لا تنفصل النشاطات الإنسانية عن بعضها البعض في ما يتعلق بالأداء الجماعي، وتعكس كل ظاهرة منها مستوى معيناً يمكن الاستدلال به حيال الأخرى. بالتالي فإنّ نجاح عمل جماعي في الفن أو الرياضة، لا ينفصل عن نظيره في السياسة أو التعاون النقابي وغيره.
وفيما يجد العرب في تقدّم المنتخب المغربي في كأس العالم في قطر، مفاجأة، وصدمة، وغير ذلك من التعبيرات المؤشرة على فقدان الإحساس بالمقدّمات، تبدو المملكة المغربية نموذجاً مختلفاً عن غيرها خاصة في السنوات الدامية الماضية التي تلت تفجّر الربيع العربي.
بغض النظر عن اختلاف شكل نظام الحكم، بين ملكي وراثي وجمهوري لم ينضج بعد، يتوجّب السؤال وبعمق هذه المرة؛ كيف تعامل المغرب مع تلك الموجة؟.
انطلقت موجة الربيع العربي بالأساس من المغرب العربي، من تونس، حيث العمل النقابي والحزبي الأكثر حيوية من مثيله في المشرق العربي، وما لبثت أن امتدّت إلى بلدين جارين هما ليبيا ومصر، قبل أن تنتقل إلى المشرق، في سوريا واليمن، وعلى الجناح الأفريقي من الوطن العربي، كانت الجزائر آخر الملتحقين بالركب، ومعها السودان، إلا أنّ المملكة المغربية اختارت أن تمرّ عليها موجة الربيع بطريقة مختلفة.
التقط الشارع المغربي الشرارة فاندلعت مظاهرات “حركة 20 فبراير” التي طالبت بالتغيير. وكان المغرب قد عبر طريقاً طويلاً من الإصلاح منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني وعلى يد العاهل المغربي الحالي محمد السادس، ما أعطى إشارة إلى المتظاهرين السلميين أنّ الإصلاح ممكن، فوضعوا أعينهم نصب إصلاح الدستور أولاً.
على الرغم من وجود تيار آخر رفض الإصلاح الدستوري وشكّك بشرعيته. غير أنّ ذلك الاختلاف بين الفريقين لم يمنع من ظهور نسخة العام 2011 من الدستور المغربي الجديد.
ويرجع البعض أسباب الاختلاف البارز في نمطي التغيير بين المشرق والمغرب، إلى اختلاف الثقافات الإصلاحية بين مجتمعيهما، مع أنّ الاثنين؛ المشرق والمغرب، تتحكم بهما العوامل ذاتها تقريباً، والهوية ذاتها، والدين ذاته، والمنغّصات المعيشية والوطنية ذاتها.
بل حتى تركة الاحتلالات الاستعمارية والحركات الانفصالية التي تستهدف الدولة الواحدة ما زالت تنشط هنا كما تنشط هناك.
وكلّما ابتعدت عن المغرب نحو الشرق، وجدتَ أنّ حدّة النزاع تزداد أكثر، والمطالبة بالاجتثاث الجذري تشتدّ أكثر وأكثر.
إذاً قد يكمن الاختلاف في الحمولة الثقافية التي يتمتع بها الأفراد في المكانين، في حالة الحاكم أو المحكوم على حد سواء.
لكن من هو هذا الفرد الذي يسكن المشرق ويبقى مصرّاً على إطالة عمر النزاعات؟ بالإضافة إلى عرب المشرق يبرز العامل الإسرائيلي الذي يستفيد من مثل هذه الصراعات الدموية، لترسيخ وجوده من جهة، ولشرعنة ذاته بالتدريج من جهة أخرى، وإنهاك الشعوب التي لا تزال رافضة للتطبيع معه.
أضف إلى الإسرائيليين، الجار الإيراني اللدود الذي لم ينسَ بعد مشكلته الكبرى مع العرب، وفي كل مرّة يعيد تصديرها بهذه الصورة أو تلك، فمرّة شعوبية، ومرّة شيعية سنّية، والآن على صيغة مقاومة لعدو إسرائيلي افتراضي لم يحاربه مرة واحدة، بل اشترى منه السلاح وتلقى دعمه في حربه مع العراق العربي.
ويسهم الإحساس بالقلق من قرب شمال إفريقيا العربي من أوروبا بتسريع عملية الانتقال إلى الحلول السياسية، تجنباً لتصدير الاضطرابات وسيول اللاجئين، المتواصلة أساساً، إلا أنّه لا ينطبق على الحالة الليبية التي تعاني من انتهازية الغرب، ففرض الحل السياسي في هذا البلد يعني الإفراج عن قرابة 200 مليار دولار من الأرصدة الليبية المحتجزة في البنوك الغربية، وهذا ما لا يريده الغرب حالياً.
وفي الوقت الذي تسود فيه تقاليد ملكية صارمة في المغرب، لم يجد الملك المغربي نفسه في حالة إنكار لضرورة التغيير، ولم يعتبر أنّ مطالب الشارع في بلاده هي ضغوط عليه، أو كسر لإرادته، بينما فعل معظم حكام الأنظمة العربية الباقية نقيض ذلك، معتبرين أنّ الاستجابة لمطالب وهتافات المتظاهرين رضوخ لها وتآكل في السلطة وضعف قد يودي بالدولة لا بالنظام وحسب.
الملكيات العربية فعلت الأمر ذاته بطرق مختلفة، وأفسحت في مجال الحريات ما لم يكن ليخطر ببال شعوبها، متجنبة القبول بفكرة ”الثورة“، وهي التي لم تغب عنها بعد قصة ثورة الخميني وما رفعه من مبدأ ”تصدير الثورة“.
وفي الدول التي كان الجيش أقوى مؤسساتها، سارعت المؤسسة العسكرية إلى تولي زمام الأمور، وحسمت الصراع بأسلوب الانضباط العسكري الذي قد يكون أبعد ما يكون عن إدراك معنى الديمقراطية وتبادل السلطة، لكنها أوقفت الانهيار، حتى إشعار آخر على الأقل. وبقيت مشكلة ”الاندماج مع مطالب الشعب“ التي يبحث فيها المؤرخون، لتواجهها السلطات التي ما تزال تتربّع على كراسي الحكم.
في المغرب الوضع مختلف، لم تجد المملكة في اللعبة الديمقراطية تهديداً للدولة، بل اعتبرتها وسيلة أكثر تطوراً لمواجهة التحديات الوطنية والاقتصادية التي تواجه الدولة والمجتمع معاً، فأتاحت المجال للأحزاب للتنافس دون تضييق أو تصنيف، إسلام سياسي وتيارات علمانية وغيرها، ونظمت الانتخابات التي فاز بها الإسلاميون أولاً، وحكموا، قبل أن تعود صناديق الاقتراع لاختيار غيرهم في المرة التالية، دون نزاع شرس على السلطة.
وبينما يتساءل البعض؛ ما الداعي لاستمرار الثورة إذا كانت أهدافها تتحقق؟ يتساءل آخرون؛ ماذا عن الذهنية الثأرية التي قد تلعب دوراً في إيقاف النزاعات أو إطالة أمدها؟ وعن الضمانات التي تمنع احتمالية عودة الاستبداد من جديد، وعن المستقبل بالعموم.
استجاب الملك محمد السادس لمطالب حركة 20 فبراير 2011، بعد أقل من عشرين يوماً على اندلاع مظاهراتها، في خطاب 9 مارس الذي وعد فيه بإصلاح الدستور، وفي العام ذاته تم إقرار دستور جديد ونظّمت انتخابات مبكرة. وما حقّقه ذلك كان هدفاً سامياً بكل ما ينطوي عليه الاستقرار في المجتمع.
حتى القرارات ذات الحساسية العالية، مثل التطبيع مع الإسرائيليين، وجدت أصداء لها وتفاعلات من نوع آخر، في الشارع المغربي، كما في مدرجات ملاعب قطر.
صحيح أنّ الاحتجاجات الشعبية ما تزال تظهر هنا أو هناك، لكن مطالبها بدت أكثر تحديداً، وحراكها يجري بحرية كاملة يضمنها الدستور والقانون. واستطاع المغرب بذلك أن يتقدّم خطوات على المستوى القارّي كلاعب أساسي وكبوابة اقتصادية وجيوسياسية لإفريقيا. والتفت لتطوير علاقاته الدولية، وتقويم إشكالات الدول الغربية معه، وأيضاً وقبل كل شيء لتحديث مؤسساته، ومن بينها مؤسسة الجامعة الرياضية التي رأى العرب ثمارها في الدوحة.
ومع أنّ التجربة المغربية ليست نموذجية تماماً، ويشوبها كثير مما يشوب مسار النهضة والتنمية في كل مكان، إلا أن تمضي نحو تحقيق ما يمكن تحقيقه مما حلم به المغاربة في ربيعهم، ولذلك يجدر القول والتذكير دوماً أنّ انتصارات المغرب في كأس العالم، الحلقة الجديدة من حلقات الربيع العربي، لم تأتِ من فراغ ولم تجلبها الصدفة والحظ.
عذراً التعليقات مغلقة