تأخر السوريون يومين حتى انتبهوا إلى كلمة الشاب الناشط عمر الشغري في مجلس الأمن، وهذه دلالة على انعدام الاهتمام بجلسات المجلس الخاصة بالشأن السوري، والتي آلت إلى ما يشبه جلسات بيروقراطية لموظفين متكاسلين يأتون ليكرر كلّ منهم على مسامع زملائه ما سبق أن سمعوه وملّوا منه، أو ربما غفا الواحد منهم في انتظار مجيء دوره في الكلام. على ذلك، نبالغ إذا توقعنا من أولئك الموظفين تيقظاً خاصاً إزاء كلمة عمر الشغري الذي أتى لينطق باسم الضحايا، فهم قد اعتادوا أيضاً هذا النوع من الخطابات التي لا تقدّم ولا تؤخّر، ومن السذاجة الظن أنها تستثير مشاعرهم أو مشاعر رؤسائهم.
عطفاً على انعدام أهمية الجلسة، أتى مفاجئاً انقسامُ السوريين حول كلمة الشغري، ومدى ما يمكن لها أن تخدم أو تسيء إلى القضية السورية. وكان أكثر ما أثار الجدل تلك الرسالة التي نقلها المتحدث عن شخص يُدعى كريم من إدلب يقول فيها أن مجلس الأمن تصرف بعجز منذ عام 2011، وأنه فقد كل ما يملك وما يحب، لذا يخاطب المجلس عديم الفائدة بقوله: Fuck you.
الرسائل التي قال الشغري أنه ينقلها عن آخرين، ثم رسالته في النهاية، كانت غاضبة من الجميع بلا استثناء، مع تحديد روسيا وإيران حليفتي الأسد، والأردن والإمارات المشجعين على التطبيع معه، وتركيا ولبنان حيث يتعرض اللاجئون للمضايقات. موقع الأمم المتحدة وصف المداخلة بكونها نابعة من حرقة صاحبها، فكان أرأف من سوريين عزّ عليهم أن يخرج سوري عن الكياسة ليشتم أعضاء مجلس الأمن على هذا النحو.
أول التناقضات أن تُدان كلمة الشغري، والتي لولاها لمرت جلسة المجلس بلا اكتراث سوري. بعبارة أخرى، من النفاق تحميله مسؤولية إهدار فرصة جيدة للحديث، بما أن الرجاء مقطوع أصلاً من المجلس، ولا يُستبعد في القريب جداً أن تستخدم موسكو حق الفيتو لمنع وصول المساعدات الغذائية إلى قرابة ثلاثة ملايين محتاج في الشمال السوري.
ثم إن الشغري لم يذهب إلى مجلس الأمن ممثلاً سياسياً للقضية، وهو تحدث كناطق غير حصري باسم المعاناة. لذا هو غير مطالب بمراعاة الاعتبارات الدبلوماسية، وغير مطالب بإرضاء أولئك المصرين عليها في مكانها وفي غير مكانها. وسيكون مضحكاً، بانعدام الفائدة المرجوة من استخدام اللباقة، الخشية مثلاً من أن يسيء الشغري إلى السوريين فيُنظر إليهم كشعب قليل الأدب!
الأفلام الأمريكية الأوسع انتشاراً في العالم مليئة بالشتيمة ذاتها، ويندر أن يخلو فيلم منها. تلك الأفلام تُعرض لأناس أجدر بالاحترام، وفي صالات لم تشهد القذارات التي شهدها ويشهدها وسيشهدها مجلس الأمن. العيب ليس في هذه الشتيمة حقاً، بقدر ما هو في الإبقاء على الأسد عضواً في المنظمة الدولية، وفي إعطاء مندوبه حق التفوه بالأكاذيب المفضوحة التي تهزأ بالضحايا وبالقوانين الدولية.
وإذا كان من شعبوية في الشتيمة فهي غير ضارة، بخلاف شعبوية رئيس القوة الدولية الأعظم ترامب عندما وصف الأسد قائلاً: This is an animal. فالشتيمة هنا تحتمل خبث التملص من استخدام الوصف الصحيح ضد من كان قد استخدم الكيماوي للتو، أي وصفه كمجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية، بما لهذا الوصف من عواقب قانونية.
زعيم قوة عظمى سابقة، هو السوفيتي خروتشوف، كان قد لوح بفردة حذائه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. آنذاك لم يكن العالم في خضم موجة شعبوية، وقيل الكثير في الحادثة، إلا أن الإعلام الذي انشغل بها لم يحاسب صاحبها بوصفه خارجاً عن اللباقة، إذ كان مفهوماً أنه عبر عن احتجاجه وغضبه بطريقة مسرحية سيُكتب لذكراها البقاء أكثر من مداولات تلك الجلسة. الرئيس الأمريكي ريغان عبّر من على نفس المنبر عن هلوساته بالدعوة إلى الوحدة ضد تهديدات آتية من كواكب أخرى، أما القذافي فقد رمى ميثاق المنظمة على الأرض، وقائمة التصرفات “غير الدبلوماسية” في أروقة الأمم المتحدة تطول.
لقد قدّم الشغري عرضاً شعبوياً قد لا يكون الأفضل ضمن هذا التوصيف، لكن لا وجاهة لانتقاده كأن العرض الذي يقدّمه أعضاء المجلس فيه ولو شبهة الاحترام خارج الشكليات. لا وجاهة لذلك الانتقاد الذي يضمر الدونية أمام هؤلاء، ويفضّل أصحابه أسلوب الاستجداء والاستعطاف رغم فشله مراراً. للوهلة الأولى فقط، قبل أن يتبدد، سيظهر كما لو كان هناك تناقض “لدى أصحاب هذا النقد” بين الدونية أمام أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم حلفاء الأسد، وبين الاستعلاء على الشغري.
لعل التلاميذ النجباء لمنظمات الإن جي أوز هم الأكثر استياء من أداء الشغري، ولا نريد بهذه الإشارة لوم المنظمات، فالعلة هي في نسبة كبرى من السوريين وجدت فرصتها بالعمل معها من موقع قول ما يرضي الممول، والأسلم هو قول الكلام الذي لا يثير حفيظة أحد لأنه وفق هذا المنطق لا يثير حفيظة الممول. نشطاء الإن جي أوز لا يعترفون أساساً بالغضب، ولا ينظرون باحترام إلى المشاعر عموماً. هم تقنيون، ويمجّدون تلك اللغة التقنية المجردة، ويستهجنون ما عداها بوصفها لغة رعاع بلا تمايزات بين هؤلاء الرعاع. أيضاً، لا غرابة في أن هؤلاء النشطاء المتعالين بفظاظة على عموم السوريين يصعب عليهم إخفاء تلك الدونية تجاه مشغّليهم.
ورغم أن نشطاء الإن جي أوز هم عادة من منتقدي نظرية المؤامرة إلا أنهم راحوا يتساءلون عن الجهة التي أوصلت الشغري إلى مجلس الأمن، ولقّنته بالتفصيل ما سيقوله، بل درّبته على لغة للجسد غير مناسبة بدورها للمقام. ولا يُستبعد بالطبع أن يكون لسان حال صاحب الانتقاد أنه أحقّ بالفرصة، لأنه كان سيجلس برصانة ويقدّم للحاضرين درساً في التهذيب واستخدام اللغة اللمّاحة.
الافتراض الأخير يعيدنا إلى البدء، فلو تحقق لذلك الناشط ما يريد لكانت الجلسة قد مرت بلا انتباه على الإطلاق، واقتصر الأمر على بضع “لايكات” ينالها عندما يضع رابط كلمته على صفحته. كنا خسرنا فرجة فيها ما فيها من الضعف لأن الذي أدّاها لا يتقن جيداً هذا الفن، وإلا كان قد لفّق رسائل أقوى من التي تلاها، وكان بدلاً من الربع الأول لكلمته قد اختار الختام للرسالة التي تقول لأعضاء المجلس: Fuck you
عذراً التعليقات مغلقة