في قبضة المخابرات.. الملاك الهرم

سليم قباني22 نوفمبر 2017آخر تحديث :
في قبضة المخابرات.. الملاك الهرم

لا زلت أذكر أول ليلة قضيتها في الزنزانة.. كنا خمسة عشر شاباً، وعجوزاً يده ملفوفة بالجبس، وعلى وجهه “شاش” أبيض لم يكن كافياً لإخفاء تجاعيد جلده، تجاعيد تلخص قهر السوريين جميعاً، يجلس في الزاوية ويبكي مثل طفلِ يقف أمام قبر أبيه يودعه، أما الآخرين فكل ثلاثة أو أربعة يشكلون مجموعة يتبادلون أحاديث عن مغامراتهم الثورية وخروجهم في المظاهرات ضد نظام الأسد الفاشي.

كنت وحيداً هناك، أخاف الجميع، إلا ذاك العجوز الذي يبكي، كان مثل الملاك بالنسبة لي، لم أستطيع أن أتحدث معه بداية، كنت في حالة صدمة ورعب، أصارع أسئلة قاتلة: أين أنا؟ هل وقعت في قبضة الأمن وانتهى أمري؟ هل سأعدم؟ ما هي طرق التعذيب التي سيستخدمونها معي لاستخلاص الاعترافات؟ وأتمنى أن يكون ما أنا فيه مجرد كابوس سأستيقظ منه بعد قليل، ولكنه لم يكن إلا واقعاً مرعباً.

لم أستطع الأكل والشرب في الليلة الأولى، كنت أبكي وحيداً خوفاً من الموت، فأنا لست إلا شاباً في مطلع العمر لا أستحق هذا المصير، وكل ما طالبت به هو الحرية، والعيش بكرامة في وطني.

لكني أخيراً شجعت نفسي وجلست مع العجوز الملاك لأسمع منه قصته، وفجأة لم يعد أحساس الخوف يتملكني، كل ما تمنيته أن أرى أبي وأقبل يده وأجتمع مع عائلتي وأكمل المشوار الذي بدأته وبدأه أغلب شباب وشابات سوريا “الثورة”.

يتكلم معي هذا الملاك وفي عينيه غصة لا يعلم وجعها إلا صاحبها والله، وبدت في عينيه دمعة، شعرت لو أنها سقطت لملأت البحار، لمعت دموعه عندما قال: قتلوا عائلتي أمامي!

وتابع: لم أعد أستطيع أن أراهم مرة أخرى بعد أن قتلوهم وأردوني جريحاً، وأحضروني إلى هنا متهمين إياي بأني إرهابي … هم الإرهابيون الذين قتلوا عائلتي، حرموا عيني أن ترى ابنتي الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات.. لماذا؟؟ أنا لم أفعل لهم شيئاً، كل ذنبي أني من سكان حي “كرم الزيتون” في حمص.

ويتابع الملاك الحزين حديثه شارحاً أن أحد المليشيات الطائفية التي تتبع للنظام اقتحمت في ذاك اليوم أطراف حي كرم الزيتون وقتلت كل من كان موجوداً، ويضيف: “كانت طفلتي فرحة البيت وتنبض بالحياة، سعيدة ببعض قطع البسكويت التي جلبتها لها معي عند عودتي إلى المنزل، ولكنهم قتلوا نبض الحياة والفرحة عند طفلتي، لم تعد تصدر أي صوت، كانت الدماء تخرج من جسدها بعد عدة رصاصات من هؤلاء القتلة”.

هكذا كان يحدثني قبل أن يقتحم السجان الزنزانة ويقول “الكل وجههُ على الحيط، أنت ويا ولك حيوان ختيار النحس .. تعال معي عندك تحقيق”.

بعد خروج الملاك الهرم بعدة دقائق بدأت الصرخات تتوالى: “يا الله ساعدني… يا رب.. اااااخ.. كرمال الله أتركوني”.

عند هذه الكلمة انقطع صوت الملاك وانقطعت معه أصوات وأنفاس جميع المعتقلين في الزنزانة العتمة، التي يدخلها النور من أسفل بابها، فيما جدرانها المتعرقَة والهرئة تجعل المكان مقبرة.

ظن الجميع أن هذا الملاك قد توفي من شدة التعذيب لاستخراج اعترافات بشيء لم يقم به.

عندها بدأت أفكاري تأخذني إلى أن دوري قد حان في التعذيب، وانتزاع الاعترافات، فبدأت تساؤلات تدور في رأسي: هل يجب أن أعترف؟ لا لا.. لن أعترف، بل سوف أعترف .. لأنجو بنفسي من التعذيب.. فليقتلوني بطلقة أفضل من التعذيب.. حينها قاطع السجان أفكاري عند فتحه باب الزنزانة الصدئ وأدخل الملاك الحزين مدمى بجلابيته البيضاء.

انتابني شعور غامر بالفرح، وكأني سأخرج من فرع الأمن إلى منزلي.

كان يمشي إلى مكانه شامخاً كجبل، وعند جلوسه بجانبي قال: “يا ليتني لحقت زوجتي وطفلتي .. كانت ميتة واحدة، ولكن الآن سوف أموت في كل ثانية اشتاق فيها لعائلتي وأحزن على ما حصل لهم .. لا يهمني ما يحصل بعد الآن أريد أن أموت فقط.. الحياة انتهت بالنسبة لي، لم أعد أرى خيراً في أي انسان على وجه الكرة الأرضية، فهم كانوا عيني التي أرى بهم وقلبي الذي ينبض.

لا أستطيع وصف ذلك الشعور الذي داهمني عند قوله هذه الكلمات، أحسست وقتها أني أريد قتل كل من وقف مع نظام الأسد.

بعد مسح الدم من على وجهه المجعد ويديه المشققة التي ترسم خريطة هذا العالم القذر الذي يدعي الإنسانية، خلدنا إلى النوم، وهو يتأوه من شدة الألم وكانت أناته تخترق آذان كل المعتقلين، كانت أناته وأنفاس الجميع تلعن المجرمين طول الليل.

في الصباح الباكر استيقظنا على صوت السجان ينادي باسمي ويقول: “ولك كر جهز حالك.. رح تترحل على فرع تاني”.

لم يهمني ما هو الفرع في تلك اللحظة، بل أردت أن أبقى في أقذر فرع في سوريا “المخابرات الجوية” ليس محبة بهم، بل من أجل أن أبقى بجانب هذا الملاك العجوز.

عند تجهيز نفسي قال لي: “الله معك يا ابني.. إن ما شفتك بالدنيا بشوفك بالجنة، وبتشوف بنتي الصغيرة ما أحلاها”.

بهذه الكلمات انتهى لقائي مع الملاك المعجوز على أمل أن ألقاه مرة أخرى في هذه الدنيا وأجلس معه لنتكلم.

كم ملاك مثله أصبح في سوريا!!؟ كم أب قتل أطفاله أمام عينيه وهو ما زال على قيد الحياة؟!

ماذا قدما لهم كي نخفف آلامهم ونحيي أمالهم بالحياة الكريمة؟!

انقذوا هؤلاء الملائكة قبل أن نفقد رحمة كل ملاك في السماء والأرض!!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل