مآل الانتقال السياسي في سوريا

فريق التحرير19 يناير 2018آخر تحديث :
مقاتلون من الثوار في معارك ريف إدلب الجنوبي ضد قوات الأسد وحلفائه، 14-1-2018، عدسة علاء الدين فطراوي، حرية برس

مقدمة

منح التدخل الروسي في سوريا النظام وحلفاءه المحليين والإقليميين الغطاء الجوي والناري اللازم لإنهاء توازن القوى الذي فرضته عليه فصائل الثوار، فأدى بدايةً إلى سقوط حلب وتهجير الحاضنة الشعبية للمعارضة من أحيائها الشرقية ومكَّن قوات الموالاة لاحقًا من عزل مناطق سيطرة الفصائل في جيوب مقطعة الأوصال. وفي حين دفعت كل من موسكو وطهران بطياراتها ورجالها إلى ميدان المعركة لترجيح كفة الأسد، انسحبت القوى الدولية والإقليمية الداعمة للثوار من المشهد في دلالة واضحة على رضوخها وقبولها للحل الروسي.

وهكذا وجدت فصائل المعارضة العسكرية نفسها مضطرةً للقبول بهدن محلية للحفاظ على ما تبقى من سيطرتها بعد أن تقلص الدعم الدولي لها. فقد أولت واشنطن جل اهتمامها وقدراتها العسكرية والمالية لمحاربة تنظيم الدولة منذ سبتمبر/أيلول 2014، وتدرجت رويدًا في قطع معوناتها العسكرية والمالية لفصائل الجيش الحر حتى أوقفتها بشكل كامل بقرار من ترامب في يوليو/تموز 2017[1]. أما على الصعيد الإقليمي، فقد انشغلت الرياض بحربها على الحوثيين في اليمن، وتخلت بشكل مفاجئ وسريع عن دعم فصائل الثورة. وكذلك أبدت أنقرة مرونة أكبر في قضية القبول ببقاء الأسد بعد عودة حزب العمال الكردستاني إلى الساحة ورغبتها في حصر مشاكلها الإقليمية بالتعامل مع تهديده وحسب. 

عزَّز مسار آستانا الانتصار المؤقت الذي حقَّقه الأسد وحلفاؤه في إطار اتفاق وقف إطلاق نار شبه دائم في جميع أنحاء البلد. لم يَسُدْ سلام حقيقي حتى الآن، فما زالت تتعرض الهدنة إلى اختراقات يومية من قبل طيران النظام والروس، كما أن جيوب المعارضة في الغوطة الشرقية وحمص الشمالية معرضة للمزيد من التصعيد بسبب غياب ضامن دولي يمنع الروس والنظام عن خرق الاتفاق. ومع ذلك، حققت موسكو هدفًا رئيسيًّا، وهو الفصل الفعلي بين مفاوضات وقف إطلاق النار والمسار السياسي العام، مما أضعف قدرة المعارضة على انتزاع تنازل حقيقي من قبل دمشق.

وفي أعقاب نتائج آستانا، تجد الهيئة العليا للمفاوضات نفسها متورطة في عملية سياسية غير محددة المعالم في جنيف، فلا دعم دوليًّا كافيًا يمكِّنها من الصمود والثبات على رؤيتها لمستقبل سوريا، ولا قوة ضاربة في ميدان المعركة قادرة على إرضاخ الأسد.

تحاول هذه الورقة الموجزة التعرف على أفق ومآل التحول والانتقال السياسي في سوريا في ظل تغير الأولويات الدولية والإقليمية في المشرق.

مناطق خفض التصعيد

مرَّت المعارضة السورية بديناميتين رئيسيتين للانتشار: الأولى ثورية ومستوحاة من الربيع العربي وذات شعبية واسعة ضمن أوساط النشطاء المدنيين، أما الثانية فمحلية وأهلية ومسلَّحة، أسهم قمع النظام في نشأتها والتشجيع على نموها. هيمنت الديناميكية الثانية على المعارضة بحلول نهاية عام 2013، واكتسب الأعيان المحليون تبعًا أهمية كبيرة لقدرتهم على الانخراط في الأعمال العسكرية. أما النشطاء، فلقد تحول نضالهم السياسي إلى ممارسة بعض أدوار الدولة على الصعيد المحلي فأنشأوا مجالس مدنية تعنى بإدارة الشأن العام وبتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين.

تفاعلت فصائل المعارضة المسلحة مع المجالس المحلية بطرق ودرجات مختلفة، وكانت في كثير من الحالات تتمتع بعلاقات “أخوية”، فيوظِّف كل من الفصيل والمجلس المحليين أفرادًا من نفس الأسرة. وفي حالات أخرى تعايشت الكتائب والمجالس المدنية على مضض مع وقوع أزمات مؤقتة شهدت محاولات اعتداء متبادل على صلاحيات ومسؤوليات الآخر. ورغم ذلك، سمحت الفوضى التي خلَّفتها بيئة الحرب للنشطاء المدنيين والسياسيين بإنشاء مؤسسات حكم محلي تمتعت بدرجات عالية من الشفافية وخضعت لمساءلة ومشاركة السكان دون أن تتدخل الفصائل في صلب عملها ونشاطاتها المدنية والخدمية.

ستؤدي مناطق خفض التصعيد إلى نشوب صراع محلي على السلطة داخل المناطق المحررة، فبعد أن حصلت الكتائب المهادنة برعاية هذه الترتيبات على اعتراف شبه رسمي من موسكو ودمشق وطهران، باتت شرعيتها الثورية مهددة وفي موقع المتنافس مع المجالس المحلية ذات الشرعية الانتخابية أو التوافقية. وتبعًا لم يعد ممكنًا للفصائل أن تسعى إلى الشرعية إلا من خلال احتكار الشأن العام ضمن حدود أراضي سيطرتها النظرية. وهذا على وجه التحديد ما تقوم به هيئة تحرير الشام “هتش” في إدلب من خلال إنشاء حكومة الإنقاذ وإجبار جميع المنظمات والمجالس المحلية على الالتحاق بها أو العمل تحت إشرافها وإدارتها [2].

وفي ظل هذه التطورات، ستخلق الظروف المتغيرة أطر تعاون جديدة بين خصوم الأمس وشركاء الغد، حيث تلتقي مصالحهم في تقويض المد الشعبي وإخضاعه تحت سيطرة وسطوة السلم الأهلي المفترض. ليس لدى دمشق وطهران مصالح حقيقية في تشجيع أي تنظيمات أهلية على النمو والاستمرار، بل على العكس تفضِّلان التعامل مع الفصائل بحكم خبرتيهما الطويلتين في توظيف الجماعات المسلحة. ففي حين تدفع غريزة البقاء النظام إلى الاستحواذ على وظائف ما تبقَّى من الكتائب، لكنه لا يزال عاجزًا عن فرض سيطرته على كامل الأراضي السورية بمفرده، ولذا، ليس من الغريب أبدًا أن تتوخى كلتاهما التعاون المتبادل من أجل الاستمرار، فيما يتم التخلص ممن يستعصي على الانخراط في هذه العملية.

سبق أن مارس الأسد انساقا من التعاون مماثلة، فلقد تشارك النظام وما زال مع حزب الاتحاد الديمقراطي إدارة المناطق المأهولة بالكرد، وكذلك الأمر مع ميليشيات مسلحة أخرى في سياق الهدن المحلية كبرزة بين عامي 2014 و2017[3]. ومن المحتمل أن تشهد كل من أرياف حمص وحلب نشأة أنماط تعاون أمني شبيهة شريطة أن تعترف الفصائل المحلية بسيادة دمشق، وهذا ما أسست له ترتيبات آستانا. ويجدر بالذكر قيام إيران بإطلاق مسار مواز للحفاظ على الميليشيات الموالية لها ولإيجاد المبرر القانوني لاستمرار علاقتها العضوية مع الحرس الثوري الإيراني [4].

لا تحتاج دمشق إلى قوة عسكرية مُفرِطة لفرض سلطتها الرمزية على البلاد في ظل تجمد القتال، فكل ما تحتاجه هو تجريم الاعتداء عليها -وهذا ما وفرته ترتيبات آستانا-، وإلى قوة ردع نسبية -وهذا ما يوفره الطيران الروسي-، وإلى إطار دستوري وقانوني جديد لإعادة تعريف شرعيتها -وهذا ما تهدف لتحقيقه في مشروع المصالحة الوطنية-. لا يمكِّن اجتماع هذه الشروط الأسدَ من استرداد السيادة الحقيقية على الدولة السورية، لأن إذعانه وخضوعه لكل من روسيا وإيران والترتيبات الدولية شرقي الفرات واقع لن يتغير بمجرد التوصل إلى صيغة حل سياسي لصالحه، ولكن كل ما يصبو النظام إلى تحقيقه اليوم هو استعادة احتكاره لتمثيل الدولة السورية وهذا يوفره المسار السياسي له بغياب الانتقال السياسي. أما على المدى المتوسط والبعيد، فستتغير أولويات النظام بما يساعده على احتواء الفواعل المحلية ويعيد بناء منظمة حكم جديدة مفاتيحها بيده.

المصالحة الوطنية

لعب التدخل الروسي دورًا مهمًّا في تغيير مقاربة المعارضة للتفاوض؛ حيث أصبح ممثلو الحراك الثوري أكثر جرأة على قبول المبدأ التفاوضي مع دمشق باعتباره الفعل السياسي المكمِّل لصراعهم مع النظام عبر الإقرار بشرعيتهم، في حين قبلت فصائل المعارضة بالتفاوض للحفاظ على مكتسباتها العسكرية والسياسية، ولضمان استمراريتها كقوى فاعلة في أي ترتيبات مستقبلية ستفرضها المرحلة الانتقالية.

بالمقابل، وظَّف النظام التفاوض المحلي كتكتيك لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية تهدف لاستعادة التوازن الميداني المفقود لعجز مؤسستيه، العسكرية والأمنية، المترهلتين عن حسم الموقف، ولتعميق إشكالية تمثيل المعارضة الوطنية من خلال تقسيمها إلى محلية يمكن التفاوض معها وأخرى خارجية يتعذر التعامل معها على اعتبارها غير مؤثرة على الأرض.

يكتمل مشهد التفاوض المحلي ببروز روسيا كطرف ثالث يقوم بدور الوساطة بين النظام والمعارضة، تحركها رغبتها في تمكين النظام ووقف السيولة الأمنية التي يعاني منها لتصدير حل نهائي للحرب. ولكن تم إخضاع المعارضة للقبول بنتائج مسار آستانا دون وضع أي شروط مسبقة مما يعبِّر بالشكل الأمثل عن تفسير موسكو لبند وقف إطلاق النار من قرار الأمم المتحدة رقم 2254؛ حيث أنشأت مناطق خفض التصعيد دون ربطها بإجراءات انتقال سياسي في البلاد.

يتطلع الكرملين اليوم إلى ترسيخ هذه الترتيبات المؤقتة في إطار حل مستدام في مشروع مصالحة وطنية شاملة، وتنطوي رؤيته للانتقال السياسي على إفشال أية محاولة حقيقية لتغيير نظام الحكم في سوريا وإلى تطبيع الوضع الراهن. وسعيًا لتحقيق هذه الغاية، أنشأت وزارة الدفاع الروسية مركزًا للمصالحة في حميميم في فبراير/شباط 2016، ولقد أورد المركز مؤخرًا إحصاءً يشير إلى توسطه في 2301 هدنة مع 234 فصيلًا [5]. وتشترط هذه الاتفاقات بمجملها الاعتراف بسلطة دمشق مقابل السماح بدخول المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة، فيما تفوَّض إدارة هذه المناطق للفصيل المحلي تحت إشراف أجهزة الجيش والمخابرات السورية. ويجري التفاوض على القضايا الإنسانية الأخرى كالإفراج عن المعتقلين وضمان حرية تنقل المدنيين وعودة اللاجئين بشكل منفصل وغالبًا ما يتم تأجيلها إلى حوار وطني واسع النطاق.

تسعى موسكو للحصول على دعم معظم اللاعبين الدوليين والاقليمين لجهود “وساطتها” في سوريا وذلك بهدف تعزيز مصداقيتها كفاعل دولي جديد في المشرق، ولتأكيد قدرتها على تقديم حلول بنَّاءة لأزمات المنطقة، ولإظهار استعدادها لإبداء المرونة الضرورية للعمل مع الفاعلين المحليين والإقليميين على اختلاف أجندتهم واصطفافهم. وبطبيعة الحال، يفضِّل الكرملين أن تتوَّج جهوده على أرضه بعيدًا عن تشويش الأمم المتحدة والغرب، لينحصر دور جنيف لاحقًا في شرعنة نتائج مساري آستانا والمصالحة الوطنية دون تقديم إسهام حقيقي في صيغة “الحل النهائي”.

يدرك ستيفان دي مستورا، المبعوث الأممي الخاص لسوريا، تحكم موسكو بمخرجات المفاوضات بين النظام والمعارضة وذلك بحكم تراجع الدور الأميركي الطوعي في تشكيل ترتيبات الحل النهائي في البلاد. وانطلاقًا من هذا الإدراك، يعمل دي مستورا على تكييف مسار جنيف وفق الأولويات والرؤية الروسية خوفًا من تعنت النظام وتعطل المسار التفاوضي الأممي الموكل إليه. ولذا، قام بالضغط على وفد المعارضة للقبول بتأجيل بند الانتقال السياسي والتركيز بدلًا من ذلك على صياغة دستور جديد والدعوة لإقامة انتخابات عامة خلال العامين المقبلين. وعلى الرغم من اجتهاده في الاستجابة للمطالب الروسية، تبقى حظوظ جنيف في الاحتفاظ بحصرية استضافة مفاوضات الحل السياسية منخفضة، فبالإضافة إلى انتفاء دور الأمم المتحدة في تحقيق انتقال سياسي حقيقي في سوريا، يعاني وفد المعارضة الذي تم تشكيله حديثًا في الرياض من تراجع شرعيته الشعبية بعد القبول بمشاركة منصتي موسكو والقاهرة، كما أنه لا يملك أية وسيلة للضغط على النظام للتخلي عن سلوكه المارق.

قد لا تنجح المساعي الروسية في بدء مشروع المصالحة الوطنية في مؤتمر سوتشي، ولكنها عقدت العزم على إفشال أي حلول سياسية تتخطى سقف المصالحة في “كنف الدولة السورية”.  وتعتزم روسيا احتضان مؤتمر “وطني” يكون بمثابة جمعية سورية عامة مكونة من ألف وخمسمئة شخصية من مختلف القوميات والأديان والمدن السورية لإعطاء انطباع كاذب بتمثيل كافة شرائح الشعب، وهذا فرق جوهري بين مسارها السياسي وجنيف، فلم يعد الحل النهائي نتاج مفاوضات بين “طرفي” صراع بموجب قرار أممي، وإنما حصيلة “توافق” قوى وشخصيات وطنية بما تمليه مصلحتهم “المشتركة”.

توافق وتضارب مصالح

تراجعت أهمية سوريا على الأجندة الأميركية بشكل كبير بعد القضاء على وجود تنظيم الدولة في الرقة، ولقد أعادت وزارة الدفاع الأميركية تعريف أولوياتها في سوريا بانتزاع الضفة الشرقية للفرات من التنظيم، وبصيانة مكتسبات قوات سوريا الديمقراطية في منطقة الجزيرة، وبمنع إيران من بسط سيطرتها على كامل البلاد. وفي حين أكد مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، التزام واشنطن بمقاطعة الأسد فلا ثمة استراتيجية أميركية سياسية أو أمنية للإطاحة به [6]، بل مجرد دعم مفترض لوفد المعارضة السورية لجنيف في تحقيق انتقال سياسي على طاولة المفاوضات. وباستثناء دعم فصائل المعارضة في محافظتي درعا والقنيطرة بما يحقق شريطًا عازلًا مع حدود سوريا الجنوبية، لم يعد لواشنطن مصالح ترعاها غربي حوض الفرات، بما في ذلك حماية الاتحاد الديمقراطي (PYD) في منبج وعفرين.

وفي مقابل الزهد الأميركي في ثني الأسد عن الرحيل، يتحكم هاجس عدم تكرار التجربة الأفغانية بالسلوك الروسي الذي بات همه الشاغل إعلان انتصار حليفه على المعارضة. ولقد كشف خطاب النصر، الذي ألقاه بوتين في حميميم، مدى أهمية هذا الإعلان قبل الانتخابات الرئاسية الروسية المزمع عقدها في 18 من مارس/آذار 2018[7]. وعلى غرار نظيرها الأميركي، لا توجد استراتيجية روسية واضحة للمرحلة القادمة، ما عدا القضاء على أية قوة محلية رافضة لترتيبات موسكو، وإن لزم الأمر استخدام القوة المفرطة وارتكاب جرائم حرب لضمان استسلامها. وإذ يمكن تلمُّس الملامح العامة للسياسة الروسية كما يبدو في الشروع بمصالحة وطنية شاملة تعيد سيادة “الدولة السورية” نظريًّا، لا يمتلك الكرملين تصورًا دقيقًا لكيفية تثبيت أركان حكم الأسد فيما بعد، إلا بعض الأفكار بخصوص إعادة الإعمار، وهي متضاربة بطبيعة الحال مع مصالح إيران وقطاعات واسعة من مستفيدي النظام من حالة الفوضى في البلاد.

أما على الصعيد الإقليمي، فثمة أولوية تركية داخلية لتقويض سيطرة قوات سورية الديمقراطية المطلقة في منبج وعفرين. وفي ظل عزوف حليفتها التقليدية، أميركا، عن تلبية هذه الحاجة، وجدت كل من إيران وروسيا فرصة سانحة لابتزاز تركيا في تقنين دعمها لفصائل المعارضة السورية في الشمال مقابل دعمهما لتدخل عسكري محتمل ضد الاتحاد الديمقراطي غربي الفرات. وفي حال تبين لأنقرة أصالة موقف طهران وموسكو العدائي منها؛ إذ لم تزل الأولى تتوسع على حسابها دون تقديم أي تنازل حقيقي، ولم تفتأ الثانية تتهرب من التزاماتها السياسية تجاهها، فقد تضطر تركيا بقبول أقل السيناريوهات سوءًا بالنسبة لها، وهو إعادة انتشار قوات النظام في عفرين ومنبج مقابل تراجع نسبي لمقاتلي الاتحاد الديمقراطي.

وهكذا، باتت فصائل المعارضة السورية في موقع المساوَم عليه، ولا يسعها غير استغلال هوامش خلاف تركيا مع إيران وروسيا عند اتساعها لمحاولة صد هجومهما الشرس عليها، فيما باتت قدرتها على المبادرة والمناورة محدودة بعد أن أنهكتها خلافاتها الداخلية. وفي المقابل، يسعى النظام، ومن ورائه إيران، إلى استعادة السيطرة على كامل طريق حلب-دمشق الدولي الممتد من أعزاز شمالًا إلى نصيب جنوبًا، وإلى إرغام المعارضة السورية على الاعتراف بالأسد. وتبدو هنا حقيقة جلية كثيرًا ما تجاهلها خصوم الأسد والاتحاد الديمقراطي، وهي قابليتهما للتعاون العسكري والأمني كما حدث سابقًا في الهجوم على بلدات تل رفعت ومنغ جنوب أعزاز وفي محاصرة حلب.

خاتمة

لم يكن صمود الأسد واستمراره حتى اليوم بلا ثمن، فلقد هجَّر قرابة نصف الشعب السوري بين لاجئين ونازحين وقَتَلَ ما يربو على نصف المليون مدني عدا المفقودين وسجناء الرأي والمعتقلين الذين تُقدَّر أعدادهم بمئات الألوف. يقدِّر بنك النقد الدولي حجم الخسائر المادية التي خلَّفتها آلة الحرب في سوريا بما لا يقل عن 200 مليار دولار [8]، ولا تحتسب هذه التقديرات كلف إعادة تأهيل قطاعي التعليم والصحة اللذين فقدا أعدادًا هائلة من كوادرهما جرَّاء نزيف عقول إلى دول المهجر واللجوء.

لا شك في تراجع قدرة فصائل المعارضة السورية على المبادرة دون ظهير إقليمي أو دولي يمكِّنها من خوض معارك استراتيجية جديدة تعيد توازن الرعب والقوة مع الأسد وحلفائه، ولكن لا يعني ذلك انتصار النظام بشكل تلقائي. يوجد واقع أمني وعسكري جديد لم تعد فيه دمشق إلا أحد بنادقه فيما تكاثرت الميليشيات المحلية والإيرانية في مناطق نفوذه النظرية. إن افتراض تحكم مؤسسات الدولة في “فصائلية الموالاة” مبني على تجاهل ديناميكيات تفاعلها مع سلطة المركز المتآكلة، فلقد نسجت هذه الفصائل بمجموعها شبكة مصالح معقدة تعوق تحرك الأسد دون مراعاة كل طرف منها، الأمر الذي سيستغرق سنوات طويلة لحلحلتها وتفكيكها فيما تتعاظم مطالب جميع شرائح الشعب السوري بتحسين أحواله المعيشية والأمنية.

لن يُترجَم عزوف القوى الدولية والإقليمية المناهضة لدمشق وطهران عن إلحاق الهزيمة بهما بشكل تلقائي إلى مكتسبات سياسية مستدامة، وإن تبعه بعض الإجراءات البروتوكولية في إعادة تعويم الأسد دوليًّا كفتح قنصليات وعودة الحد الأدنى من التعامل الدبلوماسي معه. لكن ثمة شك لدى المجتمع الدولي في قدرة النظام على قيادة الدولة السورية بعد أن تركت رحى الحرب أثرًا عميقًا على بنيته الأمنية والعسكرية، فضلًا عن افتقاده الخبرات التقنية اللازمة لإدارة المرحلة الانتقالية. ويتطلع الغرب إلى استثمار حاجة الدولة السورية إلى دعم دولي لترميم وإعادة بناء مؤسساتها السيادية والخدمية للحصول على تنازلات من النظام.

تنقسم استراتيجية الدول المانحة في التعامل مع الدولة السورية أثناء المرحلة الانتقالية لقسمين: الأول: الإصلاح مقابل المال، وهذا ما صرَّحت به دول أصدقاء الشعب السوري على هامش اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة في 18 من سبتمبر/أيلول 2017 في نيويورك [9]، والثاني: دعم المجتمعات المحلية مباشرة دون المرور من دمشق، وهذا ما تصبو لتحقيقه في إرساء نظام حكم لامركزي إداري في البلاد [10].

تمثِّل المجالس المحلية التي أنشأتها قوى الحراك الثوري، وما يوازيها من تشكيلات إدارية محلية غير رسمية في مناطق النظام، مخرجًا للدول الداعمة الرافضة للتعامل مع الأسد؛ إذ تقدم بديلًا شرعيًّا لتلقي المساعدات الدولية بدلًا من إيداعها في خزينة الدولة المركزية دون ضمان حُسن استخدامها. ولكن لا يخلو خيار التعامل المباشر معها من مخاطر قد تهدد شرعيتها المحلية وتعرضها للابتزاز من المجتمع الدولي والمانحين. فلقد نشأت هذه المجالس بظرف زمني خاص صرف عنها تدخل النظام وفصائل المعارضة وذلك لانشغالهما بالأعمال العسكرية. وإذ تتغير أدوات الصراع فمن المتوقع أن تزداد وتيرة الاعتداء على وظائفها الأساسية من قبل محتكري القوة الخشنة. أما مصدر التهديد الآخر فهو الفراغ الدستوري الذي نشأت خلاله هذه المجالس، حيث لا توجد اليوم أية أرضية قانونية تحتكم إليها المجالس في حماية وصيانة مكتسباتها السياسية.

تمتلك اللامركزية الإدارية وحتى السياسية طاقة هائلة لمعالجة إشكال الدولة القومية المركزية التي طالما عانى منها المشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إذ إنها تؤسِّس لإطار تعاون سليم بين المركز والأطراف وتحافظ على خصوصيات المجتمعات المحلية دون أن تضعها في صراع هوياتي لا طائل منه. ولكن يُشتَرَط لتحرير هذه الطاقة تفعيل اللامركزية في سياق حوار وطني يجتمع أصحابه على تعريف مصالحهم المشتركة وحدودها ضمن مشروع وطني وإقليمي واحد، وهذا ما تفتقر إليه محاولات المجتمع الدولي في سوريا اليوم. إن المضي قدمًا في تطبيع الواقع الحالي دون إتمام انتقال سياسي يضمن انسجام المجالس المحلية في هيكل الدولة سيؤسِّس لتجزئة البلاد وتمكين أمراء الحرب فيها. ولذا، يقع على عاتق القوى الوطنية السورية العمل على إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد حتى وإن طال أمد الصراع وامتد إلى عقد آخر.

  • د. سنان حتاحت، باحث سوري زميل في منتدى الشرق، ومركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ورئيس تحرير مدونة نصح.
المصدر مركز الجزيرة للدراسات
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل