قضى الرئيس بايدن عقودا طويلة من عمره كرئيس للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وحتى عندما أصبح نائبا للرئيس كلف بكثير من الملفات الخارجية، وعليه يمكن القول إن الرئيس بايدن ليس طارئا على السياسة الخارجية بل ربما يعد خبيرها الأقدم في واشنطن.
ولكن لماذا ومع كل هذه الخبرة الطويلة في السياسة الخارجية وفي ملفات الشرق الأوسط يتجاهل بايدن عمدا الملف السوري، حيث لم يشر لها من قريب أو بعيد وبقي الملف بيد وزير الخارجية بلينكن الذي تعامل مع الملف من الزاوية الإنسانية فحسب، حيث السماح بتمرير المساعدات إلى الشمال السوري عبر معبر باب الهوى.
ما دون ذلك وخاصة فيما يتعلق بملف الانتقال السياسي واللاجئين وجرائم الحرب التي ارتكبت على الأرض السوري والعدالة الانتقالية والمفقودين، كلها ملفات لم يبد الوزير أي اهتمام بها فضلا بالطبع عن الرئيس بايدن الذي يتصرف وكأن الأزمة السورية لا وجود لها.
هناك عدة أسباب تفسر هذا التجاهل، ربما أهمها وأولها الموقف الشخصي المسبق للرئيس بايدن من الحرب السورية، التي يرى أنها حربا أهلية داخلية لا دور للولايات المتحدة فيها، ويجب أن لا تجر إلى أتونها بأي شكل من الأشكال، ربما ينظر إلى الأسد كمجرم حرب لكنه لا يرى في المعارضة السورية بديلا يستحق أن يدعم من أجل قيادة الانتقال الديمقراطي في سوريا.
عندما قررت كلينتون تسليح المعارضة السورية بالأسلحة النوعية ومساعدتها في التنظيم، كان موقف الرئيس أوباما ونائبه بايدن معارض بشدة لهذا القرار
هذا الموقف المسبق كان الرئيس بايدن قد كرره خلال الحملة الانتخابية مرارا وتكرارا، ويبدو أن رئاسته تقوم بالتطبيق العملي لهذه الأفكار عبر تجاهل الحرب السورية بالكامل وعدم الانخراط بها لا من قريب أو بعيد.
العامل الثاني هو أن الرئيس بايدن وعندما كان نائبا للرئيس أشرف على الملف السوري من بعيد، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة السورية التركية وبالتالي تعامل مع الملف من زاوية الانخراط الخارجي، ووجد حجم تعقيدات هذا الملف، وقد انخرط بالإضافة إلى شخصين هما –كلينتون وكيري- وكانا دوما على طرفي النقيض منه ولم يحصلا على دعم البيت الأبيض فيما يَتعلَّق بالقرارات النهائية التي يريدون اتخاذهما فيما يتعلق بتسليح المعارضة أو التدخل العسكري الأميركي. فعندما قررت كلينتون تسليح المعارضة السورية بالأسلحة النوعية ومساعدتها في التنظيم، كان موقف الرئيس أوباما ونائبه بايدن معارض بشدة لهذا القرار وهو ما تَكرَّر تقريباً مع كيري في اجتماع لتقييم السياسة الأميركية باتجاه سوريا، حيث كان موقف كيري يدعم توجيه ضربات جوية لإضعاف نظام الأسد وتشجيع المعارضة على التقدم عسكرياً على الأرض ولذلك أتى بمصطلح “Change Calculation” أي تغيير حسابات الأسد على الأرض، وهو ما جوبه بالرفض من قبل الرئيس أوباما ونائبه بايدن الذي أشار أن ذلك سيكون بداية لتدخل عسكري طويل الأمد. وبالتالي كان كلا الشخصيتين في السياسة الخارجية على رأس الدبلوماسية الأميركية لم يحصلا على الدعم الأميركي في القرارات النهائية.
نشأت الفجوة الهائلة بين عدد القتلى الذي وصل في تلك الفترة في سوريا إلى أكثر من مئة ألف وبين الخطاب الأميركي الذي يُركِّز على فكرة العقوبات الاقتصادية
تَأخّر الرئيس أوباما تقريباً ستة أشهر حتى آب / أغسطس 2011 حينما طلب من بشار الأسد التنحي، وأعلن أنه رئيس فقد شرعيته ودار نقاش حول الإجراءات الأميركية في حال قرَّرَ بشار الأسد عدم الالتزام، وهذا وضع الإدارة الأميركية وخطاب أوباما مرةً أخرى في تناقض عندما نقول خطاب، ولكن لا يتم تتابع هذه الكلمات أو هذه الخطابات بمجموعة من الإجراءات الضرورية على الأرض من أجل تحويل هذه الأقوال إلى أفعال. بعد ذلك، بدأت الإدارة الأميركية بالتركيز على فكرة العقوبات الاقتصادية وبدأت تحشد إلى ما يُسمَّى فكرة مجموعة أصدقاء الشعب السوري من أجل دعم بُنِيَ على وهم في تلك الفترة على أن نظام الأسد لن يستطيع أن يقاوم الاحتجاجات السلمية التي بغلت مستويات ضخمة في مدن مختلفة في حمص وحماة، إذا ما تمَّ تشديد العقوبات الاقتصادية ومنع التمديدات المالية التي تصله من الدول المختلفة. طبعاً رد فعل نظام الأسد كان الاستمرار في عمليات القتل واقتحام المدن والاعتقالات العشوائية وتحول السجون إلى مراكز اعتقال جماعية، لكن موقف الإدارة الأميركية التي كان بايدن جزء منها على مدى عام ونصف لم يختلف، فكانت العبارات المستخدمة ذاتها بالتركيز على أن الأسد فقد شرعيته، وعلى أنَّ الموقف سيعتمد بشكل رئيسي على تشديد العقوبات الاقتصادية، وهذا هو عدم التوازن بين ما كان يجري على الأرض في سوريا وبين تقييم الإدارة الأميركية وخطابها السياسي.
ونشأت الفجوة الهائلة بين عدد القتلى الذي وصل في تلك الفترة في سوريا إلى أكثر من مئة ألف وبين الخطاب الأميركي الذي يُركِّز على فكرة العقوبات الاقتصادية ويقوم بالعمل من خلال مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان في جنيف اللذين تَحوَّلا إلى مُؤسستين غير فاعلتين بسبب الفيتو الروسي والصيني. وبالتالي كانت الولايات المتحدة على مدى عام ونصف حذرة تماماً باتجاه أي خطوات إضافية أخرى تُغيَّر موقفها مما جرى من سوريا، بعد ذلك انتقلت الولايات المتحدة إلى ما يُسمَّى تقديم المساعدات غير الفتاكة وهي بشكل رئيسي، لتزايد حجم الأزمة الإنسانية. نحن نتحدَّث عن أسوأ أزمة إنسانية في تاريخ البشرية فيما يَتعلَّق بعدد اللاجئين وعدد النازحين داخل الأراضي السورية فنصف السكان السوريين ما بين لاجئين ونازحين؛ أربعة ملايين لاجئ، وبحدود تسعة ملايين نازح “Displaced People” داخل سوريا. وفي الوقت نفسه لم يَتغيَّر موقف الإدارة الأميركية فحافظ على النسق نفسه وهو التركيز على “Non-Lethal Assists” المساعدات غير الفتاكة. وأعتقد أنه كانت هناك نافذة لتغيير هذه السياسة مع استخدام النظام الأسدي للأسلحة الكيميائية، وهو ما اعتبره الرئيس أوباما خطاً أحمر يجب أن تتم معاقبته عليه، لكن الصفقة الغامضة التي لم تُكشَف كل تفاصيلها التي تمت في 24 ساعة برعاية روسية من أجل تسليم نظام الأسد للسلاح الكيميائي ووقف هذه الضربة العسكرية أعتقد أنها لم تفلح أيضاً في منع الأسد من استخدام أنواع أسلحة أخرى وخاصة أنه يستخدم الآن بكثافة غاز الكلور السام الذي يترك أعراض شبيهة للسلاح الكيميائي في مناطق مختلفة في حماة وكفرزيتا.
نستطيع القول أنَّ الإدارة الأميركية بالرغم من وعودها فيما يَتعلَّق بمساعدة السوريين في حقهم في تغيير نظامهم السياسي أو في مساعدة السوريين في وقف هذه الأزمة الإنسانية فشلت فشلاً تاماً على المستوى الأخلاقي وعلى المستوى السياسي وقد كان بايدن جزءا من كل هذه القرارات، واليوم ورغم أن بايدن قد أصبح الرئيس إلا أنه أدرك أن الأزمة السورية استهلكت في القرارات الأميركية من تغيير في النتائج ولذلك في النهاية فضل الابتعاد عنها وتركها للزمن الذي يزيد من معاناة السوريين ويضاعف من آلامهم.
عذراً التعليقات مغلقة