رحلة الباص الأخضر من ريف دمشق إلى إدلب

مازن الريفي7 مارس 2018آخر تحديث :
مازن الريفي

لا أنسى ذلك اليوم بوجوه المهجرين الشباب والنساء والأطفال الذي كان من أصعب الأيام من حياتنا، كانت السماء ماطرة والثياب مبللة في الماء ووجوه الناس كانت قد تتقطر منها الدماء والكلمات كلها لا تكفي لوصف المشهد وبين جموع المودعين من أبناء المدينة وآهات الأمهات وبكائهم، وبين عناصر النظام على الحاجز، لم تكن ألوان الحافلات فقط خضراء بل كانت بيضاء وحمراء ومنها سوداء، حينها استوقفنا ضابط من قوات النظام وقال لنا “لا تركبوا الباص.. عودوا لحضن الوطن نحن نريدكم أن تبقوا في بلدكم.. خياركم صعب ومصيركم صعب حضن الوطن هو الأمان إدلب هي الجحيم.. إذا وصلتم إدلب لن تستطيعوا العودة إلى هنا.. أنصحكم”، هذا الكلمات كررها كثيراً، ولكن لم نأخذ لها أي قيمة لأننا نعرف ما هو النظام ونعرف غدره وحقده على جميع معارضيه، البقاء هو الخدمة في الجيش أو الاعتقال.

قُبيل صعودنا إلى الباصات بدأنا بالتقاط الصور التذكارية الأخيرة مع أصابع النصر على أسوار مدينتنا ومع أصدقائنا لأننا نعرف أن العودة طويلة وستستمر سنوات، لم نكن نتخيل أننا سنغيب شهوراً ونعود، الحافلات كانت مصطفة على شكل رتلٍ على يمين الطريق، اكتمل الموكب المؤلف من 20 حافلة لتبدأ رحلة الوداع الأخير لبلدنا، ربما هو الشعور ذاته الذي كنتُ قد رأيته قبلاً على شاشات التلفاز لأهالي داريا وخان الشيح ومعضمية الشام، انطلقت الحافلات والشوارع فارغة إلا بعض البيوت وبعض الأشخاص يجلسون على قارعة الطريق يراقبون موكب التهجير، المضحك أنني في لحظة شعرت أنّنا أناس مهمون لأن المرافقة كانت ترتبط في ذهني كموكب للرئيس والمسؤولين. أما أنا والشباب الأربعة الذي رافقوني في الباص كنا فقراء يدفعنا الحنين والهرب من قدر تركناه ورائنا. لم نتوقف عن التدخين والمزح والضحك .. كنا نرتدي كنزات شبيهة ببعضها ومعاطف سوادء وبنية، لم يكن في جيبنا إلا القليل من المال الذي لا يكفينا قوت شهر. كنا ننتظر أن تمر بنا الحافلات داخل دمشق لنشتم رائحتها لآخر لحظة، وأنا الذي كنت أبحث في ذاكرتي ما قرأت سابقاً، عن توصيف حقيقي لذلك الشعور الذي يمنع أحدنا من التوقف للتبول، وإن حدث ذلك هل سيقف الموكب الطويل وكل الجموع المرافقة لرؤيتك. نعم وقفت كلها على الطريق، كم ضحك الصغار وكم تنال أنت من شتائم الكبار. كان الشعور مبهماً.. حاولت أن أستعير قشعريرة ما أو لحظة بكاء تريحني، ولكن البرد الذي ملأ الحافلة والأمطار تتساقط بغزارة، والسجائر التي لا تنطفئ آثار موجة من العطاس قضت على لحظات الحزن والفراق.

حين مررنا من قرية السقيلبية الموالية في ريف حماة بدأت الشتائم من أهالي البلدة ومنهم من أطلق النار على الحافلات ولكنها انقضت على خير ولم تحدث إصابات.. بعض من الشبان المسلحين جهزوا سلاحهم داخل الحافلة مستعدين لإطلاق النار، مما أثار غضب الضباط المرافقين للموكب، غضب الضباط كان بسبب تصرف أهالي البلدة.. مضينا بعدها وتابعنا المسير حتى وصلنا معبر قلعة المضيق، هنا ذهبت الجموع المرافقة من الأمن والجيش.. وتم استلامنا من قبل المعارضة والهلال الأحمر القطري إلى داخل مدينة قلعة المضيق.

حطينا الرحال في إدلب بعد أن تركنا مدينتنا زاكية التي خضعت “لمصالحة وطنية” بين النظام وفصائل المعارضة بعد حصار استمر لأربع سنوات لمعظم مناطق الريف الدمشقي الغربي ومعارك أستمرت لأكثر من 45 يوماً على التوالي و 15 يوماً من المفاوضات بين النظام والمعارضة في أوائل العام الفائت، من ريف دمشق إلى إدلب رحلةٌ طويلة فيها الكثير من المتاعب والمشقة والفراق، ذلك الباص الأخضر والأبيض الذي نقلنا من بلدنا الحبيب قسراً وليس طوعاً لرفضنا المصالحة والتسوية والرجوع بما يسمى حضن الوطن كان خياراً مصيرياً صعباً ولكن لم يكن لدينا خيار آخر سوى الركوع.. رحلة استمرت لساعات طويلة ومتعبة.. وصلنا إلى معبر مدينة قلعة المضيق في 20/1/2017 الساعة الرابعة فجراً من يوم السبت ومن بعدها تم نقلنا بحافلات صغيرة إلى “مخيم ساعد المؤقت” شمال إدلب وتم استقبالنا من بعض المدنيين والمنظمات الانسانية العاملة في الشمال السوري بعد أن قدموا لنا خياماً مؤقتة ووجبات طعام.

بعد وصولنا بساعات فضّلت الخروج من المخيم برفقة أصدقائي الناشطين كرم واسكندر وعمر الذين خرجوا معنا من ريف دمشق، وصلنا الى مدينة إدلب وجلسنا مؤقتاً لمدة عشرين يوماً عند أحد الاصدقاء الذين هُجروا سابقاً من داريا وخان الشيح والمناطق الآخرى التي هجرت سابقاً.. ومن بعدها بدأنا بالبحث عن منزل للإيجار.. كانت هناك بيوت متوفرة في المدينة وسعرها مقبول بسبب كثافة القصف العنيف الذي كان يستهدف المدينة من قبل الطائرات الروسية والصواريخ البالستية.. نجحنا  بتأمين البيت ودفع الإيجار واستقرينا في المنزل والقصف كان يشتد يوماً بعد يوم والعائلات والمدنيين فضلت النزوح إلى أرياف إدلب لأنها كانت آمنة أكثر من المدينة.. رفضنا الخروج من المدينة وقررنا البقاء رغم الخطورة التي نعيشها.. صعوبات كثيرة واجهتنا في لقمة العيش كوننا نعيش بعيداً عن بلدنا وأهلنا.. تأقلمنا على العيش في ادلب رغم القصف لاننا خرجنا من بلدنا وعشنا حياة الحرب والقصف والدمار.. ووثقت بعدستي الكثير من الدمار والمجازر في مدينة إدلب كونها مهنتي منذ بداية الثورة.

كان الاستقرار صعباً في إدلب لأننا لا ندري ما الذي يخبئه المستقبل لنا، تارة نسمع أن مستقبلها على غرار الموصل وتارة نسمع أن سوريا تقسمت وسنبقى في إدلب دون رجوع لبيوتنا في ريف دمشق.. كانت الحياة صعبة حيث أننا لا نعمل سوى في مجال الإعلام .. ولم يكن لدينا أي مردود يكفينا للعيش والاستمرار.. نتقاضى راتباً بعض الاحيان كمصورين من وكالات أو قنوات ولكن تفاجأنا بأن هذا المجال بمثابة تجارة للكثيرين وليس عملاً ثورياً كما تعودنا في بلادنا. لا ينكر أحد حسن استقبال أهالي إدلب وريفها لأبناء جلدتهم القادمين من مناطق العاصمة دمشق وريفها ، ولكن ثمة تجار أزمة استغلوا الأمر ورفعوا إيجارات البيوت مستغلين حاجة الناس، حيث وصل أجار البيوت في المدينة لأكثر من 100 دولار بعد هدنة “خفض التوتر”.

لم أتواصل مع أحد من أبناء ريف دمشق المهجرين إلا ويفكر في الهروب من سوريا إلى تركيا، ولكن الأمر كان شبه مستحيل في الآونة الأخيرة بسبب التشديد الأمني على الحدود السورية التركية من قبل الجانب التركي، والمخاطر الشديدة فضلاً عن استغلال المهربين وما يطلبونه من أموال طائلة مقابل تهريب العوائل والشبان.

واجه جميع الدمشقيون صعوبات كثيرة في إدلب وريفها، بسبب التغير الكبير في الظروف، فالمناطق الثائرة في محيط العاصمة عانت من ويلات الحصار والقصف والدمار والنزوح، ولم يكن لديها أي جار مثل تركيا ليدعمها ويقدم لها المساعدة، ولم تتواجد فيها المنظمات والمؤسسات والجمعيات المتواجدة في مناطق المعارضة بريفي إدلب وحلب وريف حماة، وحين هُجر أهالي بعض مناطق ريف دمشق  إلى إدلب وريفها وجدوا الفوارق الكبيرة بين مناطق المعارضة هنا، ومناطق المعارضة حول العاصمة، حتى أجواء الثورة بدت مختلفة عليهم.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل