سنةٌ على خفض التصعيد .. تقاسمُ نفوذ وتهجير قسري

سليمان نحيلي22 مايو 2018آخر تحديث :
سنةٌ على خفض التصعيد .. تقاسمُ نفوذ وتهجير قسري

تُعتبرُ جولات أستانا المتتالية، وما نجم عنها من اتفاقية ما سُمي (مناطق خفض التصعيد أو خفض التوتر) منذ حوالي عام، خروجاً واضحاً عن مسار جنيف الأساسي عام 2012، والذي تتفق الغالبية العظمى من السوريين على ما جاء فيه، والذي حاز على الموافقة الدولية بحينها، في وقتٍ كان الحسم العسكري من قبل النظام الأسدي أو المعارضة المسلحة مستحيلاً.

إنّ مخرجات جنيف -التي تتلخص بمرحلة انتقالية يتولى فيها مجلس انتقالي بصلاحياتٍ تنفيذية كاملة لفترة محددة يهيئ الأوضاع لإجراء انتخابات نهائية شاملة، توصل البلاد إلى برّ الأمان وترسي دعائم الحل السياسي الديمقراطي الذي يحفظ حقوق جميع مكونات الشعب السوري- لم تْعجب بشار ونظامه لأنه أدرك نهايته السياسية الفعلية لو طُبقت تلك المخرجات.

ولم يتسنّ للنظام الخروج من قمقم جنيف حتى التدخل الروسي العسكري في أيلول سبتمبر 2015، بناءً على (قاعدة التنسيق قبل العدوان) التي وضعها وزير خارجية النظام وليد المعلم في سابقة خطيرة وغير مشهودة لشرعنة وتبرير الاحتلال والبقاء في السلطة، لقد حمى الروس النظام من السقوط، وأمنوا له الخروج من مأزق جنيف، وكان بداية تحوّلٍ في مسار المسألة السورية، قلبت موازين القوى لمصلحة النظام والروس، وغيرت مجريات الأحداث على الأرض بشكل حاد.

لقد أدرك الروس منذ البداية جشع بشار الأسد للسلطة التي من أجلها كان مستعداً لتقديم أقصى التنازلات للحفاظ على حكم سورية ولو كانت خراباً على رؤوس شعبها المنتفض. وقد أرادت روسيا في أستانا بعد أن وضعت ثقلها العسكري في سورية أن تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي من جهة حققت رغبة بشار ببقائه في السلطة، ومن جهة ثانية حاولت الظهور بمظهر من يقدّمُ حلّاً سياسياُ للشعب السوري يُنهي معاناته، فكان أن وافقت أغلبية المعارضة على المضي في مسار أستانا تحت ضغوط الدول الداعمة للفصائل العسكرية المعارضة، وفي ظلّ عدم توحدها وخلافاتها المعقدة، وبدافع وقف حمام الدم النازف على امتداد الجغرافية السورية، بالرغم من اعتبار جزء هام من المعارضة بشقيها السياسي والعسكري لمسار أستانا بأنه تفريطٌ لتضحيات الشعب السوري وخيانة لدماء شهدائه على مدى ست سنوات.

ويمكننا القول أنّ اتفاقية خفض التصعيد الناتجة عن أستانا شجّعت المعارضة بظروفها المذكورة المحلية والدولية على المضي في توقيعها، إذ لمست فيها بحسبان تنفيذها كما جاءت من -وقف للقتال، وبقاء الفصائل في مناطقها مع المحافظة على أسلحتها حملةً، وقيام إدارة محلية تتولى إدارة هذه المناطق، والسماح بدخول المساعدات الانسانية المتنوعة، وعدم دخول قوات النظام لهذه المناطق، وعودة النازحين إلى مناطقهم، وإصلاح البنية التحتية- ما يحقق بعضاً من مطالب الشعب السوري الذي أُنهكَ تقتيلاً وتدميراً وتهجيراً، وربما يؤسس الأرضية الصالحة لمفاوضات تثمر عن الاتفاق على قضايا الحل النهائي.

فما الذي جرى بعد ذلك؟

الذي جرى أنه بعد أن نجحت روسيا في سوق المعارضة إلى شرَاكِ خفض التصعيد، تحت ضغط التخفيف من معاناة الشعب السوري وغيرها من العوامل، قلبت الطاولة، فلم يكن عسيراً على العنجهية والمكر الروسيين اختلاق الذرائع والحجج من أجل العودة إلى مسلسل القصف والتدمير الذي بدأته على الشعب السوري، مرةً بحجة خرق المعارضة لوقف لإطلاق النار، وأخرى بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية.

وكان التكتيك العسكري الروسي المتبع هو نفسه في مناطق خفض التصعيد الأربع المتفق عليها، إذ يقضي بالتحشيد العسكري الشديد المدعوم من ميليشيات النظام والميليشيات الإيرانية على منطقة ما، وإمطارها قصفاً من البر والجو والبحر وباستخدام كل أنواع الأسلحة حتى الكيماوي منها، بهدف تركيعها وإجبارها على التفاوض والاستسلام، وتسليم الفصائل أسلحتها والخروج مع المدنيين قسراً من مناطقها.

وقد اتبعت روسيا هذا التكتيك في كل المناطق بدءاً بحي الوعر الحمصي الغوطة الشرقية ودوما والقلمون الشرقي والضمير ومناطق جنوبي دمشق وريف حمص الشمالي مؤخراً، وليخرج المسؤولون الروس إثر كل عملية استسلام وتهجير ديموغرافي ممنهج لمنطقة من مناطق خفض التصعيد الموهومة بتصريحٍ يدّعونَ فيه بأنّ اتفاقية خفض التصعيد حققت النتائج المرجوّة منها في إنهاء العنف.

هكذا قلبَ الروس مفهوم خفض التصعيد إلى (التصعيد بقصد الخفض المنتهي بالاستسلام والتهجير).

وعلى أنّ هذا التكتيك ما كان يجري دون تفاهماتٍ من الدول الثلاث الشريكة في اتفاقية العسل المرّ خفض التصعيد (روسيا وتركيا وإيران)، سواء من تحت الطاولة أو على العلن، يتم من خلالها اقتسام مناطق الداخلة في اتفاقية الخفض فيما بين هذه الدول وفق مقتضيات مصلحة كلّ منها على الصعيدين الحالي والاستراتيجي، وربما ليس آخر تلك التفاهمات، ذلك الجاري بين تركيا وإيران والذي مؤاده إدلب والشمال المحاذي لها لتتمكن من ردع التنظيمات الكردية المعادية لها، والمصنّفة إرهابية مقابل دمشق وغوطتها الشرقية، وظهر ذلك في الواقع على شكل صمتٍ تركي مطبق على حملة تركيع الغوطة الشرقية من قبل النظام وروسيا وايران، حيث تهدف الأخيرة من سيطرتها على محيط دمشق إلى تهجير سكانها الأصليين واستبدالهم بالميليشيات الطائفية الإيرانية، بغية توفير كتلةِ تأثيرٍ سكانيةٍ دائمة على موقع صنع القرار السياسي في دمشق بصرف النظر عن الحاكم حالياً أومستقبلاً.

لذلك وبناءً على ما سبق استعراضه يظهر جلياً أنّ اتفاقية خفض التصعيد لم تُسفر سوى عن تقاسم الكعكة السورية وفق مناطق نفوذ خاضعة للدول الشريكة الموقعة على الاتفاقية والمسماة ضامنة، وتصفية المعارضة المسلحة بالاستفراد بكل منطقة على حدة ومن ثم استسلام فصائلها وتهجير أهلها، وهذا ما كرّس بطبيعة الحال بقاء النظام وحالَ دون سقوطه.

فهل نعي مستقبلاً هذه الدروس؟
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل