سوريا ضحية الجغرافيا “مدخل جيوسياسي” لفهم تعقيدات الأزمة السورية

فريق التحرير27 أغسطس 2016آخر تحديث :

سوريا (1)

شكل الربيع العربي ومنذ انطلاقته مادةً دسمةً للتحليل السياسي، وذلك بفعل غياب الموضوعية والانحياز الناتج عن الانقسام في الرأي الذي أحدثه هذا الربيع على المستوى الشعبي والنخبوي بين مؤيدٍ ومعارض له. وعلى الرغم مما قدم من تحليل وتفسير لهذا التحول الكبير في الشارع العربي، إلا أن عدداً كبيراً منها لم يقدم إجابات شافية حول الكثير من التساؤلات التي تعتمل في صدر المواطن في دول الربيع، خصوصاً ما يتعلق منها بالمآلات  التي وصلت إليها الثورات في دول مثل مصر وتونس واليمن وليبيا، والتي احتاجت إلى ثورات إما على الثورة ذاتها أو لتصحيح الثورة، وبكل الأحوال أعادت تلك الدول إلى نقطة الصفر، وأنتجت ذات المعادلة الدكتاتورية الشهيرة “الاستقرار مقابل الحريات”، فأوصلت العسكر ورجالات الأنظمة السابقة إلى الحكم ضاربةً بنتائج صندوق الاقتراع عرض الحائط، وبيد الشعب ذاته الذي خرج مطالباً بها .

أما في الحالة السورية التي انتهى فيها الربيع واستحال فيها خريفاً بل وشتاءً ساخناً، فقد وقفت التحليلات عاجزة عن تفسير مجرى أحداث الثورة وتأخر نجاحها عن مثيلاتها، وتدويلها واستعصاء هذا النظام على السقوط وهذا التشنج والانقسام الإقليمي حيالها، وذلك نتيجة قصور الرؤية واستخدام مداخل التحليل السياسي فقط دون النظر إلى الأبعاد الاقتصادية والجغرافية، فجاءت تلك التحليلات مجتزئة تُعنى بما تقدمه الخطابات الرسمية للدول، والتي تخفي دائماً المصالح الحقيقية لها وراء حوق الإنسان ودعم تطلعات الشعوب نحو الحرية والديمقراطية .

لذلك عمدنا في هذه الدراسة لاستخدام المدخل الجيوسياسي في تحليل التعقيد الذي يلف مسار الأحداث في سوريا، في محاولة لتقديم مقاربة واقعية تأخذ مصالح الدول المعنية والفاعلة في تلك الأحداث، حيث يقدم علم الجيوسياسة نظرة واقعية موضوعية واضحة، بعيدة عن السرديات الإعلامية والتفسيرات الدعائية للأحداث والصراعات.

فهو علم واقعي يهدف إلى إبراز الخصائص المخفية للسياسات، ويصف الخارطة السياسية العالمية بخطاب خاص ثقافي سياسي مرتبط بالجغرافية، ولا يزعم أن خطابه يمثل حقائق وإنما يراه خطاباً يمثل حقائقه هو. حيث يقوم هذا العلم على جملة من المفاهيم أهمها:

  • الصراع: العدوانية في تركيبة الكائنات البشرية في عمليات سعيهم الدؤوب لتحقيق الرفاه بالحياة، وتنافسهم من أجل امتلاك القوة والسلطة والمجد، والتي تخلق الاختلافات والأزمات وتحولها إلى صراعات تولد الحروب والدمار.

وبما أن الصراعات تدور في الجغرافية، فإن علم الجيوسياسة يسلط الضوء على جذور ومصادر الصراعات، والدوافع التي تتحكم باللاعبين العالميين وكل العناصر الفاعلة في تلك الصراعات. لذلك فعلم الجيوسياسة يعيد أي صراع إلى ثلاثة أجزاء متفاعلة مع بعضها البعض وهي:

  • الصراع من أجل السيطرة على الموارد.
  • الصراع من أجل السيطرة على الجغرافيا.
  • الصراع من أجل الهيمنة الايديولوجية والعرقية والوطنية.

فللاستيلاء على الموارد لابد من السيطرة على المساحات الجغرافية والتحكم بها، ولكي تتم السيطرة على الجغرافية فهي بحاجة إلى حروب والتي تحتاج بدورها إلى وجود غطاء ثقافي أو إيديولوجي لكي تبرر عقلانية القتال والكفاح، ولإضفاء الشرعية على الحرب.

لذا فإن استخدام هذا المدخل في تفسير أحداث الربيع العربي والأزمة السورية بالتحديد محفوف بالمخاطر، كون واقعيته الشديدة قد تصطدم القارئ وتدفعه لرفض هذا التحليل بوعيه رغم أن ما يُطرح يمثل قناعات راسخة في اللاوعي الخاص به، فالأهمية الجغرافية للوطن العربي ودوله وبخاصة سورية، والمحاولات العديدة عبر العصور للسيطرة عليه من قبل مختلف القوى الإقليمية والدولية لا تخفى على أي مواطن عربي بل تشكل إيماناً راسخاً في الضمير الجمعي للعرب، ولكن أي طرح يحاول تهميش الإرادة الشعبية في التغيير التي أبداها هذا المواطن في التخلص من الدكتاتورية والاستبداد، والتي يعتبرها كبرى معوقات الدخول في ركب الحضارة العالمية والعيش الرغيد، واعتبار هذا الجهد قد ولِدَ ووظف في سياق خدمة ائتلاف مصالح دولية إقليمية لا تمثل الشعوب بالنسبة لها سوى أدوات تنفذ بها سياساتها، وهي سُنة سياسية يثبتها التاريخ، ولكن ما تحمله هذه الدراسة في طياتها لا يقصد رمي الشعوب بالسذاجة والجهل السياسي، وإنما الأنظمة و”النخب” السياسية والاجتماعية التي نتحفظ على وجودها أساساً في المجتمعات العربية، والتي أودت بالشعوب نتيجة الظلم والقهر والتهميش إلى التحالف مع الشيطان في سبيل الإطاحة بها، و جعلت البلدان التي تحكمها من الهشاشة بمكان يُمكِن باقي الدول من تدميرها من الداخل بحملة إعلامية وليست عسكرية.

لا تدعي هذه الدراسة الأسبقية ولكن ترنو لأن تكون الأكثر إحاطة من غيرها والأعمق تحليلاً وغوصاً في المصالح المتشابكة للدول الإقليمية والقوى الدولية، وعلاقتها بمسار الأحداث في عالمنا العربي وسورية بالخصوص، والتزامها الحياد التام بحيث لم تأتي داعمة كما سبقها لنظرية المؤامرة والتي تبرئ الأنظمة وتشيطن الشعوب، كما ابتعدت عن الرومانسية الثورية التي تصور الدول الداعمة كجمعيات خيرية، بل تعمدت هذه الدراسة الواقعية الشديدة والموضوعية في الطرح لدرجة الفجاجة، والابتعاد عن المواربات التي تخفي المعنى الحقيقي خلف متاريس من العبارات المنمقة، كما لا ندعي تقديم الحقيقة الكاملة أو الصواب المطلق وإنما هي مجرد قراءة واقعية للمشهد العربي عموماً والسوري خصوصاً، تعتبر أن ما جرى ويجري من أحداث إنما هو صراع دولي إقليمي على موارد الطاقة وطرق عبورها، وظفت في خدمته تطلعات الشعوب نحو التحرر من الاستبداد عبر فتح المجال أمام الغضب الشعبي الدفين على الأنظمة القمعية للتفجر، وذلك برفع الغطاء الدولي عن تلك الأنظمة التي أصبحت منتهية الصلاحية بالنسبة للقوى الكبرى، وما التعقيد في الملف السوري سوى انعكاس لتعقيد مصالح الدولة الإقليمية والدولية فيها، ووظفت في سبيل السيطرة على الموارد الشعوب ذاتها في امتلاك الجغرافية عبر اشعال حروب داخلية، وأضفت عليها شرعيات متعددة لكل منها تسمية مثلت مراحل الحراك الشعبي، فالقمع والاستبداد  كان المرحلة الأولى والتي سميت ثورة، ثم الدين والطوائف في مرحلة ثانية سميت حرباً أهلية، ثم أصبحت أزمة تهدد قيم العالم الحر بالإرهاب وهي التهمة التي وسم بها من اعتبروا في المرحلة الأولى ثواراً يتطلعون للحرية .

مقدمة حول أهمية الغاز الطبيعي في الاقتصاد العالمي:

الغاز الطبيعي هو أنظف مصادر الطاقة على مستوى مصادر الوقود الأحفورية (المنتجات البترولية والغاز الطبيعي والفحم) ولا يواجه أية تبعات أخرى قد تصاحب توليد الطاقة النووية.

ولكن في نفس الوقت تدل التكاليف والمصاعب اللوجستية التي تعترض تجارة الغاز عبر الحدود على أن درجة التكامل بين أسواق الغاز الطبيعي أقل بكثير من أسواق النفط، فيقتضي شحن الغاز الطبيعي أو نقله توافر شبكات أنابيب باهظة التكلفة أو توافر بنية تحتية ومعدات لتسييل بما في فيها سفن مخصصة، ثم إعادته إلى الحالة الغازية عند الوصول إلى الوجهة.

جدول رقم (1) احتياطيات الوقود الأحفوري وإنتاجه واستهلاكه في العالم:

احتياطيات مثبتة 2007 2013
النفط (ألف مليون برميل) 1.399 1.688
الغاز الطبيعي (تريليون متر مكعب) 161 186
الفحم (مليون طن) 891.531
الإنتاج
النفط (ألف برميل يومياً) 82,282 86.108
الغاز الطبيعي (مليار متر مكعب) 2.963 3.370
الفحم (مليون طن) 6.593 7.896
الاستهلاك
النفط (ألف برميل يومياً) 86.754 91.231
الغاز الطبيعي (مليار متر مكعب) 2.954 2.348
الفحم (مليون طن) 3.204 2.827

المصدر: بريتش بتروليوم (2014)، statistical review of world energy .

وتتضح محدودية تكامل أسواق الغاز من الفروق الكبيرة في أسعاره بين المناطق المختلفة في السنوات الأخيرة نتيجة لطفرة الغاز الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية وكارثة فوكوشيما وذلك رغم تزايد تجارة الغاز الطبيعي المسال.

وتمتلك الولايات المتحدة وروسيا وقطر وإيران وتركمانستان أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي حالياً، وبفضل التطورات التكنولوجية في أنشطة الاستكشاف والحفر تسنى الوصول إلى اكتشافات جديدة واستغلال الاحتياطيات التي سبق تحديدها مسبقاً مما ساهم في زيادة عدد منتجي الغاز الطبيعي اليوم بكثير عن أعدادهم في التسعينات من القرن الماضي حيث تعتبر اليوم الولايات المتحدة وروسيا أكبر بلدان منتجان تليهما إيران وقطر وكندا.

ويزداد استهلاك الغاز الطبيعي باطراد، وتصل حصته إلى 25% من استهلاك الطاقة الأولية في العالم بينما تراجعت حصة النفط بسرعة من 50% في سبعينيات القرن الماضي إلى حوالي 30% اليوم، كما يتوقع ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي في العالم بقوة على المدى المتوسط ( تقريرIEA 2014)، بينما تعد حصة بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية هي الأكبر في هذا النمو ويتوقع كذلك زيادة تقدم الغاز الطبيعي نحو قطاع النقل، حيث لايزال استخدامه محدوداً للغاية، وبخاصة من حيث استخدام الغاز الطبيعي المسال كوقود للسفن .

الجدول رقم (2): احتياطيات الغاز الطبيعي وإنتاجه واستهلاكه، حسب البلد

الاحتياطيات المثبتة (% من الاحتياطيات في العالم) 2007 2013
إيران 17.46 18.19
روسيا 18.91 16.83
قطر 15.80 13.29
تركمانستان 1.45 9.41
الولايات المتحدة 4.18 5.03
الإنتاج (% من الإنتاج العالمي)
الولايات المتحدة 18.41 20.40
روسيا 19.98 17.95
إيران 4.22 4.94
قطر 2.13 4.70
كندا 6.17 4.59
الاستهلاك (% من الاستهلاك العالمي)
الولايات المتحدة 22.14 22.02
الاتحاد الاوروبي 16.18 12.90
روسيا 14.28 12.35
إيران 4.25 4.84
الصين 2.39 4.83
اليابان 3.05 3.49

المصدر: المرجع السابق

ويتطور نمط تجارة الغاز الطبيعي العالمية تطوراً سريعاً، إذ لا تمثل حالياً سوى ثلث كميات الغاز المستهلكة نظراً لأن خطوط الغاز الطبيعي لاتصل إلى العملاء، حيث أن أكبر الأسواق المتكاملة عبر خطوط الأنابيب إلى حد كبير هما أوروبا وأمريكا الشمالية.

فيما يعتمد ثلث تجارة الغاز الطبيعي الدولية على شحنه في صورة غاز طبيعي مسال، وقد ازدادت هذه النسبة بسرعة مع ازدياد الطلب على الغاز بصفة أساسية في آسيا، وفي عام 2013 بلغ عدد البلدان المنتجة للغاز الطبيعي المسال حوالي 20 بلداً ولكن قطر تمكنت بسرعة من تطوير قدرتها على تصدير الغاز الطبيعي المسال خلال العقد الماضي، وهي الآن أكبر البلدان المصدرة حيث تبلغ حصتها حوالي ثلث تجارة الغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم.

وبناء على ما تقدم نستنتج أن:

  • الغاز هو مصدر الطاقة الأكثر أهمية لهذا القرن.
  • سوق الغاز العالمية والحديثة نسبياً لاتزال غير منظمة خصوصاً مع دخول منتجين جدد إلى السوق والزيادة المطردة للاستهلاك، بالإضافة إلى عدم اكتمال شبكات الأنابيب الناقلة من المنتجين إلى المستهلكين وكون تسييل الغاز لنقله تحتاج لتكنولوجيا عالية وتكاليف مرتفعة لا تمتلكها معظم الدول المنتجة، وغياب كارتيل مسيطر على التجارة وتنظيمها كالنفط مثلاً.
  • نتيجة للاحتباس الحراري والمخاطر الناجمة عن استخدام الطاقة النووية ازداد اعتماد الدول الصناعية الكبرى والاقتصادات الناشئة على الغاز كمصدر طاقة نظيفة قياساً بمصادرها الأخرى، مما يجعل المسيطر على تجارة هذه المادة مؤثراً بشكل أو بآخر بالاقتصاد العالمي.
  • أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم حالياً هم روسيا وأمريكا حديثاً، مما يجعل الغاز سبباً لإشعال حرب باردة جديدة كون الرابح فيها سيتمكن من السيطرة مصدر الطاقة العالمي الجديد.

الولايات المتحدة الأمريكية (الطفرة):

بدأ إنتاج الغاز الطبيعي من المكامن الصخرية في الولايات المتحدة الأمريكية في الثمانينات من القرن الماضي، ولكن الجمع بين التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي سمح بزيادة إنتاج الغاز بصورة حادة في أواخر العقد الاول من القرن الحادي والعشرين حيث كان ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي حافزاً إضافية لزيادة الإنتاج، واليوم حولت طفرة إنتاج الغاز الطبيعي أمريكا إلى اكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم ويتوقع انضمامها إلى صفوف المصدرين في وقت لاحق من هذا العقد (تقريرEIA 2014 U,S).

ومع طفرة العرض وضعف الطلب، هبطت أسعار الغاز الطبيعي في أمريكا هبوطاً حاداً في السنوات الأخيرة وانفصلت فعلياً عن الأسعار في بقية العالم، كما كان لتلك الطفرة تأثيراً كبيراً على تجارة الغاز في العالم حيث انخفضت واردات أمريكا من الوقود الأحفوري إلى 225 مليار دولار (1.3% من الناتج المحلي) في 2013 مقابل 412 مليار دولار (3.8% من الناتج المحلي) في 2008 [1]، كما تراجع الطلب على الفحم وأسعاره في أمريكا وشجع هذا التراجع بدوره على زيادة صادراتها من الفحم إلى أوروبا .

كذلك أدى تميز الولايات المتحدة في إنتاج الغاز الطبيعي إلى ارتفاع مستوى قدرتها التنافسية في منتجات أخرى بخلاف الطاقة، مما أثر على منافسيها وبخاصة في أوروبا، حيث أن لأسعار الغاز تأثيراً كبيراً ومستقل على النشاط الاقتصادي وتشير (دراسة Melick 2014) إلى أن انخفاضاً مقداره 10% في السعر النسبي للغاز في الولايات المتحدة يؤدي إلى تحسن الإنتاج الصناعي لها مقارنة بإنتاج منطقة اليورو بنحو 0.7% بعد مضي عام ونصف وأن هبوط سعر الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة منذ 2006 اقترن بارتفاع يتراوح بين 2% و3% في نشاط قطاع الصناعات التحويلية بأكمله، بينما تأثيره على الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة أكبر بكثير ويصل إلى 30% أو أكثر، كما تبين (دراسة Celasu& others 2014) أن ارتفاع فروق أسعار الغاز الطبيعي لصالح البلد الأم سيؤدي إلى زيادة إنتاج الصناعات التحويلية في البلد الأم بمقدار 1.5 %.

إذاً طفرة الغاز في الولايات المتحدة لم تحقق لها وفورات مالية نتيجة انخفاض الواردات من مصادر الطاقة فقط بل منحتها ميزة تنافسية لمنتجاتها – متأتية من انخفاض تكلفة الطاقة –  على منتجات الاقتصادات المنافسة الغير منتجة للغاز وذات الاستهلاك المرتفع (أوروبا –اليابان- وكوريا الجنوبية – الصين)، الأمر الذي ينقذ اقتصادها من الركود ويدفع عجلة النمو من جديد من خلال زيادة صادراتها ويجعله أكثر قدرة على امتصاص صدمات الأزمات الاقتصادية، وهذا ما يفتح شهيتها للتحكم بأسعار مورد الطاقة الجديد عبر السيطرة على تجارته عالمياً هذا من الناحية الاقتصادية، أما من الناحية السياسية فإن تحولها لمصدر للغاز الطبيعي ومسيطر على منابعه وخطوط نقله يكرس ويضمن استمرار نفوذها وسيطرتها السياسية على الدول المستهلكة، والأهم أن المنافس في هذه السوق هو المنافس التقليدي روسيا، ولذلك من المستحيل ترك تلك التجارة للروس .

روسيا (الاستفادة من الدرس):

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وعت موسكو المثقلة بالجراح أن السبيل الوحيد للنهوض يكمن في السيطرة على مصادر الطاقة التي تمثل ورقة للضغط السياسي و مورداً لإمداد البنى الاقتصادية، وأن لغة السلاح لم تعد تجدي والقادم هو لغة موارد الطاقة، لذلك فيما كان الأمريكيون يتحركون في مناطق النفط عبر عدة عقود مكنتهم من النمو ومن السيطرة على القرار السياسي الدولي بلا منازعات كبيرة، تحرك الروس باتجاه مكامن الطاقة (النفط والغاز). وعلى اعتبار أن القسمة الدولية لا تحتمل المنافسة في قطاعات النفط كثيراً، عملت موسكو على السعي إلى ما يشبه (احتكار) الغاز في مناطق إنتاجها أو نقلها وتسويقها على نطاق واسع، منطلقة من كونها أكبر منتج للغاز في العالم (قبل الطفرة الأمريكية) وأن أكبر احتياطياته تقع في أراضيها ومناطق نفوذها  (بحر قزوين)، وذلك عبر شركتها العملاقة غاز بروم .

الذراع الروسي (غاز بروم):

تقوم غازبروم (Gazprom) ومقرها موسكو جنباً إلى جنب مع الشركات التابعة لها، في تشغيل شبكات أنابيب الغاز وإمدادات الغاز إلى الدول الأوروبية، وتشارك أيضاً في أنشطة إنتاج وتكرير النفط، وكذلك توليد الطاقة، عبر فروعها والشركات التابعة لها. حيث تقوم الشركة بعمليات في المملكة المتحدة وصربيا وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وفيتنام والهند والعراق والجزائر وليبيا وغينيا الاستوائية وبوليفيا وفنزويلا وغيرها[2].

وتعتبر غازبروم شركة رائدة عالمياً في احتياطيات الغاز الطبيعي والإنتاج، ممثلة ١٨ ٪ من احتياطي الغاز في العالم، ٧٠ ٪ من احتياطي الغاز الروسي و ١٥ ٪ من إنتاج الغاز العالمي، كما تشغل الشركة ٦٨٠٦ بئراً منتجة للغاز في روسيا و ٥٩٤١ بئراً منتجة للنفط في روسيا. بالإضافة إلى ذلك تشرف شركة غازبروم على ١٦١٧٠٠ كيلومتراً من خطوط أنابيب الغاز، وهو أكبر نظام نقل للغاز في العالم. أما من ناحية التسويق تتمتع شركة غازبروم بحصة أكثر من ٧٠ ٪ في سوق الغاز الروسي وحصة ٢٣ ٪ في سوق الغاز الأوروبية[3].

مأزق كبار المستهلكين (لعبة الجيوبولتيك):

مع تزايد أخطار وآثار ظاهرة الاحتباس الحراري وتوقيع اتفاقية كيوتو 2007 لخفض انباعاثات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، انخفض اعتماد معظم الدول على الفحم كمصدر للطاقة[4] لصالح الغاز الطبيعي، كما ساهمت حادثة مفاعل فوكوشيما في اليابان بتحول معظم الدول لاستخدام الغاز كبديل للطاقة النووية وخاصة في تشغيل محطات توليد الكهرباء.

جملة العوامل تلك وضعت الدول الصناعية الكبرى والتي تمثل أكبر مستهلكي الغاز في العالم (الاتحاد الأوروبي، اليابان، الصين، الهند)  أمام تحديات كبرى وهي:

  • المخاوف البيئية: التلوث البيئي أجبر تلك الدول على إعادة ترتيب نسب اعتمادها على مصادر الطاقة وإعطاء الأولوية لأقلها ضرراً بالبيئة ( الغاز).

2- أمن الطاقة: إن زيادة الاعتماد على الغاز كمصدر طاقة يتطلب موارد وخطوط نقل آمنة إضافة لضمانات عدم انقطاع تلك الموارد وعدم استغلالها سياسياً .

3- أهداف الكفاءة الاقتصادية: ضمان طاقة رخيصة لا تساهم في رفع تكاليف الإنتاج مما يؤثر على تنافسية منتجات الدول المستهلكة لصالح الدول المنتجة.

أوروبا: أمن الطاقة هو ما يقض مضجع الأوروبيين فبالنسبة لواردات أوروبا الحالية من الغاز، تصل ما نسبته 41في المئة من هذه الواردات من روسيا و 28في المئة من الجزائر، والباقي من النرويج ونسبة ضئيلة من دول الخليج وبحر الشمال.

حيث يمر 80% من الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أنابيب تعبر الأراضي الأوكرانية، لكن اعتماد أوروبا على الغاز الذي ينقل عبر أوكرانيا تراجع إلى 50% بعد 2009، حيث أوقفت غازبروم الروسية كل إمداداتها إلى أوروبا من خلال أوكرانيا مما أدى إلى ارتفاع السعر الفوري للغاز بنسبة 50% خلال فترة وقف الإمدادات التي دامت ثلاثة أسابيع، وفي 16 يونيو 2014 توقفت غازبروم عن تزويد أوكرانية بالغاز الطبيعي، ولكن دون أن يؤثر ذلك على عبور الغاز إلى أوروبا الغربية ولكن يؤثر على أوكرانية ودول جنوب شرق أوروبا (بلغارية وبلدان يوغسلافية السابقة) ويعرضها إلى أخطار فادحة، كونها تعتمد على غاز روسيا للحصول على معظم متطلباتها تقريباً من الواردات وليس أمامها سوى إمكانية محدودة للحصول على الغاز من مصادر بديلة .

هذا الخطأ الفادح الذي اقترفته روسيا بقصد أو بغير قصد نتج عنه تأكيد لمخاوف الأوروبيين وكذلك الأمريكيين الذين دائماً يتهمون روسيا باستخدام مواردها من الطاقة للتأثير في المستهلكين، واستخدام ورقة الغاز كيفما شاءوا لاستفزاز جيرانها في الساحة السوفياتية السابقة، والذي أثر أيضاً وبشكل مباشر في أوروبا وشكل ضغوطاً قوية على الاتحاد الأوروبي من أجل التحرك لاتخاذ خطوات عملية وبدأ الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة بلعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافيا والاقتصاد والطاقة.

تعيش أوروبا حالة انقسام حيال حرب الغاز الباردة بين روسيا وأمريكا ففي حين تقف القوى التقليدية في أوروبا (بريطانيا وفرنسا) مع حليفها الأمريكي بغية منع روسيا من التحكم في إمداد كامل أوروبا بالجزء الأكبر من طاقتها وتحاول تحرير تلك التجارة من سيطرة الدب الروسي، إضافة إلى دعم تحرر الجمهوريات السوفيتية السابقة من الهيمنة الروسية، تغرد ألمانيا خارج السرب الأوروبي كون مصالحها تنسجم وخطوط الغاز الروسية التي ستحول أراضي المحيط الجرماني (النمسا- ألمانيا- التشيك- سويسرا) إلى مركز تجمع لخطي غاز السيل الشمالي و الجنوبي الروسيين تنطلق منه خطوط لإمداد باقي أوروبا مما يمنح ألمانيا فرصة أكبر للسيطرة على القرار الأوروبي، كما أن التعاون على أساس الاقتصاد مع روسيا قد يشكل فرصة لألمانيا للتنصل من ثقل تنوء به وهو ثقل أوروبا المتخمة بالديون والتابعة للولايات المتحدة، فيما ترى ألمانيا أن المجموعة الجرمانية هي الأولى بأن تشكل نواة أوروبا لا أن تتحمل النتائج المترتبة على قارة عجوز وعملاق آخر يتهاوى. ولذلك ألمانيا هيأت نفسها لتكون طرفاً وشريكاً لهذا المشروع، إن من حيث التأسيس أو من حيث مآل الأنبوب الشمالي أو من حيث مخازن السيل الجنوبي التي تقع في المحيط الجرماني وتحديداً النمسا.

هذا الطموح الألماني لبناء شراكة اقتصادية استراتيجية مع موسكو قد يفسر الهدوء النسبي الذي يحكم تعاطي ألمانيا مع الملف السوري قياساً بمواقف بريطانيا وفرنسا الحاسمة باتجاه الإطاحة بالنظام وعدم صلاحيته سياسياً للاستمرار، ودعم الجهد العسكري لفصائل المعارضة المسلحة في حين تتقارب وجهة النظر الألمانية منذ البداية مع الروسية حول ضرورة الحل السياسي وإمكانية فتح قنوات للحوار مع النظام .

اليابان – الهند – باكستان:

تواجه هذه الدول الثلاثة تهديداً بنقص موارد الطاقة بخاصة الغاز كون احتياجاتها منه في تزايد مستمر وبخاصة اليابان والهند، فاليابان وبعد حادثة مفاعل فوكوشيما 2011 أجبرت على تخفيف الاعتماد على الطاقة النووية وبخاصة في توليد الكهرباء، حيث ارتفعت واردات اليابان من الغاز الطبيعي المسال ارتفاعاً ملموساً بنحو 40% حتى أصبحت أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في العالم، وفي 2013 بلغت واردات اليابان من الغاز الطبيعي المسال 119 مليار متر مكعب أي أكثر من ثلث مجموع الواردات في العالم مما أنعش أسواق الغاز الطبيعي المسال في آسيا والشرق الأوسط واستراليا .

كما أن الهند وباكستان وإن فرقتهما العداوة فإن أزمة الطاقة التي تلوح في الأفق توحدهما في البحث عن مصدر مزود بالغاز الطبيعي، وبحسب الموقع الجغرافي يبدو الأقرب لهما هو غاز قزوين (أذربيجان – تركمانستان- إيران )، ولكن هذا المصدر وإن بدا مناسب من الناحية الاقتصادية إلا أن الجغرافية السياسية والتحالفات تقف عائقاً بوجه هذا الطريق، فموسكو تأخذ الموقف الصيني الحليف الأكبر بعين الاعتبار في علاقاتها مع الهند إذ لا ترتاح بكين لأي تقارب وخاصة في مجالات الطاقة والسلاح بين روسيا والهند، وهذا الأمر الذي يمنع وصول العلاقة بين الصين وروسيا إلى الشراكة الاستراتيجية رغم التقارب الكبير، كما تغلق الولايات المتحدة الأمريكية باب الغاز الإيراني في وجه الهند كما تفعل ذلك المملكة العربية السعودية في وجه باكستان، حيث تطمح إيران لإنشاء خط غاز الشرق الأوسط – الهند البحري الذي من المخطط أن ينطلق من المياه العُمانية و يمر بإيران لينتهي في الهند – وهذا الخط هو الذي يفسر العلاقات المميزة بين إيران وعُمان ولعب الأخيرة دور الوسيط مع دول الخليج في الملفات العالقة مع إيران بالإضافة إلى الحياد الطائفي الذي تمثله كونها على المذهب الإباضي بين القوى السنية والشيعية، ولكن الهند انسحبت من الاتفاق بفعل الضغط الأمريكي، وكذلك فعلت باكستان المترددة في إتمام بناء أنبوب غاز إيران باكستان (IP) في أراضيها تحت الضغط السعودي .

الصين:

شهدت العلاقات الروسية الصينية تحسُّناً غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، وتدل الاتفاقيات الموقَّعة خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين (20 من مايو/أيار 2014) إلى شنغهاي، على أن البلدين يُريدان الارتقاء بحجم العلاقات بينهما على مستويات الدفاع والاقتصاد؛ وخصوصًا في مجال الطاقة الذي حقَّق فيه البلدان اختراقًا كبيرًا؛ وبالإضافة إلى حجم صفقة الغاز أثارت المناورات العسكرية البحرية التي جرت بين البلدين خلال زيارة بوتين العديد من التساؤلات؛ خصوصًا حول أسباب التوجُّه الصيني نحو روسيا، وإمكانية بروز تحالف روسي صيني موجَّه ضد الولايات المتحدة الأميركية.

حيث وقَّع البلدان خلال الزيارة الأخيرة للرئيس بوتين إلى الصين صفقة غاز تاريخية، بلغت قيمتها حوالي 400 مليار دولار، تُزود روسيا بموجبها الصين بـ38 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً لمدة ثلاثين سنة؛ وذلك عبر الأنابيب انطلاقاً من الشرق الأقصى الروسي بحلول سنة 2018، واستغرق العمل لإبرام هذه الصفقة عدة سنوات من التفاوض؛ تعثَّرت مرَّات عديدة بسبب فشل الدولتين في التوصُّل لثمن يُرضيهما معًا، قبل أن يصل البلدان إلى هذا الاتفاق التاريخي.

وكانت روسيا والصين قد توصَّلتا إلى اتفاق آخر في مارس/آذار 2013، تعهَّدت بموجبه شركة روسنفت بزيادة صادراتها من النفط إلى الصين من 300 ألف برميل يوميًّا إلى حوالي 800 ألف في المستقبل القريب (لم يذكر الاتفاق تاريخًا محدّداً)[5] . وتضمن الاتفاق -أيضًا- مشاركة الشركة الوطنية الصينية للبترول في تطوير ثلاثة حقول بحرية في بحر بارنتس، وثمانية حقول نفطية في شرق سيبيريا؛ وستجني الدولتان مكاسب متعددة من خلال التعاون في مجال الطاقة؛ حيث سيُمكن هذا التعاون الصين من:

مواجهة خطر التلوث: الاعتماد على الغاز أصبح ضرورة قصوى في الصين؛ وذلك في ظل الجهود الكبيرة لبكين من أجل تخفيض اعتمادها على الفحم (حوالي 66% من الكهرباء تُولَّد باستعمال الفحم)[6]. وقد حدد المخطط الخماسي الثاني عشر (2011-2015) نسبة 15% كنسبة استهلاك الغاز من مجموع الاستهلاك الكلي للطاقة؛ وذلك للحد من التلوث، الذي تُعتبر الصين أول مسؤولة عنه في العالم، وهو تلوث يتسبب في مشاكل بيئية خطيرة تُلقي بظلها على الداخل السياسي للصين.

الاستجابة للطلب الداخلي المتزايد: تُشير التوقعات أن إنتاج الصين من الغاز لن يتجاوز 170 مليار متر مكعب؛ وذلك في حين سيتجاوز الطلب الداخلي 230 مليار مكعب سنة 2015[7]، وفي سنة 2030 سيصل استهلاك الصين اليومي من الغاز إلى 1.3 مليار متر مكعب[8]، وتُشير توقعات وكالة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن الصين ستستورد 75% من نفطها بحلول عام 2035، كما تُؤكد ذات الوكالة أن الصين لن تستطيع تحقيق ثورة في مجال الغاز الصخري على غرار ما حققته الولايات المتحدة إلا بعد سنوات، ولتلبية حاجاتها المتزايدة من الطاقة فإن الصين انفتحت على روسيا في مجال الطاقة، وستتمكن عبر الغاز الروسي من سد الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والطلب المتنامي على الطاقة.

وتهدف بكين -أيضاً- من خلال الصفقة تعزيز أمنها الطاقي؛ وذلك عبر تنويع مصادر إمدادات الطاقة وطرق التزوُّد بها:

اهتمام الصين بمصادر الطاقة الروسية يأتي في إطار استراتيجية بعيدة المدى لتنويع مصادر إمدادات الطاقة؛ فالصين تستورد حوالي النصف من حاجياتها من الطاقة، وتأتي معظم هذه الإمدادات من الشرق الأوسط، وبالنظر إلى الجو السياسي المضطرب في هذه المنطقة بفعل الربيع العربي وبعض المشاكل الإقليمية الأخرى؛ اضطرت بكين إلى البحث عن مصادر بديلة من بينها آسيا الوسطى وروسيا؛ لتتفادى الاعتماد على منطقة واحدة فقط، وتضمن بذلك تدفُّق الإمدادات بشكل مستقر.

تتوجَّه الصين إلى توفير إمدادات لا تمر عبر مضيق ملقا؛ الذي يُشَكل نقطة ضعف استراتيجية كبرى للصين؛ حيث يمرُّ عبر هذا المضيق حوالي 80%من واردات النفط الصينية، كما أن الولايات المتحدة منتشرة عبر كل مسالك الملاحة البحرية عبر العالم، وتُدرك الصين أن إغلاق المضيق أو فرض حصار بحري عليها من طرف القوى المعادية لها سيحول دون وصول حاجياتها من الإمدادات؛ لذا تُحَاول الصين توفير مصادر بديلة لا تمر عبر الخطوط البحرية[9]، وترى في روسيا المصدر الذي سيُوفر لها إمدادات الطاقة عبر البر، وسيتيح لها تجاوز أي حصار بحري محتمل.

والجدير بالذكر أن هذه الصفقة تعتبر ربحاً سياسياً للرئيس بوتين؛ ليُظهر أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على روسيا بسبب إلحاق الأخيرة لشبه جزيرة القرم لا تستطيع عزل دولة بحجم روسيا. كما ستسمح الصفقة بتوفير مصادر مالية مهمَّة ستساعد على تطوير البنية التحتية في الشرق الأقصى الروسي؛ فضلاً عن تنويع الأسواق الخارجية لروسيا بعيداً عن أوروبا، وتأمين موطئ قدم دائم للصادرات الروسية من الطاقة في السوق الآسيوية؛ التي تتزايد حاجياتها من الطاقة بفعل دينامكيتها الاقتصادية.

ومن المؤكد أن الصفقة تحقق مكاسب اقتصادية مهمَّة للبلدين، وتخدم مصلحتيهما في مجال الطاقة؛ لكن هذا البُعد ليس سوى وجه واحد من أوجه الشراكة الاستراتيجية، والتقارب غير المسبوق في تاريخ البلدين.

وتُشكل روسيا على المستوى العسكري أهم مزود للصين بالسلاح منذ أن فرضت الدول الغربية حظراً على مبيعات الأسلحة إلى الصين سنة 1989، وتمثل مبيعات السلاح الروسي أهم مصدر في عمليات التحديث الواسعة، التي عرفتها القوات البحرية والجوية الصينية في العقود الأخيرة؛ وتشمل المبيعات الطائرات المتطورة، والغواصات، والمدمرات، وصواريخ أرض-جو، والصواريخ المضادة للسفن، ونقل التكنولوجيا العسكرية والإنتاج المشترك لبعض من هذه الأسلحة؛ ومن المتوقع أن تتوصل الصين إلى اتفاق لشراء 24 طائرة من نوع سوخوي 35 إس المتطورة جداً، وأربع غواصات، ونظام الدفاع الجوي المتطور إس 400، ومن جهة أخرى تشكل المناورات العسكرية المشتركة دليلاً آخر على مدى قوة العلاقة بين البلدين؛ حيث بدأ البلدان سلسلة من المناورات العسكرية المشتركة منذ 2005، آخرها كانت المناورات البحرية المشتركة التي جرت بين 20 و26 من مايو/أيار 2014 في بحر الصين الجنوبي، وهذه المناورات جرت للعام الثالث على التوالي بعد مناورات إبريل/نيسان من 2012 في البحر الأصفر، ومناورات يونيو/حزيران 2013 التي جرت في فلاديفوستوك بروسيا.

من بين أهم الأهداف الاستراتيجية للصين حالياً هو إنشاء نظام اقتصادي وسياسي عالمي متعدد الأقطاب، والابتعاد تدريجياً عن النظام الحالي الذي ترى الصين أنه يخدم مصالح الدول الغربية؛ وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وبعد صعود روسيا كقوة عالمية بعد أكثر من عشرين سنة على انهيار الاتحاد السوفيتي، ترى الصين أن تقارباً مع روسيا سيخدم المصالح الصينية بشكل أكبر، ويظهر هذا جلياً من خلال تعاون البلدين على مستوى المؤسسات الدولية والإقليمية؛ حيث ينسق البلدان جهودهما في إطار مجموعة دول البريكس؛ التي تخطط لإنشاء بنك وصندوق مساعدات على غرار المؤسستين الماليتين الغربيتين: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي سياق آسيوي أنشأت الصين منظمة شنغهاي للتعاون لتوفير آلية للتعاون المشترك بين روسيا والصين (وباقي الدول الأعضاء في هذه المنظمة) في منطقة آسيا الوسطى، وترى الصين أن هذه المنظمة تُقدم نموذجاً للتعاون المتعدد الأطراف، وتُقدم رؤية تشاركية للأمن الإقليمي في آسيا الوسطى؛ وذلك على خلاف الرؤية الأحادية التي تتبناها واشنطن، والتركيز في تحالفاتها على الجانب الأمني فقط؛ كما تنشط الصين بتعاون مع روسيا في إطار “مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا” (CICA)؛ وهو مؤتمر يصل عدد الدول الأعضاء فيه إلى 26 عضواً (اليابان ليست عضواً فيه)؛ ويهدف إلى تعزيز التعاون والحفاظ على الأمن والسلام والاستقرار في آسيا كما تصفه الصين؛ لكن الهدف الحقيقي من ورائه هو بناء نظام أمني قاري لمواجهة التحالفات الأميركية واليابانية في آسيا.

تلتقي مصلحة الصين مع روسيا في مواجهة السياسات الأميركية الهادفة إلى “نشر الديمقراطية” و”تعزيز احترام الحريات وحقوق الإنسان”، وتغيير الأنظمة، واستعمال القوة لحل الخلافات؛ فالصين كما روسيا ترى أن احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أولى من نشر الديمقراطية على الطريقة الأميركية؛ وخير مثال على هذا هو استعمال روسيا والصين حق الفيتو مرة سنة 2011 ومرتين سنة 2012؛ وذلك لمنع الولايات المتحدة من اللجوء إلى الحل العسكري في سوريا؛ لأن الصين تعتبر أن ما يقع بداخل سوريا شأن داخلي، ولا يمكن أن يُسَوى إلا بحوار داخلي بين جميع أطراف الأزمة السورية، وأن الولايات المتحدة غير ملتزمة بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ بل تستعملهما كذريعة لتغيير الأنظمة المعادية لها، وقد استُعمل فيتو صيني/روسي رابع في شهر مايو/أيار 2014 لمنع إحالة الملف السوري على الجنائية الدولية، كما تتطابق المواقف الصينية مع نظيرتها الروسية في الملفين الكوري الشمالي والنووي الإيراني؛ حيث تتفق بكين وموسكو وواشنطن على ضرورة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل؛ لكن بكين وموسكو تفضلان الحوار كسبيل لذلك؛ في حين تميل واشنطن نحو استعمال القوة لتسوية القضيتين الكورية الشمالية والإيرانية[10].

صراع الكبار:

أمريكا و وروسيا ( قطع الشرايين):

مع ازدياد أهمية الغاز الطبيعي عالمياً، برز صراع من نوع آخر للتحكم بهذه السلعة الاستراتيجية، من خلال التحكم بمرور شرايين وأعصاب الطاقة الجديدة والمتجددة، وهذه الشرايين هي أنابيب الغاز العابرة القارات، والتي تزداد طولاً يوماً بعد يوم، حيث يتم يومياً إضافة عشرات الكيلومترات منها على سطح كوكب الأرض. وهذه الأنابيب صارت بمثابة(الشرايين للقلب ) للعديد من الدول وبخاصة لدول غرب أوروبا، وقد بدأت بالانتشار شرقاً في هضاب آسيا الشمالية والوسطى وسهولها. كما أنها وصلت خلال السنوات الماضية إلى أميركا اللاتينية حيث نمت القوة المحركة لصناعة الغاز الطبيعي المسال خلال العقد الأخير من القرن الماضي بشكل كبير، لكن الطلب العالمي على هذه المادة ما زال يتضاعف كل عشر سنوات نتيجة الاحتياجات المتزايدة. فمنذ مطلع القرن الحالي، وضع عدد من الخطط لتمديد أنابيب الغاز، منها ما بدأ تنفيذه، ومنها ما لا يزال قيد التخطيط. وقد كانت روسيا السباقة بتنفيذ بعض هذه الخطوط لتعزيز موقعها في سوق الطاقة الأوروبي على المدى البعيد، وكذلك قام الأوروبيون والأميركيون بوضع الخطط الاستراتيجية لتمديد أنابيب الغاز كخيار استراتيجي للحد من هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي والعالمي، لاعتبار الطاقة من نفط وغاز العصب والمحرك الاقتصادي لأوروبا ونهضتها الاقتصادية.

لذلك فإنه وفي إطار استراتيجيتها للسيطرة على تجارة الغاز، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع شركائها في حلف الناتو بوضع استراتيجية جيوسياسية لتحرير جمهوريات الفراغ السوفيتي من الهيمنة الروسية، وذلك عبر مد خط أنابيب يحمل اسماً رمزياً يعبر عن هدفه << نابوكو[11]>> عابر للقارات لنقل الغاز من أواسط آسيا إلى أوروبا ويتفادى المرور في روسيا ويكسر احتكارها لموارد جمهوريات الفراغ السوفيتي وطرق إمدادها، الأمر الذي سيقلص بدوره اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية، فهو يعتمد أساساً على تصدير الغاز الطبيعي من المزود تركمانستان، التي تملك رابع أكبر احتياطي غاز في العالم من خلال تمرير خط أنابيب عبر حوض قزوين يحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان دون المرور على الأراضي الروسية، ومنها إلى أرضروم في تركيا ثم سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر أراضي تركيا ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة Baumgarten an der March، في النمسا، وطول الأنبوب 2050 ميلا أو 3300 كيلو متر.

اتخذت الخطوة الأولى باتجاه تنفيذ هذا المشروع في 2002 بتوقيع بروتوكول بين شركات الغاز في دول العبور وانتهت دراسة الجدوى الاقتصادية و الفنية للمشروع في 2004، ولكن تم تعطيله ووقف العمل به حتى تم إحياؤه مجدداً عام 2009 بعد حيلة أمريكية نجحت في تحفيز الأوروبيين حين لجأت واشنطن إلى حلفائها الجدد في أوكرانيا للضغط على الغاز الروسي وفعلاً قطعت موسكو الغاز عن أوروبا أسبوعين، وبذلك تكون واشنطن قد أرسلت رسالة لأوروبا بضرورة عدم الاعتماد على الغاز الروسي، وبينما روسيا أرسلت رسالة بأن دول عبور الغاز هامة، وبالتالي حتى لو جاء الغاز من مكان ثاني فضربه سهل ونتج من هذه الحرب خروج البرتقاليين من السلطة برضاء أوروبا.

سارعت موسكو بالرد وكان رد موسكو عنيف جداً بعد الإعلان عن خط نابوكو، حيث أعلنت غاز بروم بأنها ستستثمر في مشاريع الغاز في دول أمريكيا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وحتى واشنطن ستجد نفسها تشتري الغاز من روسيا، وأعلنت روسيا عن أربع خطوط كبيرة لنقل الغاز وبدأت فعلياً بالعمل وهو كالتالي :

السيل الشمالي: يوصل الغاز من شمال روسيا إلى ألمانيا عبر البحر دون المرور ببر بيلاروسيا وبدأ تنفيذ هذا المشروع فعلياً، وبالتالي خف الضغط الأمريكي على روسيا البيضاء لأن إسقاط بيلاروس لن يفيد بعد الآن بوقف إمداد الغاز.

السيل الجنوبي: ويوصل الغاز عبر البحر الأسود إلى بلغاريا ومنها يتوزع ذلك الخط عبر رومانيا هنغاريا النمسا وجنوباً عبر اليونان وإيطاليا، وقد تم إنجاز معظم الاتفاقيات لمد هذا الخط.

السيل الأزرق: وهو يوصل الغاز عبر تركيا ومن ثم سوريا والأردن لمد الأردن وإسرائيل بالغاز، مما يثبت أن موسكو لم تكن تعلم بوجود الغاز في المتوسط، وقد تم إلغاء هذا الخط فعلياً بعد أن علمت باحتياطات الغاز في المتوسط، وقامت مصر بمد خط الغاز العربي وذلك لتصدير الغاز إلى كل من الأردن وفلسطين و سوريا فيما بعد.

أفريكان ستريم: خط غاز من نيجيريا إلى النيجر فالجزائر لتسييل الغاز ونقله إلى أوروبا، ولاحقا يتم مد أنبوب إلى أوروبا . وفي سبيل إنجاحه قامت غاز بروم الروسية بالاستحواذ على نصف حصة شركة ايني الإيطالية في ليبيا وبدأت بالاستثمار في السودان، كما زار بوتين مصر على أمل الاستثمار في مجال الغاز الطبيعي بمصر.

خارطة تظهر امتداد خطي الغاز الروسيين (السيل الشمالي والسيل الجنوبي ) والخط الامريكي نابوكو

المصدر: globalresearch

http://www.globalresearch.ca/the-russia-turkey-energy-axis-putin-has-chosen-the-middle-east-over-europe/5417836

سياسة السيطرة على أنابيب نقل الغاز جعلت المواجهة حتمية بين روسيا وأمريكا، تلك المواجهة القائمة على تقطيع كل طرف لأوصال أنابيب الطرف الآخر بشتى السبل (السياسية والعسكرية) وتجفيف منابع تغذية تلك الأنابيب، ولفهم خريطة تلك المواجهة وتدرجها عبر مناطق العالم علينا أن نعي جيداً خارطة توزع أكبر احتياطيات من الغاز بحسب المناطق الجغرافية وليس الدول:

جدول رقم (3): احتياطي الغاز الطبيعي حسب المناطق الجغرافية في العالم 2006

المنطقة الاحتياطي (تريليون قدم مكعب) النسبة %
الشرق الأوسط 2565 41.9
أوراسيا 1953 31.9
إفريقيا 486 7.9
آسيا 392 6.4
أمريكا الشمالية 265 4.3
وسط وجنوب أمريكا 251 4.1
أوروبا 201 3.2

Energy information administration (EIA), international energy outlook 2006, chapter4 natural gas .

نلاحظ من الجدول بأن الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي لعام 2006 يبلغ 6112 تريليون قدم مكعب، تحتوي منطقة الشرق الأوسط على النسبة الأكبر من هذا الاحتياطي 41.9%، فيما تأتي منطقة أوراسيا (المطلة على قزوين) في المرتبة الثانية من حيث حجم الاحتياطي العالمي والذي يشكل ما نسبته 31.9%، أما إفريقيا فتحتل المرتبة الثالثة من حيث الاحتياطي العالمي لهذه المادة حيث يشكل ما نسبته 7.9% .

وهذا الترتيب يوضح إلى حدٍ ما تدرج الصراع على الغاز بين روسيا وأمريكا، ولكن ليس بحسب الاحتياطيات فقط، بل بحسب المناطق المنتجة فإن كان الشرق الأوسط يحوي أكبر احتياطيات من الغاز فإن انتاجه هو الأضعف لافتقاره إلى الاستثمارات مما يأخره إلى آخر قائمة الصراع على هذا المورد .

أوراسيا:

أعطيت الأولوية في الصراع لمنطقة أوراسيا وبخاصة تركمانستان وأذربيجان التي بني المشروع الأمريكي نابوكو على ما تحويه من غاز طبيعي، مما استوجب الرد الروسي الفوري في تلك المنطقة كونها تعتبرها مجالاً حيوياً لنفوذها:

بحر قزوين:

مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 بدأ التنافس على حوض بحر قزوين بين ثلاث قوى دولية وإقليمية كبيرة: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإيران، وغاية كل من هذه الدول نيل حصة أكبر من كعكة النفط والغاز، وملء الفراغ الاستراتيجي في الجمهوريات السوفيتية السابقة. وقد اشتد هذا التنافس في العقد الماضي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، بسبب زيادة الطلب على الطاقة من الدول الصاعدة كالصين، ومعاناة الدول الأوروبية من توقف إمدادات الغاز من روسيا بسبب أزماتها مع دول الجوار.

الولايات المتحدة:

سارعت أميركا ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل إلى خوض الصراع في هذا الإقليم على ثلاث جبهات:

الأولى: جبهة الاقتصاد والتجارة بهدف السيطرة على ثروات بحر قزوين، وبناء شبكة من الأنابيب لنقل النفط والغاز إلى أوروبا، دون المرور بالأراضي الروسية أو الإيرانية. وقد مولت الولايات المتحدة إنشاء خط أنابيب جديد لنقل الطاقة لا يمر بالأراضي الروسية. يبدأ هذا الخط من باكو بأذربيجان مروراً بتبليسي في جورجيا ليصب في ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. وقد بدأ هذا الخط بالعمل في العام 2006[12].

كما تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتوسيع شبكة الأنابيب هذه لتتمكن أيضاً من نقل النفط والغاز من ميناء أكتاو في كازاخستان، من خلال خط يمر تحت بحر قزوين؛ الأمر الذي يستلزم قانونياً موافقة روسيا وإيران على المشروع.

والجبهة الثانية: باستخدام ورقة السياسة والدبلوماسية والاقتصاد لبناء التحالفات مع الدول الثلاث الجديدة التي ظهرت على شواطئ بحر قزوين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مستفيدة على هذا الصعيد من رغبة هذه الدول في الخلاص من السيطرة الروسية من جهة، ومن خلافاتها مع الجار الايراني من جهة أخرى. ورأت هذه الدول أنه ليس من مصلحتها تمكين إيران من أن تكون الطريق الرئيسي لتصدير مواردها النفطية. واستفادت الولايات المتحدة أيضاً من الخلاف بين إيران وأذربيجان بسبب دعم طهران لجمهورية أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان حول إقليم “ناغورني كاراباخ”، ودفعت واشنطن باستثمارات هائلة تعدت العشرين مليار دولار في قطاع النفط لأذربيجان في بحر قزوين، حتى تحثها على الاستمرار في موقفها المضاد لإيران حول تقسيم ثروات البحر[13].

الثالثة: كانت بالحضور العسكري المباشر؛ حيث أقامت أميركا تحت عنوان مكافحة الإرهاب قواعد عسكرية في المنطقة الممتدة ما بين البحر الأسود مروراً ببحر قزوين وصولاً إلى حدود الصين. ويذكر تقرير لوزارة الخارجية الأميركية صدر في مارس/آذار 2011 أن “الولايات المتحدة تُدخل بحر قزوين في قائمة أولويات سياستها، وتستمر في مساعدة دول المنطقة على تأمين بحر قزوين من خلال تقوية جيوشها، وعلى الأخص أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان” [14]. أما التقرير الاستراتيجي لمجلس الأمن القومي الأميركي لعام 2011  فيؤكد على “ضرورة الاهتمام بأذربيجان كنقطة انتشار للقواعد والقوات العسكرية الأميركية في البحر وعلى اليابسة، نظراً لموقعها العازل بين روسيا وإيران، ويربط التقرير بين بحر قزوين في الشمال والخليج في الجنوب كنقطتي حصار على إيران”.

روسيا:

تسعى موسكو لمد نفوذها في جغرافيا غنية بموقعها وثرواتها كانت إلى وقت قريب جزءاً من حدودها الطبيعية، وتعتبر روسيا الحضور الأميركي والغربي في هذه المنطقة الاستراتيجية تهديداً لمكانتها وأمنها، ومحاولة لاحتوائها وتطويقها. ولهذا السبب تدعم موسكو مواقف أذربيجان وكازاخستان في خلافهما مع إيران، رغم أن علاقات روسيا وطهران تشهد تطوراً مطرداً. والجدير بالذكر أن روسيا منافس قوي لإيران على الطاقة في بحر قزوين وخطوط تصديرها.

لذلك بنت روسيا أيضاً لمواجهة الاستراتيجية الأمريكية استراتيجية مضادة طويلة الأمد، تهدف لتطويق الخط الأمريكي لنقل غاز قزوين إلى أوروبا عبر تجفيف منابعه وقطع خطوط عبوره جغرافياً، بالاعتماد على ثلاثة محاور (قانونية- اقتصادية- عسكرية) وهي :

  • القانونية: أثارت روسيا موضوع الصفة القانونية لبحر قزوين وتبنت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجددة بمياه أنهار الفولجا وبناء على ذلك فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به كما ينص القانون الدولي على ذلك، هذا المحور من الاستراتيجية الروسية جعل من المستحيل، ليس فقط إنشاء خط أنابيب الغاز عبر حوض قزوين، بل حتى تطوير تركمانستان أو أذربيجان لأية حقول غاز على سواحل حوض قزوين في ظل هذا التعريف، إلى أن يتم الاعتراف به كبحر.
  • الاقتصادية: بناء قوة روسيا الاحتكارية في شراء كامل الغاز المنتج في أواسط آسيا وبالتالي احتكار بيعه عن طريقها وعبر أنابيبها العابرة للقارات، فإضافة إلى كونها تمتلك أكبر احتياطي للغاز في العالم حيث تمتلك 47 في المائة وتعتبر المنتج الأكبر لهذه السلعة الاستراتيجية (29 في المائة)، دخلت روسيا في عقود شراء غاز طويلة المدى من كل حكومات الدول المفترض منها ضخ الغاز في خط أنابيب نابوكو، كتركمانستان التي تنتج حالياً نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، وقامت روسيا بشراء أكثر من 50 مليار متر مكعب في عقود طويلة الأجل.

كما دخلت بعقود شراء طويلة الأجل مع أوزبكستان التي لديها احتياطي قدره 1.8 مليار متر مكعب من الغاز، حيث قامت روسيا بشراء كامل إنتاجها من الغاز في عقد طويل الأجل ينتهي عام 2018، وفي ضوء ذلك انسحبت تلك الدول من أي تعهد لإمداد «نابوكو»، وأعلنت تركمانستان من جانبها أخيراً أنه حتى ولو بعد تطوير حقولها الغازية ووجود فائض في الغاز المنتج عن تلبية تعهداتها لروسيا والصين فلن تبيع الغاز لخط أنابيب نابوكو, كما أن أذربيجان التي يعول عليها كثيراً بعد انسحاب تركمانستان من إمداد النسبة الأكبر من الغاز المنقول إلى أوروبا، دخلت هي الأخرى في تعهدات مع روسيا بعقود بيع طويلة المدى، حيث وقعت روسيا معها في حزيران 2009، اتفاقاً لشراء حصة كبيرة من غازها، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها ستبيع الغاز لـ «نابوكو» إذا وجد فائضا لديها.

إلا أن محدودية الغاز المتاح للتصدير لا يعول عليه مما زاد من الغموض في الجهة التي يعتمد عليها في ملء أنبوب غاز «نابوكو».

أما الشق الثاني من هذا المحور الاستراتيجي فهو قيام روسيا بتوطيد علاقاتها مع الدول المالكة لثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم، وتمخض عن تلك الجهود الروسية المدروسة بإنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز بينها وإيران التي تملك ثاني أكبر احتياطي وقطر التي تملك أكبر حقل غاز في العالم، وتضم أراضيها كميات من الغاز تضعها في المركز الثالث من حيث الاحتياطيات العالمية بعد روسيا وإيران، إن خطوة إنشاء هذه المنظمة التي تضم أول وثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم هي خطوة زادت من تقوية موقع روسيا على ساحة الطاقة الدولية ووسيلة جديدة في بسط نفوذها الدولي في مجال الغاز[15].

  • العسكري: روسيا المنتشية بانتصاراتها اللاعنفية وجدت نفسها مضطرة للانجرار وراء التكتيكات الهجومية الأمريكية واللعب بنفس الطريقة للدفاع عن نفسها فقامت بالرد في أوكرانيا وأياً كانت الذريعة المعلنة لتلك الحرب فقد قطعت أي تفكير لتمرير أنابيب غاز عبر أوكرانيا بعيداً عن الأراضي الروسية فمنذ ما يقرب من عقد, وُضعت مخططات لنقل الغاز الأذري, التركماني و الإيراني إلى أوروبا من خلال خطوط غاز تعبر البحر الأسود عبر الأراضي الجورجية و الأذرية (متفادية روسيا). على الرغم من هذه المشروعات لم تكن حينها قابلة للتحقق لصعوبات سياسية و مالية. مع ذلك, كان من الممكن إحياء هذه المشروعات بعد اتفاق جنيف مع طهران و لكن بضم روسيا لجزيرة القرم أصبحت هذه الخطط غير قابلة للتحقق نهائياً و ذلك لأن أوكرانيا كانت إحدى الممرات الاستراتيجية المقترحة لهذه الخطوط و التي لا يمكن إيصال الخطوط لها دون العبور على جزيرة القرم ناهيك عن الخوف الجورجي من العبث مع موسكو بعد تجربة حرب الخمسة أيام في أوسيتيا الجنوبية 2008. و بذلك حققت روسيا مكسباً جيو – استراتيجياً بالاستحواذ على القرم. والأهم من ذلك أنها بعثت برسائل لكافة الدول السوفيتية السابقة وبخاصة الأوراسية منها والتي كانت تعول أمريكا على تركمانستان وأذربيجان منها لملء نابوكو بأن أي تغريد خارج السرب الروسي سيتم الرد عليه عسكرياً وبشكل مباشر الأمر الذي حدا بدول أوراسيا للاستسلام لبوتين والدخول معه في اتحاد اقتصادي هو الاتحاد الأوراسي الذي تم لإعلان عنه مطلع 2015 . وبذلك يكون بوتين قد قطع الطريق ليس على الطموحات الأوروبية والأمريكية فقط في منطقة قزوين بل وعلى الطموحات الإيرانية للتمدد في تلك المنطقة  .

إيران:

تمثل آسيا الوسطى مجالاً حيويًا لإيران، ولاشك في أن تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال الدول الإسلامية التي تربطها بإيران علاقات تاريخية وثقافية، كان فرصة لطهران كي تتجاوز الحصار والعقوبات المفروضة عليها، إلا أنها لم تستفد منها؛ فقد توترت العلاقات بين إيران وجارتها الشمالية أذربيجان بسبب الصراع الأذربيجاني-الأرميني حول إقليم “ناغورنو كاراباخ”، كما تعقدت الأمور كثيراً بين إيران وكازاخستان، نتيجة الخلاف حول تقسيم ثروات بحر قزوين، ثم استمرت بين مد وجزر. وبحسب العديد من المحللين الإيرانيين فإن العملاقين: الروسي والأميركي يمنعان تنامي علاقات إيران بجيرانها من الدول الإسلامية، لمنع تنامي قوة الجمهورية الإسلامية الاقتصادية والسياسية في موقع استراتيجي ذي أهمية جيوبوليتيكية[16].

أفريقيا:

نجحت الاستراتيجية الروسية في أوراسيا نجاحاً باهراً، وبالفعل سخر الروس في أكثر من مناسبة من المشروع الأمريكي نابوكو بعد أن أفقدوه مصادر الغاز وطرق العبور، ولكن النجاح الروسي لا يمكن أن يمر بدون رد من الأمريكان وبنفس الطريقة فاختاروا ضرب خط أفريكان ستريم الذي تهدف روسيا عبره للسيطرة على غاز أفريقيا وكان للأمريكان ما أرادوا عبر التالي:

ففي عام 2009 وقّعت شركة “غاز بروم” الروسية اتفاقا مع الدولة النيجيرية صاحبة تاسع أكبر احتياطي من الغاز في العالم بقيمة 2,5 مليار دولار لبناء مصافي غاز وأنابيب نقل ومحطات توليد طاقة فيها وذلك بهدف تصدير الغاز نحو أوروبا بواسطة خط أنابيب يمر عبر ليبيا وصولا إلى أوروبا من خلال إيطاليا التي وافق رئيس وزرائها (برلسكوني) على بيع 50 في المئة من شركة “إيني” البترولية الإيطالية لروسيا والمفارقة أنه تم عزله بعد ذلك مباشرة.

