المثقف النهضوي روحي الخالدي: عرّى الاستبداد وأبدع بالأدب المقارن

فريق التحرير12 ديسمبر 2017آخر تحديث :
عبد الله حنا

تأثر بتعاليم الأفغاني ومحمد عبده

ولد محمد روحي الخالدي سنة 1864 في القدس لأسرة من أُسر الوجاهة القدسية، التي كانت تتنازع مع غيرها على زعامة المدينة المقدسة.

عيّن الوالي المصلح مدحت باشا ياسين الخالدي والد روحي قاضيًا شرعيًا لمدينة نابلس، فانتقلت الأسرة ومنها الفتى روحي من القدس إلى نابلس. وبعدها بقليل نقل مدحت باشا القاضي ياسين الخالدي إلى طرابلس الشام قاضيًا شرعيًا لمدينة هامة، مما يوحي بثقة مدحت باشا (أبو الدستور) بوالد روحي المؤيد للإصلاح. وفي طرابلس التحق روحي الخالدي بالمدرسة الوطنية التي أنشأها آنذاك الشيخ حسين الجسر. وهناك تردد على حلقات الشيخ محمد عبده رائد النهضة المنفيّ من مصر وتأثّر بتعاليمه.

بعدها سافر الخالدي سنة 1878 إلى الأستانة ودرس ستّ سنوات في المعهد الجامعي المعروف باسم “المكتب الملكي الشاهاني”. وأثناء دراسته في إسطنبول كان يتردد على مجالس المصلح جمال الدين الأفغاني.

وأخيرا حطّ الخالدي الرحال في باريس والتحق بـ”مدرسة العلوم السياسية”، لدراسة التاريخ والدبلوماسية، كما استمع في السوربون إلى محاضرات في العلوم الإسلامية والشرقية. وفي سنة 1897 عُيّن مدرّسًا في معهد نشر اللغات الأجنبية، وفي السنة ذاتها حضر مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في العاصمة الفرنسية.

بعد هذه الجولة الدراسية رجع الخالدي إلى القدس وعمل معلمًا في المكتب الإعدادي، ثم عاد إلى الأستانة ساعيا لتعيينه في منصب قائمقام أحد الأقضية. وهذا كان ديدن أبناء الوجهاء المتعلمين في بلاد الشام، يقصدون عاصمة السلطنة إسطنبول للحصول على منصب، لم يكن يتمّ الوصول إليه إلا برشوة من بيدهم مفاتيح الوصول إلى المقامات العليا في القصر السلطاني. وعندما فشلت مساعيه في الوصول إلى منصب القائمقامية، سافر إلى باريس والتحق بكلية العلوم السياسية وتخرج منها بعد ثلاث سنوات. ثم دخل جامعة السوربون ودرس فلسفة العلوم الإسلامية والشرقية فيها. وهكذا اكتمل نضجه فدُعِي إلى إلقاء المحاضرات في شرح المسائل الشرقية والإسلامية والعربية.

في سنة 1898 عُيّن قنصلًا عامًا للدولة العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية. ولا شك في أن هذا التعيين تمّ بوساطة ما، وبدونها لا يسير أي أمر حتى لو كان صاحب الطلب كالخالدي يجيد الفرنسية الضرورية لهذا المنصب. وبعد فوز الخالدي في مسعاه مدعوما من جهة ما، بَقِيَ في منصبه هذا حتى سنة 1908 وقيام ثورة الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد، وإعلان العودة إلى دستور مدحت باشا، الذي جمّده السلطان عبد الحميد، وبالتالي الدعوة لانتخاب مجلس المبعوثان (البرلمان).

ترشّح الخالدي للانتخابات وفي يده ورقتان رابحتان: الأولى، ثقافته العالية ورضى جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة عنه، والورقة الثانية هي أنه ابن عائلة مرموقة لها عصبية في القدس. وهكذا فاز سنة 1909 في انتخابات مجلس المبعوثان عن القدس بصحبة ابن عائلة تحتل المقام الأول في القدس هو سعيد الحسيني.

تجاذبته نسمات التطلعات والآمال العروبية

كان روحي الخالدي واسع الثقافة مجيدًا لعدد من اللغات الأجنبية منها التركية والفرنسية إضافة إلى العربية لغته الأم. وقد احتلّ مركزا مرموقا في مسار النهضة العربية. وتجاذبته رياح العثمانية، ونسمات التطلعات والآمال العروبية، وأمواج الحضارة الأوروبية وما حملته من قيم ومبادئ رفع الخالدي لواءها.

عاجلت المنية سنة 1913 روحي الخالدي في الأستانة وهو في عزّ شبابه. وخلّف وراءه عدا ما كتبه في الجرائد المجلات، الآثار التالية:

– “رحلة إلى الأندلس”.

– “المقدمة في المسألة الشرقية”.

– “تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو” الذي صدر بالفرنسية سنة 1912، ونُشر بعد ترجمته إلى العربية سنة 1984، ويُعدّ من روائع الأدب المقارن، وتضمنت موضوعاته دراسات تعريفية للتراث الأدبي العربي مقارنا إياه مع الأدب الفرنسي. وقد أجاد في المقارنة كونه امتلك ناصية المناهج الغربية في البحث والتحليل والمقارنة، وساعدته إقامته في فرنسا، واحتكاكه بأوساط الطلاب والأكاديميين والدبلوماسيين، على تكوين رؤية شمولية عريضة.

– “الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة”، الذي ألقى فيه الأضواء على الاستبداد من منظور مثقف نهضوي مطلع على الحضارة الأوروبية الحديثة.

تمكّن روحي الخالدي من الإفلات من سهام الاستبداد الحميدي بفضل درايته وتكتمه وما يتمتع به من حصانة عائلية تدفع عنه الشبهات. وكان لإجادته الفرنسية وإقامته الطويلة في بلد الثورة الفرنسية دور في تهيئة الأجواء له للنشاط في ميدان الفكر، وله مؤلفات عدة أشرنا إليها ومنها: “الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة”، الذي كتبه الخالدي بعد ثورة الاتحاد والترقي وإزاحة السلطان عبد الحميد عن عرشه في تموز/ يوليو 1908. وقد نشرت مجلة “المنار” لصاحبها سلفيُّ عصر النهضة الشيخ محمد رشيد رضا هذه الدراسة على ثلاث حلقات في أواخر 1908 و 1909. وقام حسين وصفي رضا شقيق صاحب “المنار” بإعادة نشر مقالات الخالدي في كتاب مع مقدمة للناشر جاء فيها: “إن الخالدي قام بتأليف رسالة جليلة في هذا الموضوع أماط فيها اللثام عن الأسباب المجهولة، والحقائق المخدرة، وقد بحث فيها بحثا فلسفيا في أصل الاستبداد ونشوئه، وشكل الحكومة العثمانية في بدء تأسيسها، وبيان تقاليدها الموروثة ونظاماتها المكتسبة، وشيوع الخلل في إدارة الدولة واستبداد أولي الأمر فيها، مما أدى بها على شرّ حالة، وكان سببا في قيام الأحرار ومطالبتهم بالإصلاح”. (المنار، م 11، ج 12، ص 922).

نفي إلصاق الاستبداد بالدين الإسلامي

يرى الخالدي أن “الاستبداد سبب التأخر والانحطاط”… ومع منطقية رأي الخالدي وشيوعه، إلا أننا نسأل: هل الاستبداد سبب أم نتيجة لأسباب سابقة؟.. وكثيرا ما تتحول النتيجة إلى سبب.

ونرى أن الاستبداد هو بنية فوقية قائمة على علاقات تحتية اقتصادية اجتماعية، وما يلبث أن يتحول إلى موروث راسخ الجذور في قلب المجتمعات التي أفرزته.

لقد سوّد الباحثون عشرات الكتب ومئات الدراسات حول أسباب الاستبداد وجذوره الاقتصادية – الاجتماعية مع محاولة بعضهم إلصاق الاستبداد بدين معين، وغالبا ما قصدوا الإسلام. وينفي الخالدي إلصاق الاستبداد بالدين الإسلامي قائلا إن “الاستبداد آسيوي لا إسلامي”.

لا تحتاج محاولة إلصاق ظاهرة الاستبداد بدين معين إلى رد. فالاستبداد وجد في جميع العصور وساد في جميع الأديان. أما ظاهرة “الاستبداد الآسيوي” أو “الشرقي”، التي وردت في التعليقات الأوروبية التقليدية حول التاريخ والمجتمع الآسيوي، فهي بحاجة إلى توضيح. وهذا ما قام به ماركس وأنجلس في مراسلاتهما ودراساتهما عندما تناولا قضية الاستبداد من منظور غياب الملكية الخاصة للأرض، حيث كانت رقبة الأرض بأكثريتها للدولة، وحيث توافقت الضريبة مع الريع مما أدى إلى حصول الدولة (وعمليا الطبقة الحاكمة) على ثروات ضخمة وإمكانيات هائلة استُغِلت لترسيخ دعائم السلطة واستبدادها. فالاستبداد هو الاستبداد، موجود في كل زمان ومكان وُجِدَ فيه الاستغلال والاستثمار. والطبقة الحاكمة المستأثرة بالجزء الأكبر من الثروة تشدد النكير على أكثرية الشعب بهدف الحفاظ على ثرواتها ورفع وتيرة الاستغلال، عن طريق استخدام سيف الاستبداد.

ولم يقتصر الاستبداد على آسيا، بل انتشر في سائر أنحاء العالم. ولكن درجة الطغيان وحدة البطش وشكل الظلم اختلفت من دولة إلى أخرى ومن عصر إلى آخر. ونحن نسأل: ألم يوجد الاستبداد في أوروبا الإقطاعية؟.. وهل غاب الاستبداد في عهود الرأسمالية؟.. ألا تستخدم الطبقات الحاكمة مختلف أجهزة الدولة لقمع أي حركة احتجاجية ضد استئثار الحكام بالثروات المستنزفة من الشعب؟..

لقد أصاب الخالدي كبد الحقيقة عندما قال: إن “منبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه هو قصر الخلافة ودار الملك والإمارة”. وشبّه الخالدي قصر السلطنة في الممالك الإسلامية بخيمة كبيرة “حكومتها بابها العالي، ووظيفة الحكومة إنزال الخان الأعظم على الرحب والسعة، وإسكان من معه من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية، واستكمال أسباب راحتهم واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء العرضي (أي الجيش). وجميع أعمدة الخيمة وحبالها وعلى رأسهم بابها العالي امتزجت حياتهم البيتية بالحياة الدولية، وتشابكت المسائل النسائية بالمسائل السياسية…”.

إن كتاب “الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة” لمؤلفه النهضوي المقدسي محمد روحي الخالدي الصادر بعد إزاحة عبد الحميد عن العرش سنة 1909، يُقدّم صورا حيّة عن استبداد السلطان عبد الحميد، أخذها الخالدي من معايشته ذلك النظام الاستبدادي الحميدي منذ تعليق دستور 1876 وبعثرة نواب مجلس المبعوثان.

كتب الخالدي واصفا الاستبداد السلطاني العثماني بالمقطع التالي: “الاستبداد هو منبع الشرور وسبب التأخر والانحطاط. والإسلام أول شريعة اعترضت على الاستبداد وقاومته ومهّدت السبيل للحكومة الديمقراطية ووضعت حق الحاكمية في الأمة.

وقد ورث الإسلام الاستبداد من أكاسرة الفرس، وقياصرة الروم، ونماردة بابل، وفراعنة مصر، وعن جنكيز خان وتيمورلنك، فالاستبداد آسيوي لا إسلامي. ومنبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه هو قَصْرُ الخلافة ودار الملك والإمارة، حيث تكثر دسائس المقربين ويشتد حرصهم على الجاه وطمعهم في جمع الأموال وادخارها وفي إنفاذ الكلمة” (نقلا عن المنار في 30 رمضان 1326 – 25 أكتوبر 1908، ص 646).

هذا المقطع لمحمد روحي بك الخالدي نائب القدس الشريف في مجلس المبعوثان لسنة 1909 يعكس حالة الحكم السلطاني الاستبدادي بعد أن عطّل السلطان عبد الحميد الحياة البرلمانية الدستورية وأغلق في 14 شباط/ فبراير 1878 مجلس المبعوثان، وأخذ يحكم الدولة العثمانية حكما استبداديا معرقلا عملية التطور النهضوي أكثر من ربع قرن.

وتكمن أهمية آراء روحي الخالدي في أنها تضع النقاط على الحروف مبينة بالمحسوس جوهر الاستبداد من خلال معرفة أساليب الاستبداد السلطاني، التي رآها ابن القدس الشريف بأم عينه.

وعلى النقيض من رأي الخالدي، أخذت ترتفع منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر أصوات يتزعمها أنصار التحجر والانغلاق تغدق المدائح على السلطان عبد الحميد المظلوم. وفي الوقت نفسه تقوم هذه الأصوات بالتعتيم على الجوانب الظلامية من سياسة عبد الحميد وتبييض صفحته وإظهاره بمظهر السلطان الوديع الذي لا يهمه إلا مصلحة المسلمين وإعلاء شأنهم.

ولكننا نجد في كتاب الخالدي ردا مفحما على من يتغنون بأمجاد السلطان العثماني عبد الحميد، الذي بزّ الطغاة الآخرين بما قام به من آثام تجري هذه الأيام محاولة غسلها بمياه العداء للتقدم وللديمقراطية وكي تمنع رؤية الحقيقة الساطعة لسلوك ذلك السلطان وحاشيته. كما جرت وتجري عملية تسويد صفحة من رفعوا راية مجابهة ذلك الطغيان السلطاني الذي يُبعث هذه الأيام من جديد.

المصدر ضفة ثالثة
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل