تصل العقوبة في بعض الدول الى الإعدام، في حين تتجاهل دول أخرى تطبيق القوانين الخاصة بالتجديف وازدراء الأديان بذريعة احترام حرية الرأي والتعبير، بينما نجد أن هناك دولا لم تتطرق إلى هذه الأفعال لا بالتجريم ولا الإباحة.
مفهوم ازدراء الأديان والتجديف: أفترض هنا أنه لن يصعب على القارئ فهم المقصود من ازدراء الأديان، لكن اللبس قد يظهر عند مصطلح التجديف، الواقع أن للمصطلحين من حيث المبدأ نفس المعنى، وبشكل أدق يمكن القول إن التجديف يتضمن ازدراء الأديان، و إن كان مفهومه (التجديف) يتسع ويضيق حسب التعريفات الواردة في قوانين كل دولة، والتي تؤثر فيها اعتبارات عدة، أولها اتساع وضيق هامش الحريات المعترف بها وتفسير هذه الحريات، خاصة حرية التعبير عن الرأي.
و بالتعريف، التجديف هو كل فعل ينطوي على إهانة أو ازدراء أو عدم احترام وتقدير الإله أو الأشخاص والأشياء المقدسة أو أي شيء يعتبر مقدسا أو ذا حرمة بالنسبة لجماعة ما، و كل خطاب (أيا كان شكله) يراد به التحريض على جماعة دينية أو إهانة مقدساتهم أو الترويج لأفكار متطرفة، بغض النظر عما إذا كانت هذه الجماعة تشكل أغلبية أو أقلية دينية أو عرقية أو أثنية أو ثقافية أو غيرها.
وجريمة التجديف كغيرها من الجرائم، حيث لا بد لقيام جريمة التجديف (ازدراء الأديان) من توفر الأركان الثلاثة المشروطة قانونا وهي:
الركن المادي (السلوك المجرم بنص القانون) والمتمثل في هذه الجريمة بالإتيان بأي من الأفعال أو الأقوال التي يعتبرها القانون تطاولا على الذات الإلهية أو الأشخاص والأماكن المقدسة، أو الشعائر الدينية أو الكتب السماوية أو غيرها من المقدسات بالنسبة لجماعة ما، وينتج عن إتيان هذه الأفعال أو الأقوال ضرر نفسي للآخرين، بالإضافة إلى ضرر يتمثل في إثارة النعرات الدينية ويتسبب في خلخلة البنية المجتمعية مما يؤثر سلبا على تماسكها.
الركن المعنوي (القصد الجنائي)، يقوم الركن المعنوي على عنصرين وهما العلم والإرادة، أي يجب أن يكون الجاني على علم بأن ما يقوم به من أفعال أو ينطق به من أقوال يشكل جريمة (تجديف) بموجب القانون، وأن تتجه إرادته الحرة إلى إتيانها.
الركن الشرعي (لا جريمة و لا عقوبة الا بنص قانوني)، حيث إنه من الثابت قانونا لا يمكن معاقبة أحد على أي فعل إلا إذا كان هذا الفعل مجرما بنص قانوني ساري المفعول وقت ارتكابه.
التجديف بين الجريمة وحرية التعبير
رغم وجود العديد من المواد القانونية في إطار منظومة حقوق الإنسان والتي تنص على الحق في حرية اعتناق الأديان وممارسة الشعائر الدينية، وتفرض على الدول الاعتراف بهذه الحقوق والحريات وحمايتها ، الا أن الجدل لايزال قائما بين الحقوقيين ورجال الدين أنفسهم حول مفهوم التجديف وتحديد مدلولاته ومشمولات مواد القوانين المتعلقة به وكيفية استخدامها، مما انعكس على اختلاف الدول في التعاطي مع هذه المسألة ضمن قوانينها الداخلية، فبينما يعتبر (ازدراء الأديان) جريمة تصل عقوبتها الى الإعدام في بعض الدول الإسلامية (السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والصومال ونيجيريا وغيرها) و إن كان من النادر جدا تطبيق هذه العقوبة، وذلك في ظل تنامي الضغوط الدولية والوطنية لاحترام حقوق الإنسان، خاصة الحق في الحياة، تعتبره بعض دول أوروبا التي لا تزال تحتفظ بقوانين حظر التجديف (المانيا وإيطاليا وإسبانيا واليونان والنمسا وبولندا وروسيا) جناية يعاقب عليها بالسجن أو الغرامة، وإن كانت معظم الدول الغربية لا تعمل بهذه القوانين إلا في الحالات التي تتصدر فيها بعض القضايا الإعلام، أو تلك التي تثير حفيظة المنظمات والجماعات المدافعة عن حقوق الانسان أو إذا كان السلوك يدعو إلى الكراهية والعنف، نجد أن بعض الدول الغربية (فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا وايرلندا والسويد والدنمارك) قد اتجهت إلى إلغاء القوانين أو المواد القانونية التي تجرم هذا السلوك، في إعمال واسع ومبالغ فيه لمفهوم حرية الرأي و التعبير، ويسوق أنصار كل التوجهات السابقة حججهم ومبرراتهم لدعم النهج الذي تبنوه في قوانينهم الوطنية، والذي يتماشى في النهاية مع التوجه السياسي والمجتمعي والقانوني العام للدولة.
في كل مرة يتعرض فيها الشعور الديني لجماعة ما للاعتداء يثور الجدل حول أحقية هؤلاء المجدفين بالتعبير عن آرائهم بأي شكل يختارونه، ويطرح التساؤل حول ضوابط حرية الرأي والتعبير في القوانين الدولية والوطنية، ويبقى السؤال الأهم، ألا تؤثر مثل هذه التصرفات سلبا على المجتمع الذي تسعى القوانين في النهاية إلى حمايته؟
يعتبر الحق في حرية الرأي والتعبير من الحقوق الأساسية للإنسان التي كفلتها وأكدت عليها معظم المواثيق الدولية كونها تشكل إحدى أهم ركائز المجتمع الديمقراطي المتحضر، فقد نصت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه (لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود)، و هذا ما نصت عليه المادة 10 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والمادة 13 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان وأيضا المادة 32 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان.
إلا أن التشريعات الدولية لم تترك هذا الحق وممارسته طليقا دون قيود، حتى لا يساء استخدامه بالشكل الذي يؤدي إلى الاعتداء على حريات الآخرين ومعتقداتهم، أو بالشكل الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالنظام العام للدولة، فقد نصت الفقرة (3) من المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على جواز تقييد حرية التعبير المنصوص عليها في الفقرة (2) من نفس المادة، وبررت هذا التقييد بضرورة احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، واشترطت أن يكون هذا التقييد محددا بنص القانون.
و من الضوابط التي تبيح تقييد حرية الرأي والتعبير ضابط احترام المشاعر الدينية، و هذا ما أكدت عليه الفقرة (2) من المادة (20) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي نصت على حظر دعوات الكراهية الدينية التي تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف، كما جرمت الفقرة (5) من المادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان كل ما من شأنه الدعوة إلى الكراهية الدينية أو القومية ضد شخص أو جماعة بناء على أسباب عدة من بينها دياناتهم.
المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أقرت بدورها إمكانية تقييد حرية الرأي إذا كان هذا الرأي يمثل انتقادا للأديان بشكل افترائي و أصدرت في هذا الخصوص حكما في العام 2018 يقضي بفرض غرامة مالية على سيدة نمساوية شككت في ندوة عامة في اعتبار النبي محمد نموذجا يحتذي به المسلمون، ووصفت زواجه من السيدة عائشة بالاستغلال الجنسي للأطفال، وجاء في قرار المحكمة: “من غير الجائز حماية تصريحات مستندة إلى حقائق كاذبة تحت مبدأ حرية التعبير”، واعتبرت المحكمة وصف النبي محمد بالغلماني أو مشته الأطفال هو إتهام باطل لأن الغلمانية هي تفضيل جنسي عام، ومع الافتقار إلى السياق التاريخي، فإن الموضوع بحسب المحكمة يتعلق بحكم تقديري لا يستند إلى أساس وقائعي كاف، واعتبرت المحكمة أن هذه التصريحات تجاوزت الحد المسموح به في النقاش وصنفت هذه التصريحات كهجوم مسيء على رسول الإسلام بل إنها تعرض السلام الديني للخطر.
يتبين لنا من هذه النصوص و الأحكام كيف أن القانون قد أخضع الحق في حرية الرأي والتعبير إلى العديد من الضوابط ولم يتركه مطلقا، و هذا ما تتطلبه الموازنة بين الحق في إيصال الرأي والتعبير عنه دون الانفلات الذي قد يؤدي إلى التشجيع على الكراهية بين البشر أو العنف أو التعدي على حقوق وحريات الآخرين، فالحقوق والحريات إنما أقرت من أجل تحقيق أهداف سامية لا من أجل نشر الكراهية والعنف و تغذية الإرهاب.
و أخيرا، يمكن القول إن حرية الرأي والتعبير التي تؤدي الى ازدراء الأديان إنما هو مغالاة في تفسير هذا الحق الأمر الذي يصل الى انتهاك حقوق وحريات الآخرين، حتى و إن طال هذا الانتهاك الشعور الديني لجماعة ما، كما أنه سيؤثر حتما على التماسك المجتمعي للدولة وبالتالي يضر بالنظام العام والأمن العام.
وعليه، فإن على الدول إعادة النظر في تشريعاتها الداخلية بشكل يحاكي المواثيق والاتفاقيات الدولية والنظر إلى حرية الرأي على أنه من الحقوق النسبية التي يجب أن توضع ضمن إطارها القانوني بالالتزام بحدود النظام العام للدولة وحماية حقوق الآخرين.
عذراً التعليقات مغلقة