تكون الذاتُ الجماعية جميلةً بمقدار ما تكون مُنتوجَ فنٍ وابتكار، لأنها تتشكّل: يُشكِّلُها الأفرادُ الواعون لتكون جميلةً بمعاييرهم، فهم لا يرثونها، ولا يعملون على توريثها ثابتةً كلون الشعر أو العينين. هي تُورَثُ وتُورّثُ بوصفها رأس مالٍ قابلا للتدوير: رأس مالٍ اجتماعي وثقافي ورمزي واقتصادي. وبمقدار ما تكون الذات أكثر جمالًا، بمقدار ما تكون أكثر وطنيةً؛ فالذات الجماعية لوحةٌ، ما أن تتشكل حتى تُؤثِّر في تشكيل صانعيها، كما تؤثر اللوحات الجميلة في إعادة تشكيل ذوق مشاهديها ورساميها.
يقول الفيلسوف الفرنسي المُتخصص في علم الجماليات شارل لالو (Charles Lalo): “نحن لا نُعجب بلوحةٍ لأنها جميلة، بل هي لوحةٌ جميلةٌ لأننا نُعجب بها”. ولمّا كانت إرادتنا السورية المشتركة (أو رغبتنا المشتركة على أقل تقدير) في أن تكون الذات الجماعية واحدةً من أجمل لوحاتنا، فإنها لن تكون جميلةً لذاتها، بل تكون جميلةً بقدر ما تعجبنا كلنا. يعني بالتعبير السوري أن تكون البلد “على كيف كل واحد فينا”. ويُستثنى الذين ما زالوا يُصِرُّون على الإجرام منهجَ حياةٍ وتفكير، لأنهم يخالفون الشرط الإنساني للجمال، ومن ثم يخالفون الشرط الأخلاقي الذي ينبثق منه، فالهمجية مضادّة للإنسانية، وهي نقيض الجمال؛ ونقيض الوطنية، ومن ثم هي مُضادة للسورية.
يتوالد من رحم هذه التقديم سؤالان توأمَان: كيف نشكل ذاتًا سوريةً جميلة؟ وكيف نشكل ذاتًا تُعجبنا كلنا من دون أي استثناء: “على كيف الكل”؟ ويفيد التقديم نفسه بأن الإجابة عن أحد السؤالين هي بالضرورة إجابة عن الآخر، واستنادًا إلى مبدأ لالو، فإن هذه الذات السورية المنشودة في السؤال الأول تكون جميلةً إذا أجبنا بنجاح عن السؤال الثاني: أي إذا أُعجِبَ بها السوريون كلهم، وليس العكس. هكذا يصبح للسؤالين الجواب نفسه، ما يمكننا من دمجهما في سؤال واحد كالآتي: كيف نصنع سورية التي تُعجبنا، التي ما أن تُعجبنا حتى تصبح سورية جميلة؟ ولمحاولة الإجابة، ثمة مقاربتان مفتاحيتان: الأولى، مقاربة للفرد السوري الجميل، فالفرد هو مادة الجماعة الأولية، إن كان جميلًا حقَّق شرطًا مُهمًا من شروط الجماعة الجميلة. ولأن الحُب أكثر ما يجعل الفردَ جميلًا، تصبح هذه المقاربة بالمجمل مقاربةً لمنزلة الحُب في السياسة، فالحُب سردية تفكيرٍ عظيمة، والفلسفة (وهي أم الفكر) تعني في أصلها “حُب الحكمة” (Philo – Sophia). والثانية حول مزج الذات بالموضوع، وهي ضرورية، لأن الحُب مسألة ذاتية شخصية، والوطنية مسألة موضوعية، والكلام في ابتكار وطنٍ بالحُب لا بد من أن يمر في عملية مزجٍ عقلاني للذاتي بالموضوعي، فيتعقلن الشعوري، ويتذوَّت العقلي، في عملية تطعيمٍ لهذا بذاك بحيث لا يلغي أي منهما الآخر، وبحيث تبدو ملامحُ كلٍ منهما في الآخر، وتكون علاقتهما كعلاقة الجَذع بالطُعُم لتكوين الثمرة.
بشأن المقاربة الأولى، لا يمكن أن يكون الإنسان فردًا من دون العقل، وشرط العقل هنا ليس عقله الخاص، بل عقل الآخر. حتى المجنون لا يكون مجنونًا إلا وفق تصنيفات أكثريةٍ من غير المجانين، فالفرد يحيلنا على الجماعة لأنه يحيلنا على الإدراك، إدراك كل ما هو ما ليس “الأنا”، أي إدراك العالم، وهذا الإدراك يتطابق دلالةً مع الوعي. لذلك فإن “الأنا” مفهومٌ ناقص من دون الآخر، وهذا الآخر هو شرطه الوجودي، ولكي ينضج الفرد يجب أن تنضج رؤيته إلى الآخر. وبتعبير أدق، يجب أن تنضج منهجية رؤيته إلى الآخر، ويجب أن يقاربه وفق وعيٍ مُعقلن. فالوعي إما أن يكون أيديولوجيًا فنفهم الآخر وفق أحكام الذات، وهنا لا نترك مساحةً كافية لظهور مفهوم الفرد، لأننا نستنزف قواعد المفهوم في بناء المقاربات الهووية؛ أو وعيًا تواصليًا يقوم على عقلانيةٍ تواصليةٍ تساعد الذات على فهم الآخر بالاستناد إلى حوارٍ مستمر معه، تكون الذات فيه فاعلة ومنفعلة، تُغير وتتغير، أي أنها تتذاوت. ليس حُب الآخر شرطًا للتذاوت معه، وللحوار، وللاتفاق، وللتعاقد، ولكن الشرط أن يكون الحُب جزءًا من منظومة الفرد المنهجية والمعرفية.
هكذا يمكن القول إن وجود الآخر هو شرط وجود الذات، وأكثر ما يعطي لوجود الفرد قيمةً في نفسه هو مقدار حُب الآخر له: فأنا أحُبك إذًا أنت موجود؛ لأن الحُب “اكتمالٌ بالآخر”، بتعبير أبي حيان التوحيدي. وفي هذا السياق يصل جاد الكريم الجباعي (صاحب تعبير “ابتكار سورية”) إلى فكرةٍ رائعة: “بالحُب فقط تتبلور الشخصية وتكتمل الفردية، واتحاد الشريكين هو استقلال كل منهما استقلالًا تامًا وهذا هو المعنى الأعمق لاكتمال الفردية”. ومن وحي ما سبق، نَطرح أن يصبح الحُب خطابًا سياسيًا، ثوريًا، اجتماعيًا، ولتكن مهمة نحت هذا الخطاب سياسيًا مهمةً وطنية تستحق مكانًا في أولويّات اليوم، بما يتناسب مع المزاج السوري العام. (طوّر المزاج الأميركي المناهض لحرب فيتنام مثلًا شعار: لنمارس الحُب بدلًا من الحرب: “make love not war”)
هذه دعوة إلى إحياء الأنا السورية الداعمة للوطنية، وللثورة، انطلاقًا من البنية الأولية، وهي “الأنا”، بما هي مزيجٌ من عقلٍ ومحبةٍ لا ينفصل أيٌّ منهما عن الآخر، فتكون “أنا” أخلاقية، ومدنية. يلخص دوق لوينس (مترجم ديكارت إلى الفرنسية) هذه “الأنا” بالقول: “أعرف أنني شيء يفكر، أي يشك ويُثبِت ويَنفِي ويَعرِف القليلَ من الأشياء، ويَجهلُ الكثير، ويحُب ويكره، ويريد ولا يريد، ويتخيل ايضًا ويحس”.
وبشأن مزج الذات بالموضوع، الصراع في سورية في جوهره أخلاقي، وقضايا الأخلاق في السياسة مركبة، وما أن تُدفع الأخلاق إلى السياسة حتى يتحتّم عليها أن تُواجه انتقاداتٍ ومثبطاتٍ تستند بمجملها إلى ضرورة تغليب المصلحة في مستوى السياسة، بزعم أن السياسة محضُ عقلانية خالصة. من ثم يصبح من السهل أن تجد هذه المثبطات مبرّراتها لتجاوز مسائل أخلاقية هنا أو هناك، بذريعة المنهج العلمي تارةً والبراغماتي تارةً أخرى؛ وكأن العلم بالعموم، والعلوم السياسية بالتحديد، مسألة عقلية محض، لا يتدخل فيها الفاهم بذاته وبطبيعة فهمه. والحقيقة أن الفكر العلمي لا يستطيع أن يقدّم سوى شرح محدود لطريقة الكينونة، من ثم طريقة الفهم والتغيير نحو الأفضل، لأنه (بتعبير هايدغر) يختزل العالم إلى شيء منفصلٍ عن الذات العارفة الواعية. ويصبح هذا الاختزال، في تقديرنا، مضاعفًا عندما يتعلق الأمر بإدارة الأزمات ذات الجذر الأخلاقي، كما في سورية.
هكذا يصبح تطعيم الموضوعي بالذاتي شرطا للتغيير، بما هو حلٌ مبتكر لتحقيق المصلحة وإعلاء الأخلاق في آن. وهذا المسار، برأي ميشيل فوكو، شرطٌ للتنوير على المستوى الشخصي، فهو يرى أن “الأشخاص الذين يبحثون عن حقيقتهم من خلال تعاريف علمية للذات لا يعرفون حقيقة وجودهم، فالتنوير الشخصي لا يحصل إلا عبر الشعور، والإحساس، والإدراك الحسي والتفكير”. وكأن فوكو يدعو إلى التنوير على المستوى الفردي من خلال تعاطي الجمال عبر مزجٍ للحس والتفكير، أي للذات والموضوع. وهنا نطرح أن تطعيم الموضوعي والذاتي ببعضهم، بحيث يتم التفكير عقلانيًا بالمسائل “القلبية”، إن صح التعبير، وصفةٌ قَيِّمةٌ للسوريين، لأنها منقذةٌ لحيواتهم، لذلك تستحق أن توضع أيضًا في أولويات العمل الوطني السوري. هي وصفة التفكير بالسلام، والحُب، والتماسك بمفردات بُنى اجتماعية سياسية، من الممكن تحقيقها ماديًا، بتعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.
الطموح في ابتكار ذاتٍ وطنية، طموحٌ إلى مُفرد؛ فعلى الرغم من ماهية الذات الوطنية التعددية، إلا أنها مُفرد مُتعدّد في داخله لأنها وحدةٌ غيرُ مقسّمةٍ من خارجها. يحيلنا هذه التعبير على تصوّر كانط لـ “الحكم على الأشياء”، فالحكم، في تصوّره، هو القدرة على رؤية شيء عام في شيء مُفرد. وبمعنى واسع، يقول كانط إن الحُكمَ على أمرٍ هو “القدرة على التسوية بين المعرفة والأخلاق”. وبما أن الصراع السوري في جوهره أخلاقي، فإن الذات الجماعية، بما هي منتجٌ يقوم على الابتكار والفن، ستقوم بالضرورة على التسوية بين المعرفة والأخلاق. وهذه وصفةٌ يصنعها الجمال العقلاني، القائم على التوافق والانسجام بين العقل والحواس، وهذا هو تعريف كانط للجمال، ومَكمَن تمييزه بين الجميل والمتسامي، فالأخير الذي يعبر عن “السلطة اللامحدودة للعقل على الحواس”، فكيف إذا كانت السلطة لشيءٍ مُشبهٍ بالعقل، أو لعقلٍ طفولي في السياسة والتفكير، أصبح شائعًا أكثر من أي وقتٍ مضى! عندها من الممكن أن تصبح ميول العاطفة إلى التقديس غيرَ مكبوحة، الأمر الذي يؤدّي إلى مسلسلاتٍ من الأدلجة تجعل من الوطنية فعلًا بيغماليونيًا: يصنع الجمال تحت تأثير عقدة نفسية، وما أن يصنعه حتى يضطر إلى تدميره تحت تأثير تجلٍّ من تجليات هذه العقدة نفسها.
عذراً التعليقات مغلقة