البوكمال والقائم.. أكثر من مجرّد حدود

فريق التحرير5 سبتمبر 2019آخر تحديث :
خضر خضّور

تفصل بين مدينة البوكمال السورية ومدينة القائم العراقية على طول الحدود السورية-العراقية بضع مئات الأمتار، وتربط بينهما تاريخياً علاقات قبلية وعائلية. وعلى امتداد عقود، اكتست المدينتان، والحدود الفاصلة بينهما، أهمية استراتيجية بالنسبة إلى البلدين، حتى لو بدا أن دورهما توسّع اليوم وباتت له انعكاسات على الخصومة بين إيران وإسرائيل.

مرّت الحدود السورية-العراقية بمراحل عدّة أدّت فيها أدواراً أساسية في السياسة الإقليمية. ففي خلال الثمانينيات، كانت الحدود بمثابة جبهة أمامية في الخصومة بين حزبَي البعث السوري والعراقي. وكانت البوكمال والقائم متقاربتين جدّاً جغرافياً وثقافياً، لكن السياسة كانت تفصل بينهما. وبُعيد استيلاء صدام حسين على السلطة في العراق في العام 1979، تدهورت العلاقات العراقية-السورية، وعمد النظامان البعثيان المتناحران إلى إغلاق الحدود. ونتيجةً لذلك، أصبح التهريب، ولاسيما تهريب السجائر والمواشي، سمة أساسية في الاقتصاد والمجتمع المحليَّين، استناداً إلى العلاقات القديمة بين الجانبَين. وساهم في تسهيل هذا الأمر العدد الكبير من المناطق غير المأهولة والأنفاق الطبيعية على طول الحدود.

في العام 2003، بعدما أطاح تحالفٌ عسكري بقيادة الولايات المتحدة النظام البعثي العراقي، بدأت السلطات السورية بإرسال الجهاديين خلسةً إلى العراق لمهاجمة قوات التحالف التي اعتبرتها تهديداً لها. واستخدم الجهاديون شبكات التهريب القائمة لنقل المقاتلين. وظلت هذه الشبكات على حالها حتى اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011، حين بدأ المقاتلون يتدفّقون في الاتجاه المعاكس، ودخل عناصر من جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، ومن التنظيم الذي بات يُعرَف لاحقاً بالدولة الإسلامية، إلى سورية من خلال هذه المنطقة. وفي خلال الفترة نفسها، توسّع التهريب كثيراً ليشمل الأسلحة والمواد الغذائية وغيرها من المنتجات، إلى جانب أنشطة اقتصادية أخرى مرتبطة بزمن الحرب.

وفي العام 2014، عندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة من الأراضي في سورية والعراق، أصبحت منطقة البوكمال والقائم محط اهتمام كبير للجهاديين الذين كانوا ينقلون الأشخاص والأسلحة والبضائع بين البلدَين. وإلى جانب شبكات التهريب القائمة، جذبت المنطقة مقاتلي الدولة الإسلامية بسبب أنفاقها الطبيعية، ما أتاح لهم التنقل من دون أن تكتشفهم الطائرات والطائرات المسيّرة.

علاوةً على ذلك، تتّسم المنطقة بخصوبتها، مايسمح للمقاتلين بزراعة المحاصيل لتأمين الغذاء، بدلاً من الاعتماد على المواد الغذائية المستورَدة. وتحيط بها في الوقت نفسه صحراء شاسعة أمّنت لمقاتلي الدولة الإسلامية هامشاً للمناورة من دون وجود أعداء على مقربة منهم، ماساعد على تسهيل تحرّكاتهم عبر الحدود. ونظراً إلى خسارة الأراضي الزراعية، وارتفاع الأسعار، وتدمير البنى التحتية في خلال النزاعَين السوري والعراقي، طغت الأنشطة ذات الطابع العسكري على الحياة الاقتصادية، وشملت تصنيع متفجّرات وبزّات عسكرية.

واستغلت الدولة الإسلامية وجودها أيضاً لتُقدّم نفسها كمدافِع عن المصالح السنّية، ما سبّب معضلة للقبائل المحلية. فقد أرادت القبائل السنّية إخراج الدولة الإسلامية من مناطقها، لكنها لم ترد أن تصبح هذه المناطق خاضعة إلى سيطرة الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة. وقد تمكّن مقاتلو الدولة الإسلامية من استغلال هذا الالتباس وإرغام القبائل المحلية على دعمهم ومبايعة التنظيم. فأثّر ذلك بشكل كبير على الاستقرار في المنطقة، حيث تمكّنت الدولة الإسلامية من إظهار نفسها على أنها تؤمّن الحماية للقبائل السنية.

وفي أواخر العام 2017، تمكّنت قوات نظام الأسد، بمؤازرة من الميليشيات المدعومة إيرانياً وسلاح الجو الروسي، من استعادة السيطرة على البوكمال. واستولت “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة على المناطق الواقعة شمال المدينة، والمعروفة بالجزيرة. وفي الجانب العراقي من الحدود، عمدت قوات الحشد الشعبي ذات الغالبية الشيعية والجيش العراقي إلى طرد الجهاديين من مدينة القائم. ومنذ ذلك الحين، تُحكم الحكومتان السورية والعراقية قبضتهما الأمنية على المدينتَين، بدعمٍ من إيران.

واليوم، تؤدّي الحدود السورية-العراقية دوراً جديداً في الخصومة الإقليمية الناشئة بين إيران وإسرائيل. فالدولتان الآن تعتبران أن الحدود ترتدي أهمية استراتيجية. ففي نظر طهران، تعني السيطرة على الحدود امتلاك القدرة على نقل القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية العراقية إلى سورية ولبنان، في حال اندلاع نزاع أوسع مع إسرائيل. أما إسرائيل، فهي تسعى بدورها إلى الحؤول دون حدوث ذلك، لذا استهدفت على مايبدو أراضٍ عراقية، بما في ذلك مناطق محاذية للحدود، كي يُفكّر الإيرانيون ملياً قبل نشر قوات بالوكالة عنهم.

غالب الظن أن الحدود السورية-العراقية على مقربة من البوكمال والقائم ستبقى مهمة استراتيجياً في المستقبل، بغضّ النظر عن عزلتهما الجغرافية الظاهرية. فقد أصبحت المدينتان أكثر بكثير من مجرّد معبر حدودي، وتُجسّدان في هذا الإطار تخوماً ذات تداعيات على المستوى الإقليمي. وهذا الوضع لايمكن أن يروق لسكّانهما الذين عانوا مراراً وتكراراً تداعيات ديناميكيات خارجة عن سيطرتهم.

المصدر مركز كارنيغي للشرق الأوسط
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل