هلع وترقب يسيطر على مدينة طرابلس اللبنانية، بعد تفشٍ غير مسبوق لمرض “اليرقان” أو “التهاب الكبد الفيروسي A”، أصاب عشرات السكان من أحياء ومناطق مختلفة في المدينة، بينهم عدد كبير من الأطفال، دون معرفة الأسباب أو مصدر التلوث الذي أدى إلى ذلك، ما زاد الأمر تعقيداً وفاقم مخاوف سكان المدينة.
استفاق اللبنانيون، الاثنين، على مطالبات بإعلان حال الطوارئ الصحية في البلاد، جاء أبرزها على لسان نقيب الصيادلة، جو سلوم، الذي أشار إلى حجم تفشي المرض في طرابلس وانتشاره في عدة مناطق من المدينة وجوارها، داعياً المستشفيات للبقاء في حالة تأهب لاستقبال المرضى.
تصريحات سلوم جاءت عقب زيارة إلى طرابلسن قام بها لمعاينة الوضع ميدانياً بعد شيوع رصد الإصابات، وأصدر بعدها بياناً أشار فيه إلى أن اللقاحات الوقائية للمرض مفقودة، وهناك تأخر كبير في استيرادها، فيما اللقاح يعتبر السبيل الوحيد للوقاية منه، وبناء عليه ناشد المعنيين في السلطة وكذلك الشركات المستوردة الإسراع في تأمين اللقاح للصيدليات وإطلاق أكبر عملية تطعيم(Preventive medicine) للحد من انتشاره والحفاظ على صحة المواطنين.
ما هو “المرض الأصفر”؟
“اليرقان” أو ما يسمى “الصفيري” أو “المرض الأصفر” شعبياً، مرض ناجم عن تكوّن كمية زائدة من مادة تسمى “بيليروبين” التي تكتسب لونا يميل إلى الأصفر في الدّم، نتيجة خلل في عمل الكبد، بحيث تتجمع تحت الجلد وفي بياض العين لتحولها بدورها إلى اللون الأصفر الباهت.
وقد يصيب “اليرقان” أي شخص من أي فئة عمرية، لكن النسبة ترتفع عادة عند الأطفال حديثي الولادة، أما في حالات التفشي الوبائي الناتج عن التلوث فإن المرض قد يصيب جميع الفئات العمرية المعرضة لمصدر التلوث، كما أنه يصيب الأشخاص الذين سبق أن تلقوا التطعيم في الصغر أو في الكبر، كذلك من سبق لهم أن أصيبوا بالمرض في فترات سابقة.
ويعتبر “التهاب الكبد الفيروسي أ”، معدٍ للغاية ويؤثر على قدرة الكبد على أداء وظائفه الحيوية. وينتقل إلى الجسم عبر الطعام أو الماء الملوث، أو عبر الاحتكاك المباشر مع شخص مصاب أو جسم ملوث بالفيروس، ويتعافى معظم الأشخاص المصابين بالعدوى تمامًا دون تعرض الكبد إلى تلف أو خلل دائمين، فيما تمتد فترة الشفاء من المرض لأشهر أحياناً، لاسيما إذا لم يتلق المريض العلاج اللازم لأسباب المرض.
وفي هذا السياق أضحت وزارة الصحة اللبنانية أن “التهاب الكبد الفيروسي الألفي، ينتج من فيروس ينتقل الى الإنسان عبر تناول الأطعمة الملوّثة وغير المطهيّة جيّداً، أو شرب المياه أو المشروبات الملوّثة، وتمتد فترة الحضانة من 15 إلى 50 يوماً.”
ومن أبرز أعراض المرض: الحمى والشعور بالتعب والقيء والغثيان واصفرار البشرة (الصفيرة). لذا، نصحت وزارة الصحة اللبنانية “بعدم تناول الأطعمة غير المطهيّة، وعدم شرب مياه غير معروفة المصدر أو المشتبه في تلوّثها، إضافةً إلى الامتناع عن استعمال هذه المياه لغسل الخضار والفاكهة”.
وحثّت الوزارة المواطنين على “مراعاة شروط النظافة الشخصية، من ناحية غسل اليدين جيّداً بعد استخدام المرحاض، وقبل تحضير الطعام أو تناوله باليدين، حيث يمكن انتقال الفيروس فمويّاً عندما تكون الأيدي ملوّثة ببراز يحمل الفيروس”.
ظهور مبكر للمرض
ظهور المرض في طرابلس وتفشيه جاء على مراحل، حيث بدأ رصد الحالات في الأول من شهر مايو الماضي، وذلك بالتزامن مع عيد الفطر، بحسب ما يؤكد مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة، جوزيف الحلو، الذي زار الأحياء التي سجلت إصابات مرتفعة، وعاين الظروف الصحية والاجتماعية للمرضى، ووضع عائلاتهم.
ويوضح الحلو، في حديثه لموقع “الحرة” أنه، وبحسب ما نقل الناس لمجموعة الترصد الوبائي التابعة للوزارة التي عاينت أماكن التفشي وأجرت كشفاَ ميدانياً، تبين أن رصد هذه الحالات بدأ في الثاني من مايو الماضي، “وهذه فترة حضانة الفيروس الممتدة من 7 إلى 50 يوما، لذلك فإن الأرقام منخفضة ثم ارتفعت بالتزامن في الأيام الماضية وبلغت ذروتها.”
وكانت وزارة الصحة بدأت بتقصي الحالات المرصودة بعدما بلغ عددها 49 حالة، حيث تبين أنها تتوزع على أحياء “ضهر المغر/ القبّة”، وهي المنطقة التي سجلت النسبة الأعلى من الإصابات، إضافة إلى أحياء في “باب التبّانة، الميناء، البدّاوي وباب الرمل”، إلا أن أرقام الإصابات ارتفعت إلى 174 وفق بيان صادر عن وزارة الصحة أمس الاثنين.
وذكرت الوزارة بأنها واكبت هذا الموضوع منذ ظهوره، وهي لا تزال تأخذ العينات وتجري التحقيقات اللازمة لتبيان سبب انتشار الالتهاب الذي “لم يحسم بشكل نهائي بعد.”
وكانت فرق الوزارة تواصلت مع المصابين من أجل تحديد كيفية التعرض للإصابات والخصائص المرضية والوبائية للحالات، كما جمعت عينات لفحص مياه الشرب بالتعاون مع مصلحة مياه الشمال.
المياه.. المتهم الأول
التركيز على المياه باعتبارها الاحتمال الأكثر ترجيحاً ليكون مصدر التلوث جاء بعدما اتفقت جميع الحالات المرصودة من قبل وزارة الصحة على الرواية نفسها تقريباً، بحسب ما يؤكد الحلو، “كلهم يحملون المسؤولية لنوعية المياه، هناك من يتحدث عن لون ورائحة وطعم غريب للمياه المستخدمة في المنزل.”
وهذه النظرية تتفق مع رأي الطبيب المعالج في مستشفى طرابلس الحكومي، حلمي شمروخ، أن السبب المعروف لهذا المرض هو تلوث المياه بشكل عام، “ولكن في حالة طرابلس السؤال هو أي مياه تلك الملوثة؟ مياه الشرب أو الصهاريج أو شبكة مياه الاستخدام المنزلي، أو حتى من مياه الري للمزروعات؟”
تلك هي المشكلة الحقيقية بالنسبة لمدير العناية الطبية في وزارة الصحة، “حتى اليوم لم نعرف المصدر الحقيقي للتلوث إن كان تسرب صرف صحي في شبكة مياه الاستخدام المنزلي، أم تلوث في خزانات تجميع المياه، أو حتى صهاريج المياه الخاصة، فحتى الآن كل الفحوصات التي أجرتها وزارة الصحة ومصلحة مياه الشمال، أتت نتيجتها سلبية ولم تظهر أي مصدر للتلوث.”
وساهمت تصريحات رئيس بلدية طرابلس، رياض يمق، في توجيه الأنظار نحو المياه، كأكثر مصادر التلوث ترجيحاً، لاسيما أنّ “المناطق الشعبية كباب التبانة وغيرها، كانت تشهد عبر السنوات حالات إسهالٍ، بسبب تداخل مياه الآبار مع مياه الصرف الصحي، بحيث لا وجود لشبكة مياه حديثة في هذه المناطق”، وفق تعبيره.
وأشار يمق إلى أن الكهرباء كانت قد انقطعت عن طرابلس لنحو 10 أيام متتالية، توقفت معها مضخّات المياه عن العمل في طرابلس، مما دفع الناس إلى استهلاك خزانات المياه خاصة في منطقة القبة حتى أخر قطرة مع ما فيه من ترسبات وملوثات، ثم أضطر الناس لشراء المياه من الصهاريج فيما بعد.”
ومن هنا تزداد فرضية أن تكون المشكلة حدثت في تلك الفترة الزمنية، بحسب الحلو، الذي أكد أن فرق وزارة الصحة استطاعت إحصاء نحو 5 صهاريج جرى فحص مياهها أيضاً، “كما لاحظنا أن معظم الأبنية القديمة تملك بئر مياه خاصة في المبنى، وسط حديث عن داخل مياه الصرف الصحي مع مياه الآبار في بعض المناطق.”
لكن مصلحة المياه تؤكد أنه، وبدعم فرنسي، جرى تحديث شبكة المياه وإصلاحها قبل نحو عامين، ولم يطرأ على هذه الشبكة أي أعمال صيانة أو حفر مؤخراً قد تؤدي إلى تسرب المياه على بعضها البعض، وفق الحلو.
بدورها أعلنت مؤسّسة مياه لبنان الشمالي، في بيان موجّه إلى المشتركين بالمياه في طرابلس وجوارها، أنّه “وبعد ورود أخبار عن انتشار مرض التهاب الكبد الفيروسي A قامت فرق المؤسسة صباح يوم الأحد الماضي، بالكشف على المنطقة وأخذ عينات من المياه في عدّة أماكن، وفحصها في مختبر المؤسّسة المركزي، وقد تبين نتيجة الفحص بأنّ مياه المؤسّسة خالية من أيّ ملوثات جرثومية، كما أنّها نظيفة وصالحة للشّرب والاستعمال المنزلي.”
التفشي محصور
وتعتمد معظم المناطق في طرابلس على نبعي مياه للشفة تغذي كامل المدينة، وهنا يطرح السؤال عن سبب عدم التفشي الواسع للمرض إذا ما كان مصدره المياه، إلا أن مدير العناية الطبية في وزارة الصحة ينقل من مشاهداته، أن هناك عائلات أصيب من بين أفرادها 3 أو 4 أشخاص فيما بقي فرد أو أكثر لم تصبهم العدوى، رغم تواجدهم في منزل واحد مع أكثر من مصاب، ويتشاركون معه الأكل والشرب والحمام نفسه، “وكل ذلك من أهم أسباب العدوى ومع ذلك لم يصابوا بها، وهنا أظن ان العامل الأكبر المؤثر هو الجهاز المناعي لكل فرد على حدى.”
ويضيف الحلو “تواصلنا أيضا مع عدد كبير من الأطباء، الذين يشربون من نفس المياه التي تصل إلى مختلف أحياء طرابلس ومع ذلك لم يسجل أي إصابة أو عدوى في أوساطهم.”
من جهته يفيد شمروخ في حديثه لموقع “الحرة”، أن عدد الاصابات الذي وصل إلى المستشفى الحكومي ليس بالكبير، “ولكنه بفارق كبير عن الأرقام السنوية المسجلة للإصابة بهذا المرض، فبينما كان يبلغ عدد الإصابات بهذا المرض واحدة أو اثنتان طيلة الشهر، وصلنا هذا الشهر إلى نحو 17 حالة.”
ووفقاً للنتائج الحالية تبدو رقعة التفشي صغيرة ومحصورة بأحياء شعبية محددة في المدينة، بحسب الطبيب، الذي يسجل أعراض تتراوح ما بين ارتفاع حرارة الجسم واسهال والتقيؤ، إلى اصفرار الوجه والعيون، فيما علاج الحالات يجري بطريقة بسيطة عبر المصل والأدوية اللازمة.
اللقاحات مفقودة
وتتجه الأنظار في الوقت الحالي إلى أهم عنصر من عناصر مكافحة تفشي الوباء، وهو اللقاح الخاص بالفيروس، الذي أكد نقيب الصيادلة انقطاعه من لبنان.
من ناحيته يؤكد الحلو أن التطعيم ضد “اليرقان” لم يكن يوماً إجبارياً في لبنان، لذا لم يكن يتوفر في الأسواق اللبنانية بالكميات اللازمة، “أما الآن وفي هذه الحالة أتمنى أن تتمكن السلطات اللبنانية عبر وزارة الصحة من تأمين هذا اللقاح لقطع الطريق أمام المستثمرين في الأزمات، حيث من الممكن أن نشهد في الفترة المقبلة مختبرات ومستوصفات وأطباء يؤمنون هذا الطعم مقابل ثمن مرتفع.”
وبالإضافة إلى الرصد والتتبع، تتكفل وزارة الصحة أيضاً بتأمين العلاج الكامل والمجاني تماماً للمرضى، حيث يؤكد الحلو أن كافة مراكز الرعاية الأولية تستقبل المرضى وتقدم لهم العلاجات اللازمة مع كشف الطبيب وتقديم الادوية اللازمة، وحتى الآن ليس هناك أي حالة في المستشفيات وكل الحالات تلقت العلاجات اللازمة، وتابعوا حجر أنفسهم في منازلهم.
ويتفق كل من الحلو وشمروخ على أن الموضوع ليس خطيراً كما يجري تصويره ويعطى أكبر من حجمه، ليبقى الهدف الأكبر هو الوصول إلى مصدر التلوث وضبط الانتشار.
عذراً التعليقات مغلقة