أنا، محسوبكم، بعيد عن سوريا منذ نحو عشر سنوات. ثمة تطورات مثيرة حصلت في هذه الحقبة، لم أتمكن من متابعتها بسبب ظروف هجرتني وتنقلي بين عدة مدن في تركيا وألمانيا؛ منها على سبيل المثال: إعادة الاعتبار لوظيفة مساعد الأمين (الإقليمي) لحزب البعث العربي الاشتراكي، وإنزالها إلى ميدان التداول، بعدما كانت مهجورة منذ سنة 1970.
يشغل منصبَ “مساعد الأمين الإقليمي لحزب البعث”، في الوقت الحالي، الرفيق المناضل هلال هلال، المشهور بتصريحاته العَبُّودية، أي التي تشبه تصريحات عضو مجلس الشعب، خالد العبود.. وهذا ليس انتقاصاً من شأن الرفيق هلال، بل العكس، فخالد العبود، الله يحميه بحِمَاه، شعلة من الذكاء، يتجلى ذكاؤه بتصريحاته الحركية المدهشة، مثل تشبيهه بشار الأسد، ذات مرة، بقلب هجومٍ نجمٍ في فريق كرة قدم كبير، يتقن الـ خود وهات، والتمرير، وتوقيف الكرة، وضرب المقص (الدبل كيك) والمراوغة، ثم اجتياز أول لاعب، والثاني، والثالث، إلى أن يتمكن من فتح ثغرة صغيرة تكفيه لقذف الكرة مثل السهم إلى الزاوية الأكثر صعوبة في مرمى الخصم.. والأصح “الخصوم”؛ لأن سوريا ليست مستهدَفة من قِبَل دولة واحدة، كما تعلمون، بل من الكون.
إذن؛ استعاد حزبُ البعث، بنسخته المنقحة التي فاتني تَتَبُّعُها، تسميةَ “الإقليمي” لأنه ما عاد يستسيغ كلمة “القُطري” التي بقي الأمين القطري المساعد الرفيق عبد الله الأحمر يحتلها منذ سنة 1971، حتى أصبح غير قادر على إغلاق فمه من شدة الخَتْيَرَة، ووقتها طلبتْ منه القيادة التفرغ لحب الوطن.. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن الرفاق البعثيين محقون في هذا التغيير، فالقطرية صنو التجزئة، والتجزئة هي التي تجعل فكرةَ أنْ يقفَ رجلٌ مصري فوق الأهرام، ويرى أمامه بساتين الشام، مستحيلة.
مصطلح (المنشودة) يدخل فيما يُعرف باسم الثوابت القومية والوطنية؛ فكثيراً ما نسمع الرفاق يتحدثون عن: الحلم المنشود، الغد المنشود، المستقبل المنشود، السقف المنشود، التوازن المنشود مع العدو..
ولكن هذه الصورة التي ابتكرها الشاعر الكبير بيرم التونسي، إن جئتَ للحق، مجازية، لأن الصعود فوق أي واحد من أهرامات الجيزة يحتاج إلى ورشة طرقات متنقلة، مزودة بونش جاهز لرفع الرجل ووضعه فوق الهرم، ثم إنزاله إلى الأرض، بعد أن يعلن عن تمكنه من رؤية بساتين الشام، رمزِ الوحدة العربية (المنشودة).
وأظن أن مصطلح (المنشودة) يدخل فيما يُعرف باسم الثوابت القومية والوطنية؛ فكثيراً ما نسمع الرفاق يتحدثون عن: الحلم المنشود، الغد المنشود، المستقبل المنشود، السقف المنشود، التوازن المنشود مع العدو… ومثلها كلمة “مسبوق”، التي تحمل، في لغة أهل حلب معنى غريباً، فالمسبوق عند الحلبيين هو الشخص الذي يوشك أن يتبول في سرواله.. بينما كان وزير الخارجية السابق وليد المعلم يستخدمها على نحو إيجابي، إذ قال، في أكثر من مؤتمر صحفي:
- اصبروا علينا، تروا كيف سيكون لدينا، بقيادة الرفيق المناضل بشار الأسد، نظامٌ ديمقراطي غير (مسبوق).
ومع أن وليد المعلم اضطر لمديح الرئيس الذي يضحك دون مناسبة، بشار الأسد، إلا أنه، مثل سلفه عبد الحليم خدام، بقي يُضمر الحب الكبير للرئيس السابق حافظ الأسد، يعود ذلك، كما أعتقد، إلى أسباب كثيرة، منها قضية “السبق” هذه. فمما هو معلوم أن كبار الضيوف الذين كانوا يأتون للاجتماع بحافظ الأسد، القادمين من أميركا وما يشبهها من الدول الإمبريالية على وجه الخصوص، كانوا يعانون من هذه الأزمة، فالواحد منهم كان ينسبق، بالمعنى الحلبي للكلمة، ويتحمل ما وسعه ذلك، ولكنه، بعد مضي ساعة أو أكثر على بدء الاجتماع، يضطرب، ويتحرقص، ويضرب ساقاً بساق، ويعص على نفسه، بينما القائد صامدٌ، هادئ الأعصاب، ثابت الجنان، ويبقى على صموده حتى يأخذ من ضيفه تنازلات ما كان ليستطيع أخذَ عِشر معشارها لو أتيح له أن يفك زنقته في حينها، وللعلم فإن الإمبرياليين أنفسهم اعترفوا، فيما بعد، بهزيمتهم في هذا المضمار، وأطلقوا على الدبلوماسية الأسدية: دبلوماسية المثانة.
التصفيق الذي عَمَّ قاعة المهرجان الخطابي عندما قال الرفيق هلال هلال إن سوريا لم تكن معروفة قبل البعث، وإن وضعها الاقتصادي الحالي “أسطورة”، كان مفيداً جداً، لأنه أضاع الطاسة
هذه الأفكار تقودنا الآن، ضربة لازبٍ إلى تصريح الرفيق هلال هلال الأخير، الذي يتلخص بقوله إن سوريا كانت، قبل قدوم حزب البعث إلى السلطة، دولة هامشية، تتربص بها الانقلاباتُ العسكرية، ولم يسمع بها أحد.. وأن الوضع الاقتصادي لسوريا “أسطورة”.
التصفيق الذي عَمَّ قاعة المهرجان الخطابي عندما قال الرفيق هلال هلال إن سوريا لم تكن معروفة قبل البعث، وإن وضعها الاقتصادي الحالي “أسطورة”، كان مفيداً جداً، لأنه أضاع الطاسة، فلم ينتبه أحدٌ إلى أن “هلال” مثلُ ربابةٍ رَبَّة البيت، يصب الخلَّ في الزيت، ويخلط عباساً بدباس، فرفاقه البعثيون الذين صفقوا، أنفسهم، ياما تحدثوا، في خطاباتهم، عن سوريا الحضارة، والـ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، وصاحبة أول أبجدية في التاريخ، وأن الصراع عليها، في العصر الحديث، كان يبلغ أشده بين المحورين السوفييتي والأميركي، بالإضافة إلى الصراع الإقليمي، بين المحورين السعودي المصري من جهة، والعراقي الأردني من جهة أخرى..
المهم في الأمر، يا حبيبي، أن التصريح أطلق، والناس صفقت، والفيسبوك حكى بالقصة يوماً أو يومين، وكل أرض، بعد ذلك، شربت ماءها، وكل شيء مر على خير، والأمن عاد مستتباً.
عذراً التعليقات مغلقة