الاعترافات وجيل الهزيمة

عماد غليون31 مارس 2018آخر تحديث :
الاعترافات وجيل الهزيمة

اعتدنا تفسير هزائمنا ونكساتنا الوطنية والقومية باختراع أسباب تربطها بنظرية المؤامرة؛ ودائماً كنا ننتظر تفسيراً مختلفاً يشذّ عن تلك القاعدة؛ توقعت أن يفيدني في ذلك كتاب جيل الهزيمة للدكتور بشير العظمة؛ لكنه كان بمثابة مذكرات وسيرة ذاتية للمؤلف؛  لكن العظمة الطبيب الدمشقي يتميز في الكتاب بسرده البسيط العفوي البعيد عن التزويق والتنميق لدرجة الواقعية والصراحة التي جعلته يضع نفسه تحت مشرح النقد بل والاتهام؛ وقد وضع نفسه وجيله أمام المحاكمة وتحمل مسؤولية الهزائم اللاحقة  بسبب فشل الطبقة السياسية في تقديم مشروع وطني نهضوي؛ ويتحدث العظمة الذي ينتمي للطبقة الوسطى من بقايا الأرستقراطية العثمانية عن الكواليس التي أوصلته -وهو رجل غير سياسي- بطريقة غريبة لمنصب وزير الصحة أيام الوحدة ثم رئاسة الوزراء لعدة أشهر بعد الانفصال قبل انقلاب البعث عام 1963؛ ويتحدث العظمة بأمانة من وجهة نظره عن الأجواء السياسية الملبدة السائدة وقتها.

شغفت بكتاب جيل الهزيمة ولم أجد ما يماثله من مذكرات السياسيين السوريين؛ حيث لا يزال الغموض يلفّ معظم الأحداث التي عصفت بسورية منذ قرن وحتى الآن.

تفيد مذكرات السياسيين في معرفة كواليس الأحداث الوطنية الخطيرة والمفصلية؛ كيف تطورت الأمور؛ وما هي العوامل الخفية  في حصول الهزائم والنكبات؛ وكيف كان يتم إطلاق وعود الانتصارات الوهمية على الجماهير.

المذكرات تكون صادقة أو لا تكون كما يقول العظمة؛ لذلك لم تجد الكثير من كتب المذكرات الاهتمام بها كما جيل الهزيمة الذي كانت المخابرات متشددة في منعه؛ ومعظم تلك الكتب كانت محاولات يقوم بها سياسيون سابقون لتبييض صورتهم السوداء وتحويل فشلهم وفسادهم لإنجازات وهمية.

تعاني الثقافة العربية أزمة توثيق خاصة في مجال السياسة؛ وقد أثر في ذلك العقلية العربية التي تركن للروايات الشفهية حيث يفتقر تاريخنا السياسي بشكل كبير للوثائق.

رغم أن علم التاريخ العربي يستند لقواعد علوم الحديث في الرجال والأسانيد؛ إلا أن كتب التاريخ بقيت تعج بالغث والسمين وتحفل بروايات ضعيفة معظمها يعبر عن طرف واحد ورؤية واحدة؛ وقد أثرت الحالة السياسية المذهبية السائدة والمسيطرة بعدم ظهور نقد تاريخي منهجي؛ وهو ما يتضح في تجاهل تاريخ ابن خلدون نفسه الذي تعتبر مقدمته مؤسسة لعلم الاجتماع.

نتعلق كعرب أكثر من غيرنا بالماضي ونتغنى بالأمجاد؛ وهنا تكمن أهمية تصحيح وفهم الأحداث التاريخية الحاسمة التي لا تزال حاضرة في حياتنا؛ فهناك أحداث خطيرة كالجمل وصفين وكربلاء وتواريخ الخلفاء والفرق والمذاهب والاضطرابات والفتن التي أطاحت بالدولة العربية الإسلامية؛ وفشلت كل محاولات إعادة كتابة التاريخ لخضوعها للأهواء والدوافع السياسية.

لا يمكن التسليم بمذكرات السياسيين كمصادر ومراجع تاريخية دون تمحيصها وإخضاعها للنقد المنهجي؛ وتلعب الوثائق الغربية  بشكل كبير أو ما يتم نشره وتسريبه منها دور التوثيق لتاريخنا الحديث منذ نهاية الدولة العثمانية على الأقل.

هناك الكثير من كتب المذكرات والسير الذاتية لشخصيات معروفة عملت في السياسة والصحافة والشأن العام؛ وما يقلل من أهمية الكثير منها تغلب العوامل الذاتية على الموضوعية.

تفتقر مكتبتنا السياسية السورية إلى مذكرات وسير شخصيات معروفة لعبت دوراً رئيسياً في حياة سورية؛ ومن غير الواضح  سبب هذا الإحجام مع أن الظروف كانت متاحة قبل انقلاب البعث في عام 1963 حيث تغيرت الأوضاع في سورية بشكل جذري نحو قمع الحريات العامة؛ وكرس ذلك حركة حافظ الأسد في العام 1970؛ ثم توريثه السلطة لابنه بشار عام 2000؛ حيث باتت الطبقة السياسية من لون واحد لا يصدر عنها ما يدين النظام الحاكم إلا في بعض حالات الانشقاق والخلافات الجوهرية؛ مما أضاع  معرفة الكثير من الوقائع المفصلية الوطنية في تلك الفترة وجعلها محاطة بالأسرار والغموض.

لا يزال دور اللجنة العسكرية الخماسية ووصول حافظ الأسد لحكم سورية من خلالها لغزاً؛ وكذلك دور الجاسوس كوهين والاختراقات العميقة التي قام بها؛ وهزيمة حزيران القاسية عام 1967 ودور حافظ الأسد في تسليم الجولان؛ وحرب تشرين  التحريكية عام 1973 ونتائجها؛ والتفويض الأمريكي الاسرائيلي للأسد في لبنان منذ عام 1979؛ ثم عملية توريث الحكم والجهات الدولية التي قامت برعايتها؛ وأسباب ودوافع التحالف الاستراتيجي مع إيران.

مرت الثورة السورية منذ اندلاعها في آذار 2011 بتحولات خطيرة أبعدتها عن مسارها وشعاراتها الأساسية؛ ولا يزال تفسير أحداث الثورة ومجرياتها يستند للتحليل والرأي السياسي أكثر من الاستناد للوقائع الموثقة؛ وقد ظهرت كتب تمثل شهادات المعتقلين في سجون الأسد وما تعرضوا من أهوال؛ وكتب عن تجارب ثورية فردية؛ وهي مهمة بلا شك.

ننتظر مذكرات شخصيات معارضة سياسية وعسكرية؛ لنفهم الدور الإقليمي والدولي في تشكيل هيئات المعارضة والهيمنة عليها ومصادرة قرارها؛ وكيف تلاعب الداعمون بالثورة والفصائل المسلحة؛ وكيف تمت أسلمة الثورة؛ والغطاء الدولي لعمليات التهجير القسري؛ واختراقات النظام في صفوف الثورة؛ واللعبة الدولية في مفاوضات عبثية لتعويم النظام والتغطية على جريمة العصر بحق الشعب السوري.

الوثائق التي بحوزة المعارضة ملك للشعب السوري لمعرفة الحقيقة؛ وسيمر وقت طويل قبل ظهور الوثائق الدولية؛ وهناك الكثير من عوامل الضبط والتصحيح للوثائق.

نحتاج لفهم ماهية العلاقة بين الجيل الممتد للقرن الماضي وهزائمه وتأثيره السلبي على جيل الثورة؛ ونحن في انتظار السياسي المعارض والعسكري المقاتل الذي يمتلك الجرأة ليعترف بما ارتكب من أخطاء ويكون ذلك بمثابة كفارة لما حصل بحق الشعب السوري وثورته العظيمة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل