تقول الحكاية الإغريقية إن القائد أغاممنون كان متوجهاً بجيش الوطن إلى طروادة للقضاء على المؤامرة الكونية المتمثلة بفرار هيلينا مع حبيبها باريس. ولكن شيئاً ما وقع لم يكن بالحسبان، إذ قررت الآلهة معاقبة أغاممنون لثأر قديم بينها وبينه، وأثارت رياحاً عاصفة منعت سفن جيشه من الحراك وجعلتها تتداخل ببعضها مهددة الجيش بالفناء، وهنا أخذ مؤيدو أغاممنون وشبيحته يتململون ويتذمرون وكاد القائد يفقد السيطرة، فذهب إلى العرّاف مستغيثاً ليقول له الأخير: أمامك حل وحيد، عليك أن تضحي بابنتك الجميلة إيفيجينا وتسلم عنقها للنحر لترضى عنك الآلهة. تردد أغاممنون وحاول التملص، ولكن جنوده كانوا له بالمرصاد، فقالوا له: عليك أن تضحي يا حبيب، عليك أن تتذوق طعم الألم والخسارة. وهكذا وأمام سطوة الملك وإغراءات الكرسي قدم أغاممنون ابنته قرباناً، وتم لهم ما أرادوا في نهاية المطاف وأحالوا طروادة أثراً بعد عين وعادت هيلينا إلى زوجها العجوز.
ولكن ما علاقة هذا كله بأسماء الأسد؟
في الحقيقة قد لا تكون لها علاقة بكل ذلك، ولكنني أنا المواطن السوري الذي رباني نظام الأسد الابن والأب من قبله على المؤامرات الكونية التي تستهدف صمودي وممانعتي لا يمكنني أن أبلع قصة أسماء الأسد مع السرطان دون توابل نظرية المؤامرة.
ففي منتصف عام 2018 اكتشف مؤيدو نظام الأسد أن النظام كان يخادعهم وأن مئات المفقودين من أولادهم ممن اعتاد النظام لسنوات أن يقول لهم إنهم في سجون الفصائل في الغوطة كانوا قد قتلوا قبل زمن طويل وأن من هو أسير على قيد الحياة منهم لا يتجاوز العشرات، وأمام هذه الحقيقة انفجر صمت المؤيدين في صالة الفيحاء بدمشق في واقعة شهيرة، وراحوا يشتمون القيادة بأقذع الصفات، ثم ما لبثوا أن انطلقوا في مظاهرات في دمشق وطرطوس وغيرهما منادين: يا دكتور بدنا ولادنا يا دكتور!
وأمام هذه الحال المحرجة للدكتور أغاممنون كان لا بد من قربان يحسم الجدل ويوحد الصفوف ويُظهِر القائد مضحياً معانياً متوجعاً فظهرت إيفيجينا الأسد لتعلن على غير عادة الأسديين المتكتمين كصندوق أسود أنها مصابة بسرطان الثدي، مع كل ما يستتبع ذلك من أسى وحزن، فكلمة سرطان وحدها كافية لإثارة التعاطف، كيف لا وهو المرض الذي لا يفوق عدد ضحاياه إلا ضحايا الأسد نفسه؟
إيفيجينا الأسد منذ الأيام الأولى قامت بتغطية شعرها وخرجت عبر الإعلام باهتة شاحبة وانطلقت الصفحات والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي لتتضامن مع “سيدة الياسمين” كما يحلو لمؤيدي النظام تسميتها، ولتُظهِر إيفيجينا كم هي من هذا الشعب وأنها مثله تعاني ما يعانيه حرصت وكالة الأنباء سانا والقصر الجمهوري على التقاط الصور لها في المستشفيات الحكومية العسكرية تماماً حيث يتعالج أولاد المؤيدين، وكثّفت سيدة الياسمين وهي في حلّتها السرطانية من زياراتها لأسر شهداء الجيش والمصابين، زارتهم في بيوتهم وتضامنت معهم وتضامنوا معها وبثوا شكواهم وحزنهم بعضهم لبعض، بل وظهرت تسجيلات فيديو عديدة لإيفيجينا وهي تقف في الطابور مع الشعب في المستشفى لتحصل على العلاج، فتتلقفها الأمهات المكلومات بأولادهن العساكر أو الباحثات عن بقايا جثث أولادهن المقتولين تحت التعذيب في الفروع الأمنية، ونسين أوجاعهن ورحن يدعين لها بالشفاء والخلاص، وحرصت القيادة على نشر كل ذلك وترويجه لترينا حجم تعاطف الشعب والتفافه حول سيدته المضحية وتضامنه مع القائد الذي يذوي حزناً وكمداً على محبوبته.
مرّ عام على المحنة، عاد الالتفاف حول القائد، وأُخرِست الأصوات التي قد تفكر بانتقاد القيادة وصرّح القائد وزوجته أن حربهما القادمة أخطر من حربهما السابقة ضد الإرهاب أي ضدنا، فالحرب الآن هي حرب الإنترنت وحرب المندسين في صفوفهم، ولذلك تم تغييب العديد من الناشطين والإعلاميين وأغلقت الصفحات التي احترفت التطبيل للقيادة بعدما سوّلت لها نفسها الشذوذ عن السراط الأسدي المستقيم، وأخفي المنتقدون، وأعلنت أسماء الأسد أنها تعافت من السرطان وخلعت هيأتها السرطانية، وظهرت حاسرة الرأس لنكتشف أن شعرها لم يتساقط بفعل العلاج كما هي الحال مع كل مرضى السرطان، بل صار أقصر وبتسريحة أكثر عصرية وملاءمة لزوجة الدكتاتور قائد الدولة العلمانية، وأننا إذا وضعنا لها صورتين قبل السرطان وبعده بحثاً عن الفوارق العشرة، لن نجد إلا فارقاً واحداً هو اختفاء بعض المساحيق التجميلية التي عادت لتخفي الشحوب معيدة الألق والحياة لسيدة الياسمين.
عموماً، لا يمكننا كمعارضة بلا شرف كما قالت سيدة الياسمين مُعلّقة على من شمت بمرضها، إلا أن نبارك لها شفاءها ولأغاممنون زوال غمه، فليس من العدالة أن ينتهي ثأرنا معهما بحادث تحت بند قضاء وقدر بعد سنوات طويلة من الثورة الطامحة لوضعهما مع بقية سرطانات نظامهما خلف القضبان في انتظار عدالة الأرض!
عذراً التعليقات مغلقة