لم أتوقع أن أضطر يوماً إلى الوقوف -بصفتي طبيباً- أمام وسائل الإعلام وعبر قنوات التواصل الاجتماعي مناشداً: “نحن بحاجة إلى كل شيء كي نكون أي شيء”. حينها كنت أتحدث مطولاً وفي عدة مناسبات عن الدرك الذي تردى إليه الوضع الصحي في المخيم:
● النقص الفادح في الكادر الطبي المتخصص.
● دمار البنية التحتية الاستشفائية بالكامل.
● الشح الدوائي الشديد.
● الأوبئة التي تفشت (الحمى التيفية والتهاب الكبد الإنتاني A).
● معاناة الحوامل والمسنين والمرضى المزمنين ومرضى السرطان..
لكن قبل هذه المرحلة، وفي أثنائها، كان لا بد من المرور بتجربة المخمصة/ المجاعة:
نحن الآن في منتصف تموز، بالضبط في 17-7-2013، أغلق مدخل المخيم مجدداً. سندرك لاحقاً أن هذه المرة ستكون الأخيرة/ الدائمة، سيكون الحصار المطبق/ النهائي/ الكلي. منذ بداية العام، كما ذكرنا في الجزء السابق، كان الإغلاق جزئياً، وكان الحد من دخول المواد الغذائية والطبية تمهيدا مدروسا لخنق المخيم باستنزاف “مستودعاته” بادئ الأمر (لعل هذا التكتيك هو الذي يسمونه: تجفيف منابع الحياة!).
شيئاً فشيئاً سيأكل سكان المخيم الحشائش، سيكتشفون نبتة “رجل العصفور” التي تسببت عند كثيرين بمشكلات صحية تراوحت بين أعراض التسمم والقصور الكلوي الحاد، سيتناولون شوربة البهارات، ستظهر الفتاوى التي تجيز أكل لحم القطط والكلاب، سيصبح مشهد الوجوه الشاحبة التي تنتأ عظامها، والأجسام المهزولة الضاوية، والأقدام المتوذمة، والبطون الخاوية.. مشهداً مألوفاً ومعتاداً يطابق مشاهد المجاعات التي كنا نحسبها حكراً على القارة السمراء، والتي كانت تتحفنا بها وسائل الإعلام من حين لآخر. ثم سيموت -وفق أكثر إحصاءاتنا اعتدالاً- مئة وثمانية وثمانون شخصاً، سندعوهم تزكية: شهداء الجوع، ولعلّ التعبير الأدق أن نقول: قتلى التجويع.
من المسؤول؟
في تلك الفترة، صرحت نافي بيلاي، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن “عرقلة وصول المساعدات جريمة حرب”. في الفترة عينها، وصفت منظمة العفو الدولية “حصار جيش نظام الأسد لمناطق بينها مخيم اليرموك” بأنه “جريمة حرب”.
بعد حملات، ومناشدات، ويوم إعلامي تضامني مع المخيم قامت به بعض الفضائيات واسعة المشاهدة (أذكر من بينها الجزيرة و BBC)، دخلت في 19-1-2014 أولى المساعدات: كانت مقدمة من الأونروا، وكانت عبارة عن مئتي سلة غذائية لمخيم سكانه لا يقلون عن اثني عشر ألف جائع! حينها فقط سمعنا عالياً صوت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني: منظمة التحرير الفلسطينية. ففي مؤتمر صحفي سريالي، أعلن أحمد مجدلاني رئيس وفد المنظمة إلى دمشق أن “المجموعات المسلحة المتطرفة التابعة لتنظيم القاعدة (داعش والنصرة) تتحمل مسؤولية إعاقة إدخال المواد الغذائية إلى مخيم اليرموك ما أدى إلى وجود كارثة إنسانية داخله”. وبصفته “المنظماتية” لن ينسى أحمد مجدلاني أن يستجلب خلاف السلطة مع حركة حماس إلى مائدة الجوعى، فهو يذكر أن هناك “تنظيمات محسوبة على حركة حماس متحصنة داخل المخيم” وهو يطالب حماس “بإصدار بيان تعلن فيه التبرؤ من هذه التنظيمات”. هذا كل ما في الأمر إذن!
من المسؤول؟
المسؤول أولاً وأساساً هو من حاصر المخيم: جيش الأسد وحلفاؤه من التنظيمات الفلسطينية التي تسمي نفسها: فصائل العمل الوطني! وعلى رأسها الجبهة الشعبية- القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، وجبهة النضال. والمسؤول ثانياً هو من يزعم تمثيل الشعب الفلسطيني دون أن يكون أهلاً لهذه المسؤولية، وقادراً على هذا التمثيل.
والمسؤول ثالثاً هم الفاسدون في المنظمات والهيئات الإغاثية الذين تاجروا بدماء أبناء شعبهم وأرواحهم.
Sorry Comments are closed