ذكريات طفولتي في حضرة السبت الأسود

سليم قباني25 نوفمبر 2017آخر تحديث :
سليم قباني

من منا لا يذكر السبت الأسود؟ ذلك اليوم الذي يحمل تاريخ 10-6-2000 حين توفي حافظ الأسد؟

يوم لا ينسى، وخاصة للأطفال، كنت وقتها في العاشرة من عمري، خرجت من المدرسة متوجهاً إلى المنزل، متحمساً لما لذّ وطاب من طعام سيكون جاهزاً ومعطراً بنكهة أصابع أمي، ومتشوقاً كأي طفل لأرى برامج الأطفال، في الوقت الذي خصصه لنا المقبور حافظ ،لكي نمجد نعمته التي أعطاها لنا في ذاك الوقت، ولكني وكأي طفل صدمت بعدم مشاهدتي برامج الاطفال يوم السبت، بل شاهدت مروان شيخو المذيع السوري الذي ذاع صيته كثيراً بعد إعلانه وفاة “القائد المفدى” و “حامي حمى الأمة” حافظ الأسد!

المجرم الكبير توفي حسب البيان الذي تلي آنذاك بسبب إفناء عمره في الدفاع عن الأمة والوطن، “القائد الذي كافح من أجل عز العرب”، هذا كان أهم ما ورد في البيان، ولكنهم لم يذكروا آنذاك أنه كافح من أجل الاطفال أيضاً، كافح من أجل أن يمنحنا ساعتين على القناة السورية الأولى، نتلقى خلالها ما شاء لنا القائد، وما إن مات حتى جرى حرماننا من ذات البرامج 40 يوماً بسبب حزن السوريين المصطنع عليه وحزن أفرع الأمن على من كان يوفر لهم السلطة والقوة لترويع السوريين!

لعنته في تلك اللحظة من دون أن أعرف شيئاً عن هذا الشخص، كل ما دفعني للعنه هو حرماني من متعتي الأثمن في الحياة، فقد حرمني وقتها من الساعتين الأجمل من وقتي آنذاك.

“فقدناه شعباً” هذا ما قاله “شيخو” في بيانه على التليفزيون السوري في الوقت المخصص لنا نحن الأطفال.

دار سؤالُ في رأسي يومها، وسألته لوالدتي: من هم الشعب؟ قالت نحن، فقلت لها أنا لا أعرفه ولم أفقده، لماذا يقول هذا “فقدناك شعباً”؟ ولم أكمل ما خطر في بالي من أسئلة.. فقد جاءتني “الشحاطة” كصاروخ أرض أرض، أصبت بها وسمعت أمي تقول لي: “انقبر فوت نام.. تضرب انت وها اللسان.. ناوي تروحنا ورا الشمس”.

لم أعرف يومها ماذا تقصد، ولكني توجهت الى الهاتف لأتصل بأبي، كنت سعيداً كعادتي بقذيفة أمي، كنت سعيداً ولا علاقة تربطني أنا الطفل بسعادة المعارضين آنذاك بموت “الديكتاتور”.

ربما كنت سعيداً أيضاً لأنني كطفل أعرف أنه في حالة موت أحد المعارف أو الأقارب سوف أحضر وليمة على روحه وآكل فيها الحلويات و”الصفيحة السورية”.

قلت لأبي وهو معي على الهاتف وأنا سعيد: بابا بابا… قال لي نعم… قلت له مات حافظ الأسد.. هلأ عم يذيعوا الخبر على التلفزيون.. قال لي أبي: “والله بس أجي على البيت لعفسك يا … سكّر السماعة وحسابك بعدين”.

أيقنت عندها أن ما قالته لي أمي أن “لساني رح يروحنا لورا الشمس” ربما يكون صحيحاً، ودون أن أعرف ماذا وراء الشمس، لكني فهمت أني ارتكبت فعلة سيئة بالمطلق، وأن “شحاطة “أمي وتهديد أبي برهان على ذلك.

ذهبت الى النوم خوفاً من “القتلة” من أبي، ومن الذهاب وراء الشمس، واستيقظت على صوت والدي وهو يقول لأمي: “اجى لعنا الامن وخبرنا نسكر محلاتنا بالسوق ل 40 يوم”.

لم أفهم لماذا، ولكن عند نهوضي ذهبت الى حقيبتي المدرسية لكي أخرج الوظائف التي علي إنجازها لليوم المقبل، ولكي يشاهد ابي أني أدرس بجد ويعطيني 5 ليرات أو 10، اشتري بها ما أشاء من مأكولات تمنحني لذة كوني طالباً، ولكن كانت المفاجئة عندما قال لي: “ضب دفاترك ما عاد في مدرسة لأربعين يوما”.

انتابتني موجة فرح عارم نظراً لكرهي الشديد للمدرسة، وما فيها من تنمر المعلمين علينا ومعاملة معظمهم لنا كما لو أننا أعداءهم، ولكن المفاجأة كانت عندما فكرت بالذهاب إلى دكان حارتنا لشراء الحلوى، قالت لي أمي” ما في حدي فاتح، كل المحلات مسكرة”، نعم، كانت حتى الأفران ومحلات بيع الخضار مغلقة معظم الوقت، يفتحون بأوقات محددة ويغلقون بأوقات محددة حيث لم تكن الفترة بين فتح الفرن وإغلاقه تتجاوز ثلاث ساعات.

مجدداً حرمني موت حافظ من لذة ابتياع البسكويت وأكياس البطاطا متى أشاء، ولمدة أربعين يوماً من دون أن يكون لي ذنب.

اكتشفت عندها أن الميت القائد الذي أعطانا من منجزاته ساعتين على التلفاز هو السبب بمنعي من الحصول على وجباتي المفضلة، وهنا بدأ الضجر والسجن لمدة 40 يوماً في المنزل من دون أي خروج ولو الى البقال، ومن دون مشاهدة برامج الأطفال على القناة السورية الأولى بسبب ان القرآن كان يذاع لمدة 24 ساعة على روح المقبور حافظ.

وأتساءل اليوم: هل كانوا يصدقون حقاً أن القرآن سينجي المقبور من جهنم؟

بعد أن علمت أنه لا يوجد حلويات ولا “صفيحة” في العزاء وأصلاً ليس هناك عزاء في الشارع كما هي عاداتنا، لعنته مجدداً، لعنته ألف مرة، في سري طبعاً، لأنه حرمني من كل شيء أحبه لمدة أربعين يوماً، ولم يكن أمامي آنذاك إلا اللعب بلعبة “الأتاري السالي”، كنت اجلس أكثر من 10 ساعات يومياً ألعب بسوبر ماريو والكابتن ماجد ولعبة الدبابات الشهيرة من دون أن تقاطعني أمي وتقول لي أذهب الى الدراسة أو نم باكراً من اجل الذهاب الى المدرسة، كنت بوقتها أشعر بالسعادة، سعادة ناقصة، لكني تمنيت بعد أن ينقضي “الأربعين” أن يموت حافظ آخر، لأقضي 40 يوماً جديدة في اللهو واللعب، وكنت أفكر آنذاك بضرورة تخزين بعض البسكويت والحلويات لغرض تأمين ملذاتي الشخصية.

الآن .. وبعد مضي أكثر من 17 سنة، أحاول أن اتذكر الخطاب الذي أذاعه “شيخو” وهو يبكي من دون دموع، ويقول “فقدناك شعباً”.

الشعب الذي تم تهجير الملايين وقتل مئات الآلاف منه لم يفقده أبداً، ومن افتقده لم يكن سوى عناصر الأمن المجرمين وبعض المنتفعين من فساد النظام المجرم.

أفتقد فقط لحظة دكتاتور آخر كتلك التي أعلن فيها موت حافظ، لأبتسم بكل حرية وشماتة، فالقتلة المستبدون لا يستحقون إلا اللعنات والشماتة، ما دامت محاكمتهم على جرائمهم بعيدة المنال.. حتى الآن.
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل