كان الاعتقاد السائد غداة انطلاقة الثورة السورية في ربيع عام 2011 هو أن يتفاعل الكرد السوريون معها إيجابياً ويشاركوا فيها بكل قوة؛ وهم الذين كانوا على مر العقود ضحايا سياسة الاضطهاد المزدوج التي تمثلت في القمع والمشاريع العنصرية والحرمان من الحقوق، وهي السياسة التي مارسها ضدهم بصورة خاصة حكم البعث، لا سيما في عهدها الأسدي (الأب والابن) الكارثي الطويل.
فقد أقدمت سلطات البعث على مصادرة أراضيهم، ونزعت عنهم الجنسية، وطبقت عليهم سياسات عنصرية فاقعة. ولم يحصل الكرد في ظل حكم البعث على أية حقوق تستمد مشروعيتها من خصوصيتهم القومية، وحقهم الطبيعي في المشاركة في الوطن وإدارته. بل تعاملت معهم السلطات البعثية وكأنهم أقلية مهاجرة، لاذت بالبلد الذي «لا بد أن يكون للعرب وحدهم، ومن يصر على انتمائه القومي المغاير، لا بد أن يجلى عن الوطن العربي»، وذلك بموجب دستور حزب البعث الذي ما زال ساري المفعول، على الأقل من الناحية النظرية الرسمية.
وقد تعرض النشطاء الكرد الذين كانوا يطالبون برفع الظلم ويدعون إلى الاعتراف بالحقوق المشروعة، باستمرار للاعتقال والملاحقة وعدم الحصول على الوظائف أو طردهم منها. ونتيجة تراكمات عقود من الظلم والاضطهاد، انفجر الغضب الكردي في آذار عام 2004، وكانت انتفاضة القامشلي التي سرعان ما امتدت إلى مختلف المناطق الكردية السورية، ووصلت أصداؤها إلى المهاجر، الأمر الذي وضع العالم أمام حقيقة وجود قضية كردية سورية حقيقية تستوجب الحل؛ وهي القضية التي كانت السلطات تتستّر عليها، بل كانت تنكر وجودها أصلاً عبر اتهام كل ما يشير إليها بالنزعات الانفصالية، إن لم نقل ارتباطهم بمؤامرات خارجية تستهدف الحكم «القومي المقاوم».
ولم يكن تجاهل القضية الكردية مقتصراً على حزب البعث وأجهزة حكمه فحسب، بل كان يشمل أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» أيضاً، وهي الجبهة التي شكلها حافظ الأسد عام 1972 لتكون واجهة تزيينية لحكمه القمعي، توحي بوجود تعددية سياسية ونظام ديمقراطي في البلد. هذا في حين أن القرارات الفعلية كانت تتخذ من قبله بالذات، وتنفذ عبر أجهزته القمعية الأخطبوطية التي بلغ تدخلها في شأن السوري على مستوى المجتمع والأفراد، حداً استغرق أدق التفاصيل.
ومنذ الساعات الأولى لانطلاقة الثورة السورية، شارك الشباب الكردي في مختلف المناطق في فعاليات الثورة. وكانت أخبار مظاهراتهم، خاصة مظاهرات عامودا، تتصدر الشاشات. ولاحتواء هذا الموقف، قررت السلطة استخدام ورقة الاعتماد على «حزب العمال الكردستاني» في سياق استراتيجيتها الخاصة بإبعاد سائر المكونات السورية، ما عدا المكوّن العربي السني، عن الثورة وبأي ثمن؛ لتنتقل بعد ذلك إلى الخطوة التالية، وهي التي تمثلت في فرض العسكرة على الثورة، لتتهمها بأنها جزء من المؤامرة الكونية، تنفذ عبر مجموعات إسلاموية متشددة متطرفة، تستهدف النظام الأسدي «العلماني، حامي الأقليات» حليف نظام ولي الفقيه وحزب الله. وقد المهمة التي كلف بها «حزب العمال» هي ضبط الأوضاع في المناطق الكردية لصالح السلطة.
ودخل الحزب المذكور إلى المناطق الكردية تحت شعار ضرورة المحافظة على الخصوصية الكردية والدفاع عنها. وتمكّن من التواصل مع الأحزاب الكردية السورية، والتنسيق معها. هذا رغم أنه لم يكن على وئام مع القسم الأكبر منها، ولكنها المصلحة المشتركة التي جمعت بينه وبينها. فبالنسبة إلى «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الوجه السوري لـ «حزب العمال الكردستاني»، كان الأمر يندرج ضمن إطار الدور الوظيفي المتفق عليه مع السلطة ورعاتها من الروس والإيرانيين؛ بينما كانت الأحزاب الكردية السورية، التي كانت تعيش أسوأ حالاتها، تسعى من أجل الاستفادة من الوضع لتقوي نفسها، وتتجاوز خطر تجاوزها من قبل الشباب الكردي المتفاعل مع الثورة السورية والمتحمس لها. وقد كانت تلك الأحزاب تمني النفس بأمل نسخ تجربة كردستان العراق في سوريا أيضاً. هذا بينما كانت المعطيات جميعها تؤكد أن الوضعية الكردية السورية تختلف في أوجه كثيرة منها عن الوضعية الكردية العراقية، وذلك من النواحي الديموغرافية والجغرافية، وحجم الأحزاب وقوتها، وكاريزما القيادات. فالأحزاب الكردية السورية كانت تفتقر إلى كل تلك المقومات، بل كانت تستند في الكثير من الأحيان في تسويق شرعيتها إلى الاعتراف الذي تحظى به من قبل أطراف كردستانية.
وفجأة وجدنا ارتفاعاً في سقف المطالب، ولكن في الوقت ذاته لم يكن هناك أي جهد من قبل الأحزاب التي رفعت السقف، لتأمين الحد الأدنى المطلوب لتحقيق المطالب.
وكان من اللافت منذ الوهلة الأولى أن «حزب العمال الكردستاني» يعمل بموجب خطة مدروسة تم التوافق عليها مع السلطة؛ هذا بينما كانت الأحزاب الكردية السورية تستغل مشاعر الناس وعواطفهم، وحاجتهم إلى قيادة سياسية، هذا في حين أن الأحزاب المعنية لم تقدم أي إنجاز يستحق أن يكون مضرب المثل، ويعتمد أرضية لتعزيز مواقف الكرد السوريين الذين كان يصعب عليهم أن تأتي جهة خارجية، وبأجندات خارجية، وتفرض نفسها على الكرد السوريين، تستنزف مواردهم الشحيحة أصلاً، وتستخدم أبناءهم وبناتهم في معاركها الخاصة، لتتمكن من تسويق نفسها باسمهم، ومن دون أي مراعاة لمصالحهم أو مصالح السوريين عموماً.
ومع الوقت، تمكن هذا الحزب من الإمساك بمختلف الأوراق، وبات يتصرف وكأنه صاحب الدار والأولوية، ومن دون أي مشروعية تخوله لأداء مثل هذا الدور. ولم يكتف بذلك فحسب، بل بدأ بشن حملة تخوينية ضد كل معترض على سياساته المغامراتية التي لم تأخذ ظروف الكرد السوريين، وامكانياتهم وأولوياتهم بأي اعتبار.
وقد أسهم كل ذلك في تراجع حجم التأييد للقضية الكردية بين السوريين، سواء بين المناهضين لسلطة بشار الأسد أو بين المؤيدين لها، بل طغت موجة «شيطنة الكرد» ودورهم في الثورة السورية. وهذا أمر يستوجب المراجعة الدقيقة المسؤولة، ويتطلب بذل جهود استثنائية لتجاوز النتائج وتصحيح الرؤى.
ونتيجة الواقع الصعب الذي عاشه الكرد، وبعد أن تضاءلت الآمال بإمكانية تحسن الأوضاع، وذلك نتيجة ممارسات سلطات إدارة «حزب العمال» من خلف الستار، هاجر الكثير من الكرد ديارهم باتجاه الدول الأوروبية والغربية عموما (تقدر أعداد المهاجرين بأكثر من مليون شخص). الأمر الذي ستكون له تبعات اجتماعية وسكانية مستقبلاً.
واليوم، وفي ظل التهديد التركي بالعملية البرية الجديدة التي ستؤدي، في حال تنفيذها، إلى المزيد من الهجرة والتهجير؛ كما ستترتب عليها سلسلة جديدة من عمليات النهب والسلب يكون ضحاياها من الكرد الباقين الذين يعيشون واقعاً معيشيا على غاية الصعوبة، كما يعانون من عدم استقرار مقلق، ويترقبون بخوف وحذر المجهول الذي ينتظرهم.
أما سلطات الأمر الواقع، المتمثلة في الإدارة الذاتية وبقية الواجهات التي يتحكم فيها «حزب العمال الكردستاني»، فهي على الأرجح ستندمج مع أجهزة السلطة الأسدية، ويعود كوادر حزب العمال إلى مواقعهم التي أتوا منها، حيث ينتظرون مهمة أو مهام جديدة لصالح الجهة أو الجهات صاحبة الطلب.
هذا بينما تستمر القيادات الأبدية في الأحزاب الكردية السورية المترهلة في خصوماتها وتحليلاتها وسردياتها الخاصة بها، تلك الحكايا التي تفتقر إلى المصداقية والجاذبية، ولم تعد تقنع أحداً. ولكن رغم ذلك، ما زالت تلك القيادات، متمكسة بمواقعها، طالما لا تخشى من أي مساءلة أو محاسبة، وفي ظل غياب معايير ملموسة تكشف النقاب عن مدى ضحالة امكانياتها، والحجم الحقيقي للتأييد الشعبي الذي تحظى به.
المجتمع الكردي السوري مهدد بمخاطر وجودية حقيقية، ولكن مع ذلك ما زالت الأحزاب والتنظيمات الكردية الخلبية تتكاثر، واليوم لا يعلم غير الله عددها الفعلي، وهي أحزاب قد باتت بصورة عامة مرتعاً لجملة من الانتهازيين، وساحة لإثبات وجود الذات من قبل أصحاب العقد والفاشلين ممن لم ينجزوا شيئا مفيداً لأنفسهم ولأسرهم ولمجتمعهم، بل كانوا، وما زالوا عبئا ثقيلاً يرهق، ولا ينفع بشيء.
ولتجاوز هذا الواقع الذي لا يحسد الكرد عليه، هناك حاجة ماسة لظهور بدائل جادة، تلتزم بوعي ومسؤولية قضايا شعبها. أما الشرط الضروري لنجاح هذه البدائل، فهو أن تكون بعيدة كل البعد عن هيمنة ونفوذ وتأثير الفاشلين، أولئك الذين أسهموا في وضع المقدمات البائسة للوضعية الكارثية التي تعيشها الحركة السياسية الكردية السورية اليوم، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل، وذلك مهما تشدق المرء بالأقوال المنمقة والشعارات الجذابة فقد أثبتت التجارب أن الكلام النظري، من دون حامل اجتماعي يمتلك المصداقية والأهلية، يبقى وسيلة خداع أو تضليل ليس إلا.
عذراً التعليقات مغلقة