يصلني بريد إلكتروني يحثّني أن أبلغ الطلاب في مركز الاندماج، بأن كل راغب بالعودة إلى سوريا سيحصل على نحو ألفي يورو، وهناك فيديو مرفق لتجربة عائلة سورية عادت إلى دمشق واشترت سيارة أجرة، ويتحدث عن جماليات سوريا وحسنات العودة. غير أنه لا يتحدث عن الذين عادوا واعتقلوا من بوابة الحدود أو اغتيلوا لاحقاً.
اتصلتُ بالمنظمة مستهجناً هذه الدعوة الغريبة في هذا الظرف الذي تمر فيه سوريا، وسألتهم عن مصادر التمويل، فقالوا لي: إنها من الحكومة الهولندية وكذلك من مؤسسات أخرى. ولما ألححت في الإدانة قالوا لي: هي عودة اختيارية! نحن لا نجبر أحداً، بينتُ لهم أن سوق العمل الهولندي يحتاج الآن إلى نصف مليون عامل إضافي.
ناقشتهم مطولاً أن سوريا حتى اللحظة غير آمنة، ولا تتوفر فيها الخدمات الأساسية للحياة العادية. موظف سوري يعمل في تلك المنظمة، قال لي: تلك وظيفة لم أجد غيرها. قلتُ له: يمكنك أن تعمل، لكن أرجوك لا تشتغل مدلِّساً، ومورِّطاً. ودخلت في جدال طويل مع إدارة المؤسسة بأن هذا كلام باطل أريد به باطل، لأن حرية اختيار الأفراد لشؤونهم يجب أن تكون دون أذى، وأنه من واجب الحكومة أن تنبه مواطنيها إلى حجم الأذى الذي ينتظرهم هناك، لا أن تحثهم وتقدم إليهم المساعدة بحجة حرية الاختيار. وختمت بالقول: لو كانت سوريا آمنة لماذا إذاً تضع وزارة الخارجية الهولندية خارطة سوريا باللون الأحمر، وهو ما يعني تحذيرا من السفر إليها وأنك تتحمل المخاطر وحدك.
أكثر الأسئلة الثقافية التي تطرح عليك ها هنا: متى تعودون؟ وهل ستعودون؟
هذا السؤال بكل ما يحمله من وجع وألم ولا إنسانية في جوانب منه، يحمل في طياته كذلك قراءة تاريخية لتجربتين مرتا على هولندا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين أحضروا عدداً كبيراً من العمال من المغرب وتركيا، وبعد أن انتهى عملهم، كان القانون الهولندي أقوى من إرادة السياسيين، فبقوا هاهنا، ويسمون تاريخياً بالعمال الضيوف الذين رفض معظمهم العودة بعد تجربة نمط الحياة في أوروبا وخدماتها، يشير كذلك إلى الرغبة بالارتكاس نحو الماضي والبحث عن مفهوم الصفاء والنوع الواحد. فتلعب الأحزاب اليمينة والمتطرفة في هذا الملعب، من خلال الدعوة لإعادة كل المهاجرين أو اللاجئين إلى بلدانهم الأم، مع أن معظم قيادات تلك الأحزاب من أصول مهاجرة، يداعبون رغبات قومية أو وطنية أو شوفينية لدى شريحة من البشر. لكن على أرض الواقع معظم الهولنديين يرفضها ولا يعترف بها أو يحترمها، بل يدينها أشد الإدانة. وغالباً هذ الدعوات لا قيمة لها لأنها تنافي مسيرة الحياة الحالية في زمان انكسار رمزية الحدود الجغرافية، وبدء تحلل مفهوم الدولة الوطنية خاصة في الاتحاد الأوروبي وضرورات الاقتصاد العالمية، وقد انكسرت تقنياً في ظل حضور قوي لدولة الإنترنت والسوشال ميديا.
حين أُسْأَلُ هذا السؤال، أقول للسائل: في اللغة العربية هناك مثل يقول: ما السائل أعلم بالإجابة من المسؤول؟
ليت سوريا تعود آمنة ويسقط النظام، وأعود إلى جامعتي، يعود كل منا إلى عمله أو سوى ذلك، وقد اكتسب تجربة حياة مختلفة كلياً، على الأقل يسافر بشكل دوري ويرى الأحبة هناك.
بعد أن تقيم سنوات عدة في البلد الجديد، يتغلغل بك، ويغدو جزءاً من تاريخك الشخصي والعام
يحدثني صديق: كان السؤال الأول؛ وقت ضعنا في الغابة، ثم وجَدَنا رجل محترم طيب، أوصلنا إلى الكامب بسيارته وقال: هل ستعودون؟
نظرياً كل المتقدمين بالعمر، أو ممن لم يحصلوا على فرص سيعودون، لكن السؤال الأهم متى سنعود؟ ولا أحسب أن أحداً لديه إجابة، لأن الظرف الشخصي والعائلي والعملي سيتحكم في إجابته.
بعد أن تقيم سنوات عدة في البلد الجديد، يتغلغل بك، ويغدو جزءاً من تاريخك الشخصي والعام، يغدو وطناً كذلك. أذكر أنني حين أكون في بلد غير هولندا وأسمع أشخاصاً يتحدثون الهولندية أبادرهم بالسلام، كأنني أقول لهم: بيننا شيء مشترك، الوطن! وما هو الوطن غير حالة دفء مشتركة مع آخر، فكيف إذا كان هذا الوطن حفظك وساعدك ورعاك ورعى أسرتك، منحك الأمان بمختلف وجوهه؟ وقتها تتساءل: لماذا أعود؟ وهل سأعود بشكل مؤقت أو بشكل دائم؟
نحن السوريين، صرنا نسأل بعضنا حين نلتقي: هل سنعود؟ ومتى؟ وكيف؟ هل تعتقد أن ذلك ممكن؟
كثيرون يربطون عودتهم بالمخارج الأخلاقية السياسية وحفظ ماء الوجه الذي يمكن أن يمت عبر انتقال سياسي يرافقه عفو عام. حين التقيت بصديق في مدينة كبيرة، مؤخراً، قلت له: أخذوا البلد ويبدو أننا لن نعود! حبسنا دمعتينا نيابة عن القول: ما أصعب العودة ولم تتحقق أحلامك بما خرجت من أجله!
في الخطاب الديني نص يقول: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
في الخطاب السوري هناك فكرة تنتشر: اعمل في بلدك الجديد كأنك تبقى أبداً، وحين تحين لحظة العودة عد قبل غد!
وأحسب أن نحو نصف السوريين سيعودون خلال فترة قصيرة، لو حدث انتقال سياسي وشعروا بالأمان في وطنهم الأم.
حين حصلتُ على الجنسية الهولندية قبل سنوات، كان السؤال الأول لرئيسة البلدية: هو متى ستعودون إلى بلدكم؟
التفتُ إليها، فكرت بأفضل طريقة لأردّ عليها، فقلت: أريد أن أعود فوراً، لكن هناك مئة عامل هولندي يعمل في الشركة التي أديرها، أخشى أن يفقد هؤلاء فرص عملهم، إن أغلقناها. وقتها سيسبب لك مشكلة في البلدية! ابتسمتْ وبلعت إجابتي اللئيمة.
لا أحد من السوريين يعرف متى نعود وكيف ومتى وهل سنعود؟
السؤال خلفه الكثير من تجاهل الوضع والظرف السوري، فكيف سنعود ولم يتولد حل في سوريا؟ وهل قدِمنا سائحين إلى تلك الدول كي نحدد متى نعود، وهل بيدنا قرار العودة؟
إنْ كان السائل يحمل خلفية سياسية عادة ما نجيبه: سنعود حال وجدتم حلاً للخراب الذي حدث في سوريا. يتهرب السائل ويتنصل من المسؤولية، ويجزم أن بلده لم يساعد في الجريمة، أصدِّقه فأقول له: لكن بلدكم لم يساعد في الحل بما يلزم!
كنتُ في مرحلة ما من مرحلة اللجوء، أحمل مفتاح بيتي بيدي، وحين يسألني شخص ذلك السؤال المؤلم؛ أقول له: متى ما استعدتُ بيتي ونمتُ فيه آمناً. الآن لا أعرف، ضاع المفتاح مني أو ضيعته، أو تركني وذهب في غفلة ليلتحق بالباب الذي بقي هناك.
يسألني صديق لا يزال مقيماً في سوريا: ألهذه الدرجة يؤرقكم سؤال العودة؟ ونحن الذين في سوريا يؤرقنا سؤال الرحيل الذي يشغلنا كل لحظة.
أينما تحركت وتنفست وملأت استمارة أو رغبت بتناول طعام، لا بد من الحديث أو كتابة اسم بلدك الأم سوريا، التي تحضر من جديد في أعماقك بصفتك سورياً
أجيبه: الحياة إقامة ورحيل وتبادل أدوار وتغييرات. فمثلما أخذنا نصيبنا من اللجوء والعيش ببلد أوروبي، ينبغي لكم أن تحظوا بهذه الفرصة كذلك. والوطن الأم يا صديقي يبقى في حشاشة القلب لا شيء ينتزع مكانته، بل يزداد شعورك بهويتك أكثر فأكثر، لأنك أينما تحركت وتنفست وملأت استمارة أو رغبت بتناول طعام، لا بد من الحديث أو كتابة اسم بلدك الأم سوريا، التي تحضر من جديد في أعماقك بصفتك سورياً، أطفالك كذلك يشغلهم هذا السؤال.
جاري أبو عبدو افتتح مطعماً في شرقي أمستردام سماه: لقمة سورية. فرح حين قلت له: من واجبي أن أشتري من مطعمك، وأناقشك في جودة الطعام، ونوعيته وحاجات الزبون وأنصحك.
وضحك كثيراً حين قلتُ له: مطعمك يقع في مجمع مطاعم، وكلما أنوي القدوم إلى هنا لتناول طعام آخر، ما إن أرى اسم سوريا على لوحتك حتى تقودني قدماي إليك!
الأتراك وسواهم حفروا اسماً لهم في عالم المطاعم الهولندية منذ خمسين عاماً فكسبوا زبائن دائمين يعرفون أنهم إنْ ذهبوا إلى مطعم تركي فسيجدون أنواعاً محددة اعتادوا عليها.
واجبي يا أبا عبدو أن أشيد بأنك تحفر في الصخر، لأن ندرة نادرة من الهولنديين تعرف شيئاً عن سوريا قبل اللجوء، وكذلك ما هي السمة الرئيسية للمطعم السوري.
يحاول السوريون ويجتهدون ويستعجلون افتتاح مشاريع دون تخطيط. وها هنا من واجب أهل الكار أن يفرزوا عدداً من الأنواع الخاصة بالمطبخ السوري، الملائمة للشخصية الأوروبية وذوقها في الطعام، خاصة أنهم لا يعرفون ما هي ميزة الطعام السوري؟ وبِمَ يختلف عن سواه من المطاعم الأخرى (اللبناني مثلاً)؟ هل من أنواع خاصة به؟ وما سمة خلطاته وبهاراته؟
كل مطعم سوري لديه مفاهيمه وبهاراته في الطعام، ومن المعلوم أن هذه المهنة في أوروبا دخل عليها كلُّ عديم موهبة وكل باحث عن مشروع سريع. لكن قلة قليلة من تلك المطاعم هي التي أدارها أهل صنعة وصبروا على خيبات البدايات وأكملتْ مشوارها.
بعد أنْ شربتُ الشاي مع أبي عبدو، سألَ كلٌّ منا الآخر: هل سنعود؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟
عذراً التعليقات مغلقة