عمران.. الواقع يتحدّى الخيال

معن البياري21 أغسطس 2016آخر تحديث :
عمران.. الواقع يتحدّى الخيال

معن البياري

معن البياري

بقي المصري أكثم سيد تحت الرّكام، ثلاثة أيام، بعد الزلزال الذي ضرب القاهرة في 1992. وتحت الأنقاض، ماتت بالقرب منه ابنته وأمه وزوجته. ولمّا انتُشل حيّاً، قال طبيبٌ عالجه في المستشفى، إنه “مهدّدٌ بفقدان حاسّة الاندهاش”. … تُرى، أيّ الحواس لدى الطفل السوري، عمران، كنّا ننتظر أن يُبدي شيئاً منها، ونحن نحدّق فيه، منتَشلاً للتوّ من بين ركامٍ أحدثه قصفٌ في حلب؟ لم يبدِ استغراباً من أيّ شيء، أو أيّ استهجانٍ من الدم المغبرّ على وجهه وبدنه. لم يشعر بحاجةٍ إلى البكاء، لا شيءَ بدا له غير عادي، لا القذائفُ ولا الهولُ الذي كان فيه، ولا الموتُ الذي دنا منه، ولا كل الأزيز في مسامعه. عمره خمس سنوات، هي سنوات دويّ الصواريخ والبراميل المتفجرة، كما اختار نظام الأسد وحلفاؤه أن تكون، منذ قلْع أظافر أطفالٍ في درعا، كان بعضهم في عمر عمران الآن. ما الجديد، إذن، يستحقّ أن يُحسب جديداً، يأنس فيه عمران طارئاً غريباً صار حواليه، فيبكي بسببه؟ بكى فقط في المستشفى لمّا شاهد والديه، لم نظفر بصورةٍ لمشهده هذا. هل كان بكاءَ فرحته بهما؟ هل أصابه اندهاشٌ ما لمّا رآهما؟ لا نعرف، ولا ضرورةَ لأن نعرف. يرمينا عمران، أو صورته الشهيرة على الأصح، باستفهامٍ مستجدٍّ عن الخوف، ما هو بالضبط؟ لا ينفع البحث الكلاسيكي، هنا، في جلاء معناه، لأن عمران لم يُظهر خوفاً. اكتفى بتفرّجنا عليه، ثم استيقظت، في المستشفى، حاجتُه إلى الحنان، لمّا رأى والديه، وهو الذي ربما استشعر خوفاً من فقدانه، إذا ما قضيا، ربما.
كتبتُ في صحيفةٍ زميلةٍ، قبل نحو أربعة أعوام، إن المحنة السورية الماثلة تتحدّى مخيلات الأدباء وقرائحهم، إذا ما أرادوا التعبير عنها في رواياتٍ ومسرحياتٍ وقصص وقصائد. ذلك أن وقائع غير قليلة، في أتونها، فرديةً وجماعيةً، تكاد تنتسب إلى ما هو فوق واقعي، لو مرّت في خواطر أديبٍ قدير، وبادر إلى تمثّلها في نصّ إبداعي، ربما كنا لن نتسامح مع “شططه”، ومع اختلالٍ حادثٍ لديه في معرفة وظيفة الخيال، عندما ينشغل بالتعبير عن حوادث الواقع المعلومة وتفاصيلها. وهذا الطفل عمران يبدو قادماً من خيالات بورخيس، لا منتشلاً من بين أنقاض واحدةٍ من مآثر السوخوي في حارةٍ في حلب. ولكن، أنجز روائيون وشعراء ومسرحيون ومغنون ورسامون سوريون كثيرون أعمالاً إبداعية، بعضها له أهميته الخاصة، نوري الجراح وبشير البكر في الشعر، مها حسن وخالد خليفة وفواز حدّاد وعبدالله مكسور وسوسن جميل حسن ونبيل سليمان في الرواية، سميح شقير في الغناء، وهذه أسماءُ ترد هنا للتمثيل، فثمّة غيرُهم، أيضاً، تستحق أعمالهم انتباهاً واجباً.
يقول بشير البكر في “عودة البرابرة” (بيروت، 2014): حين استفاق السوريون/ ظنّوا أنهم ماتوا/ أكثر مما ينبغي/ وما عليهم/ غير أن يفتحوا النوافذ/ لكنهم لم يَحسبوا/ حساب كوابيس الدم/ وكم من مجزرةٍ في انتظارهم. ويقول في أخرى: لا حاجة لنا/ كي نحفر قبورنا/ طالما أن الحرب لم تنته./ بانتظار مزيدٍ من المجازر/ تحتّم علينا أن ندفن الخوفَ/ بوقار من يرقدون/ تحت الترابِ/ منذ زمن بعيد.
ويقول نوري الجراح في “يأس نوح” (بيروت، 2014): أيها الموتُ/ يا موت/ لا أنادي سواكَ/ لأنك أنت عدوّي الذي ما أحبّ سواي. ويقول في قصيدةٍ أخرى: العين الغريقةُ/ في صورةٍ/ اغرورقتْ بالدم/ خذ هذه الصورة من عيني، وخذ جرح العيْن.
تنشغل هذه المقاطع للشاعريْن بالموت والحطام السوريين، فيها ظلالٌ للطفل عمران، لصورته وجرح عينه، ولاستفاقته والخوف الذي غاب منه. فيها حضور للدم السوري الكثير الذي بلا حساب. وفي الوسع أن يُقال، هنا في مناسبة اندهاشة عمران الغائبة، إن امتحاناً ثقيلاً يعبُر إليه أهل الأدب والفن السوريون، عنوانُه هذا التحدّي الصعب الذي تختبرهم فيه نوازل الراهن السوري التي تتجاوز سقوف الخيال، وتحضر فيها كل ألوان الواقعية، السحرية والتقليدية والعبثية، متوازية مع كسرها كل عجائبية وخوارقية مرّت في ثقافاتٍ سالفة، وما صنعه الطفل عمران قدّامنا، لمّا بحلقنا فيه، مقطعٌ كاشف في هذا كله .. وغيره.
  • نقلاً عن العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل