* عمر إدلبي
مع أول انقلاب عسكري جرى في العام 1949 في سوريا، تمكن الجيش من طرد مدنية السياسة خارج الحياة السورية لصالح العنف والقهر، وقطع الطريق على مسار حديث الولادة للدولة الوطنية الديمقراطية، وأرسل إنذارا شديد اللهجة إلى السوريين، لكنهم لم يصدقوا حينها أنهم سيعايشون العنف عقودا، وسيكون نصيبهم منه في حال الاحتجاج في منتهى الوحشية، وأن ديمقراطيتهم الفتية ذهبت ولن تعود.
وبمرور العقود الكثيرة من السنين من الحكم الشمولي الذي تجسد بأبشع تجلياته العنفية في السنوات الثلاثين التي حكم بها حافظ الأسد سوريا (1970-2000)، صارت “الديمقراطية” و”الحريات العامة” في ضمير النخب السورية أعمق بكثير من كونها قيما مجردة، حيث غدت خشبة خلاص من تسلط “دولة المخابرات” على الشعب والدولة واستغراقها فيها، وإدارة مؤسساتها بذراع أمني باطش وفاسد في آن.
ولم تفلح محاولات “الإصلاح والتحديث والتطوير” الخادعة من قبل وريث السلطة بشار الأسد، في صرف أنظار وآمال النخب السورية عن الإصلاح السياسي إلى أكذوبة “الإصلاح الإداري والاقتصادي”، بل ساهمت هذه المراوغات في تماسك جبهة المعارضات السورية في “إعلان دمشق”، الذي أطلق حراكا سياسيا جديا، دق انتشاره شعبيا ونخبويا ناقوس الخطر عند أجهزة النظام الذي سارع بالارتداد إلى أسلوبه القديم العنفي، وجدد هيمنته بالعنف والإقصاء على الحياة السياسية السورية.
قد لا تختلف العوامل المسببة لانطلاق الحراك الاحتجاجي الشعبي في سوريا في مارس/آذار 2011 عنها في بقية بلدان الربيع العربي، فالتشابه البنيوي كبير بين أنظمة حكم هذه البلدان، كذلك فإن طموح الشعب السوري لنيله حقوقه وحريته وكرامته وبناء دولة المواطنة والقانون التي يتسم بها عصرنا الحالي، عصر بناء الدول الديمقراطية، هو نفسه طموح الشعوب العربية كافة، إلا أن فارقا جوهريا يسم الثورة السورية يكمن في خصوصيّة المجتمع السوري المركبّ، دينيّا، وطائفيّا، وعرقيّا.
هذه الخصيصة التي ينظر إليها منطقيا على أنها مشهد حضاري يعكس انسجامُ مكوناته المختلفة رقيَّ أبناء الوطن وغنى تجربتهم الحضارية، أعاقت -بسبب سياسات نظام الاستبداد العنفية- تبلور هويّة وطنيّة جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام، وبالتالي أيضا فصل النظام عن الدولة، وأوجدت هذه السياسات تشكيلات مجتمعية تجد في نظام الحكم سندا وحاميا وداعما اقتصاديا، لتتحول مع انطلاق الثورة إلى بيئة حاضنة لأكثر الجماعات المسلحة عنفا، وهي المليشيات المسماة “الشبيحة” التي دافعت -وما تزال- عن نظام الأسد بأرواح أفرادها، انطلاقا من دوافع مصلحية وأيديولوجية أيضا في تفسير آخر معتبر.
وقد استثمر نظام الأسد في هذه الجماعات، إلى جانب استثماره في ولاء الأجهزة الأمنية وتشكيلات محددة في الجيش، وعناصر عسكرية من فئة كبار الضباط، وأطلق لهم العنان لاستخدام غير محدود للعنف، لم يثر لدى المجتمع الدولي إلا زبداً من الإدانات، فيما كان الوضع السياسي الجيوستراتيجي لسوريا وكونها حلقة من سلسلة حلقات في محور دولي، لا يؤيد أي تحول ديمقراطي في أي مكان في العالم، ولا سيما في الدول التابعة له أو الواقعة تحت نفوذه أو المرشحة لذلك. شكل هذا الواقع حصنا منيعا لنظام الأسد، ودعما إضافيا لاستكمال مشروعه العنفي في الانقضاض على ثورة اضطرت لاحقا لممارسة المقاومة المسلحة، بما هي عنف مضاد.
العنف الذي احتكرته الدولة، “النظام”، لعشرات السنين ضد خصومه السياسيين، لم يعد حكرا عليه، صار العنف وسيلة الخصوم جميعا، ومع تنامي الاستقطاب الطائفي في المنطقة عموما، وفي سوريا خصوصا -لا سيما مع دخول مليشيا “حزب الله” اللبناني، والمليشيات العراقية والأفغانية، على جبهة الدفاع عن نظام الأسد، وهي تشكيلات طائفية شيعية بالمطلق، أداتها الوحيدة للتعبير عن حضورها ودورها هي العنف- برز بالمقابل حضور تشكيلات عنفية مضادة (فصائل إسلامية جهادية) استخدمت خطابا طائفيا مضادا، ومارسته في صراعها عنفا، اختلفت أطياف المجتمعات العربية والإسلامية على مشروعيته، وأيضا على وصفه بالإرهاب.
ولم يغير التدخل العسكري الإيراني في صورة الواقع الدامي، ولم يكن للتدخل الروسي أثر جدي في تغيير حاسم بموازيين القوى، رغم زيادة رقعة وكثافة وآلام العنف الذي يتعرض له الشعب السوري.
ولتنظيم الدولة الإسلامية نصيب ربما يماثل نصيب “الأسد” ونظامه من العنف، إذ تبدت وحشية ممارسات هذا التنظيم في مشهدية بشعة صادمة، غطت في المحصلة على مشاهد القتل الجماعي وجرائم الحرب ومجازر الكيمياوي التي ارتكبها الأسد وجنوده.
العنف الذي ظهر عليه المجتمع السوري بكافة فئاته وتشكيلاته لم يكن مستغربا البتة، كذلك دأبُ النظم الاستبدادية عبر التاريخ، تحيل المجتمعات إلى كتل “قبل وطنية”، تجد في انتماءاتها البدائية ملاذا من تهديدات محتملة أو واقعة، وفي العنف ضد الآخر المختلف وسيلة للدفاع عن الوجود والذات وعن تشكيلاتها وتجمعاتها، وحيث لا ينفع العنف، تلجأ إلى المزيد منه ومن وحشيته، ولها في عنف النظام القهري والاستبدادي أسوة ومثال.
عشرات المليشيات وربما المئات منها، ومن الفصائل والكتائب والعصابات المسلحة، وعلى رأسها قوات ومليشيات الأسد، تبرع حاليا في استخدام كل أشكال العنف.. دون هفوة واحدة تظهر حرصها على مستقبل الإنسان السوري، ودون أن يكون للحريات العامة، والديمقراطية تحديدا، أي حضور في خطابها، حتى المراوغ منه.
وحين يصبح العنف سياسة الكل ضد الكل، ويصبح هذا العنف فعلا اجتماعيا معمما، فإن القانون والدولة يصبحان عرضة للانتهاك والتدمير، ويصبح الحلم بالمواطنة بعيد المنال، دونه والطامحين له تاريخٌ من الدم والثأر والشكوك المتبادلة المدمرة لمستقبل الوطن، وأحلام شبابه بالعدالة والحريات والأمان… وبالديمقراطية!
أليس هذا ما حصل في سوريا؟
* نقلاً عن: “مدونات الجزيرة”
عذراً التعليقات مغلقة