجئين إليها، وأيضًا اتخاذ خطوات فعلية لاستئناف أعمال اللجنة الدستورية في أقرب وقت ممكن، وستقابل الدول المعنية خطوات النظام الإيجابية بخطوات مماثلة، في حال تمّت، ويتم البناء عليها بهدف التدرج للوصول إلى حل سياسي يُنهي معاناة السوريين ويحقق المصالحة، بحسب ما تأمله تلك الدول، ولكن ثمة شكوك كبيرة في نجاح هذا المسار.
–تقف أمام هذا المسار عقبتان، ليس من السهل تجاوزهما؛ الأولى تتوقف على مدى تفاعل النظام السوري مع استحقاقات هذا المسار، ومدى قدرته على تنفيذ التعهدات التي قطعها على نفسه، خاصة مع نفوذ إيران القوي جدًا على النظام السوري، بحكم اعتماده عليها أمنيًا واقتصاديًا. وعلى الرغم من أن إيران باركت عودته للجامعة العربية، فإنها ستعرقل أي تقارب للنظام مع دول الخليج، وستواجه أي دور عربي قد يضعف وجودها في سورية وتأثيرها على النظام، ولديها أدواتها القوية في سورية، ولكنها سترحّب بأي مساعدات مالية خليجية للنظام.
والعقبة الثانية هي مدى تجاوب الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي مع المحاولات العربية المتوقعة، لإلغاء العقوبات أو تخفيفها، في ظل تشدد واشنطن في مسألة الانفتاح على النظام، واحتمال صدور قانون جديد ضد التطبيع، يُلزم الإدارات الأميركية بعدم الاعتراف ببشار الأسد رئيسًا لسورية، وبعدم الاعتراف بأية حكومة يرأسها الأسد، ويشدد عقوبات قيصر والرقابة المالية على الأموال الواردة إلى مناطق النظام التي تزيد عن 50 ألف دولار للعملية الواحدة، وقد أُقرّ مشروع القانون من قبل لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وينتظر التصويت عليه في غرفتي البرلمان الأميركي، وفي حال إقراره، ولو مع بعض التعديلات، فإنه سيقطع الطريق على أي محاولة لإعادة تأهيل النظام، على الرغم من أن بعض التقديرات تفيد باحتمال عدم تمريره. وسيشير عدم تمريره الى أن الإدارة الأميركية موافقة ضمنًا على خطوات التطبيع العربية.
–تأخر العرب كثيرًا للعب دور في سورية، ففي سنوات غيابهم وطّدت كلٌّ من إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة وجودها العسكري ودورها السياسي في سورية والصراع الدائر فيها، وتبدو الأدوات التي أعلنها مؤتمر القمة غير فاعلة بقوة لتخلق أي تأثير يذكر، خاصة أن البيان الختامي لم يُشر إلى ضرورة الحل في سورية، ولم يشر إلى قرارات الأمم المتحدة، وتمت صياغته بما يرضي الأسد، بينما لم يقدّم الأسد أي تنازل أو وعد سوى إشارته إلى الانتقال من حضن إلى آخر، وهو كلام عامّ لم تفهم غايته بدقة.
–إن تجاهل التحرك العربي، منذ شباط الماضي حتى مداولات مؤتمر جدة، لتطلّعات الشعب السوري، وعدم إجراء اتصالات بهيئات المعارضة السورية، لوضعها في صورة التحركات العربية وحدودها، يستدعي من هذه الهيئات إعادة النظر في وضعها وتموضعها، ويوجب عليها التحرّك بحيث يمكن للشعب السوري أن يستعيد جزءًا من حضوره في قضيته.
–مشكلة الأسد بالأساس هي مع الشعب السوري، وليست مع الدول العربية أو الأجنبية، ولم يبرز في كلمة الأسد في القمة أنه يبحث عن حل مع الشعب السوري، كما لم يبرز في مواقفه السابقة على مدى 12 عاما، كما أن كل المبادرات التي يجري الحديث عنها، لم تقترب من تقديم حل حقيقي للأزمة السورية، يفتح الطريق لتمثيل إرادة الشعب السوري، وعودة اللاجئين إلى بيوتهم، وإطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين، والكشف عن مصير مئات آلاف المفقودين، وإعادة إعمار سورية ماديًا ومجتمعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وبالتالي فهي قد لا تعدو أن تكون محاولات مدفوعة بضغوط أزمة اللاجئين السوريين، ومخاطر تهريب الكبتاغون، وبمصالح ورؤى أطراف عربية، تبالغ في قدرتها على التأثير على الأسد ونظامه المتحالف عضويًا مع إيران.
مراجع:
[1] ) انظر إعلان جدة، البيان الختامي للقمة العربية 32، موقع وزارة الخارجية السعودية، https://www.mofa.gov.sa/ar/ministry/statements/Pages/%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%AC%D8%AF%D8%A9.aspx
[2] ) كلمة بشار الأسد أمام القمة العربية 32 في جدة، موقع قناة العربية على يوتيوب، https://www.youtube.com/watch?v=_zWM_D2ZEVw
[3] ) بوابة الأسبوع المصرية، تاريخ 19/5/2023 https://www.elaosboa.com/913578/
[4] انظر: بعد “الحدثين اللافتين” في قمة جدة.. ماذا أرادت السعودية إثباته “للعالم”؟، موقع الحرة، 19/5/2023، https://2u.pw/hI6VwE
[5] ) المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية السعودي وأمين عام الجامعة بتاريخ 19/5/2019، ونقلته صحيفة عكاظ السعودية https://www.okaz.com.sa/news/politics/2133846
- تقدير موقف صادر عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة
عذراً التعليقات مغلقة