كما أنه لم يكن من قبيل “الصدف” أن تبدأ جماعة “بوكو حرام” الإسلامية المتطرفة في نيجيريا أولى عملياتها الارهابية في السنة ذاتها التي وقعّت فيها “غاز بروم” عقدها مع الحكومة النيجيرية وهو ما جعل أمر إنشاء خط الأنابيب هذا مستحيلاً.

الشرق الأوسط: (الجائزة)

ذكرنا سابقاً في معرض تعليقنا على الجدول رقم (3) أن الشرق الأوسط يأتي في مقدمة مناطق العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي، لكنه يتذيل قائمة الأولويات في الصراع الدولي على هذه المادة، حيث ما تحويه تلك المنطقة من ثروة قياساً بحجم إنتاجها الذي بلغ في العام 2010 (14.2) تريليون قدم مكعب أي ما نسبته (12.2%) من الانتاج العالمي ومن المتوقع أن يزداد هذا الانتاج ليصل إلى (19.8تريليون قدم مكعب) أي ما نسبته (13.2%) من الانتاج العالمي[17]، يدل على الضعف الكبير في استثمار الغاز الطبيعي، وهذا عائد لجملة أسباب منها:

  • قلة الإنتاج وهي راجعة إلى ضعف الاسثمارات في بعض الدول ذات الاحتياطي الكبير ومنها الجزائر والتي تنتج بنسبة 50% من قدرتها إضافة لإيران التي تمنعها العقوبات من امتلاك المعدات اللازمة .
  • حداثة الاحتياطيات المكتشفة في المنطقة وبخاصة شمال إفريقيا وشواطئ المتوسط (سوريا، لبنان، إسرائيل، غزة)
  • التوترات السياسية والصراعات الدائرة في المنطقة ووجود أنظمة دكتاتورية غير مستقرة في دولها مما يجعل الاعتماد عليها بشكلها الحالي كممر آمن للطاقة صعباً .

حجم الاحتياطيات الموجودة في المنطقة يجعلها جائزة الصراع العالمي على الغاز الطبيعي، حيث المنتصر سيكون المسيطر على تجارة هذه المادة عالمياً، لذا ستذلل كل العقبات التي ذكرناها سابقاً والتي تمنع الاستثمارات، حتى وإن كلف الأمر تغيير شكل المنطقة لتصبح أكثر استقراراً وأمناً كمصدر للطاقة.

شمال إفريقيا: (ربيع الغاز ومقصلة الأنظمة)

وفق تقرير لوكالة الطاقة الدولية صادر في العام 2011، بدأ العالم يدخل فيما أطلق عليه التقرير “عصر الغاز الذهبي”، لذلك فإن أمن الطاقة (المنبع وطرق العبور) أصبح في قلب استراتيجيات الأمن القومي لكل الدول المستهلكة وهي الدول الصناعية الكبرى والتي بات الغاز يشكل عصب اقتصاداتها، لذلك فلم يعد من الممكن وبخاصة بعد توظيف روسيا لورقة الغاز سياسياً السماح بوجود أنظمة في الدول المنتجة تشكل ذات التهديد الروسي أو تكون غير مستقرة سياسياً وفاقدة للشرعية لدى مواطنيها بالشكل الذي يولد توترات تؤثر على إمداد الغاز منها .

لذلك كانت البداية من شمال إفريقيا (مصر، السودان، تونس، الجزائر، المغرب) لسببين: أولهما: استكمال تقطيع أوصال خط أفريكان ستريم الروسي.

ثانيهما: لما تحويه المنطقة من احتياطي غازي كبير تم الكشف عنه في ليبيا وتونس والمغرب وفي منطقة الصحراء الغربية[18].

جدول رقم (4): احتياطي الغاز الصخري في شمال إفريقيا

الدولة الاحتياطي المؤكد والقابل للاستخراج في شمال إفريقيا(تريليون قدم مكعب)
الجزائر 707
ليبيا 122
مصر 100
تونس 23

المصدر: احتياطي الغاز الصخري في شمال إفريقيا، إدارة الطاقة الأمريكية[19]

 

رؤوس تحت المقصلة:

تونس: يعتبر نظام بن علي في تونس أحد الأنظمة الدكتاتورية ذات المستقبل المهدد والغير مستقر، لذلك فإنه لا يعول عليه في حماية أمن الطاقة المرتقب ظهورها في تونس، لذا فإن الإطاحة به وبناء نظام شرعي أكثر استقراراً يحقق أمن الطاقة أكثر من بقائه خصوصاً وأن الفراغ الذي سيتركه يعتبر الإخوان المسلمون ( سيناريو يتكرر في عدة دول) الأقرب لتركيا وخيار الإسلام المعتدل بالنسبة للغرب، أما عن التحول السلس وسهولة الإطاحة به فهي عائدة لعدة اعتبارات منها تركيبة النظام نفسه المفككة والتي تفتقد إلى تحالفات إقليمية وتعاون بعض أعضاء النظام لإسقاطه والأهم من ذلك قرب تونس من أوروبا والرغبة في عدم إثارة أي قلاقل في هذه المنطقة حفاظاً على أمن أوروبا وأمن جوارها المغرب والجزائر والتي سنذكرها في استعراضنا لتلك الدول، فالدور الممنوح لتونس هو دور إشعال الشرارة التي ستشعل دولاً أخرى .

ليبيا: كان نظام القذافي ضحية مغامراته السياسية التي لا تنتهي، ومنها موافقته على أن تكون ليبيا  منتهى خط أفريكان ستريم الروسي ومحطة توصله عبر لأوروبا عبر إيطاليا، إضافة إلى أن ملك ملوك أفريقيا يعد من أعتا دكتاتوريات المنطقة وكان يهيئ ولده سيف الإسلام ليورثه الحكم وهذا ما يجعل بقاءه مستحيلاً بالنسبة لأمن مصادر الطاقة، ويفضل استبداله بالإخوان المسلمين .

مصر: نظام مبارك وإن كان موالياً للغرب وإسرائيل إلا أن الحالة الصحية المتردية لمبارك ونيته في توريث ولده علاء، والاحتجاجات التي كانت تسود الشارع المصري على هذه الخطوة جميعها مؤشرات تدل على عدم قدرته على حماية أمن الطاقة المنشودة كمصدر للغاز وممر لعبورها، لذلك فإن نظاماً منتخباً يقوده الإخوان المسلمون (الحلفاء الجدد) كان يبدو بالنسبة للغرب وتركيا وقطر أكثر استقراراً لمصالحها، بالإضافة للمصالح الإسرائيلية المتمثلة في خلق حالة من الفوضى في مصر تأخر بالنسبة لها معركة قد تكون وشيكة على ترسيم الحدود البحرية في المتوسط مع مصر وسوريا ولبنان بعد اكتشاف احتياطيات ضخمة في تلك المياه .

الناجون:

المغرب: لم تكن نجاة النظام المغربي من الربيع العربي عائدة لكونه نظاماً ديمقراطياً، وإنما لحالة مرتبطة بنجاة جميع الملكيات العربية من هذا الربيع، كون أي ملكية ستسقط يمكن أن توصل رياح هذا الربيع العاصفة إلى الخليج العربي، لذلك انضم المغرب و الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي في إطار تشكيل تحالف ملكيات يحمي نفسه من رياح هذا الربيع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الملكيات أكثر شرعية لدى الشعوب من الأنظمة الانقلابية وقد تجدي بعض الإصلاحات الدستورية في امتصاص غضب الشارع و يا حبذا إذا أوصلت تلك الإصلاحات الإخوان المسلمين، وهو ما حدث فعلاً في المغرب في الانتخابات التي أعقبت تعديل الدستور في 2011، والتي أوصلت حزب العدالة والتنمية النسخة المغربية إلى تشكيل الحكومة التي ترأسها عبد الإله بنكيران .

الجزائر: تعتبر الجزائر ثاني أكبر مصدر للغاز إلى أوروبا بعد روسيا وإليها تتطلع عيون الأتراك للخروج من مأزق اعتمادهم على الغاز الروسي والإيراني بنسبة 80%، حيث صرحت الحكومة التركية غير مرة أن طلبياتها من الغاز الجزائري المسال مفتوحة وتتعلق فقط بقدرة الجزائريين أنفسهم الإنتاجية، لذلك فإن خلق أي فوضى في هذا البلد لن يكون في صالح أوروبا وتركيا خصوصاً من جهة جبهة الإنقاذ الإسلامية المتشددة والمتربصة بالحكم، أما من حيث تركيبة النظام فما الأفضل للأصحاب المصالح الطاقية من نظام يقوده عجوز بكرسي مدولب والحاكم الفعلي هو ائتلاف من الجنرالات ورجال الأعمال الذي يقدمون مصالحهم عن أي شيء آخر.

سوريا (مأزق الجغرافية):

إن تعاطي الدول مع أي ملف أزمة في دولة ما، يستند دائماً إلى مدخل سياسي بحت، يطغى على كل المداخل الأخرى الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية التي تفسر المصالح الرئيسية لتلك الدول في التدخل بشؤون غيرها.

إذ تغيب كل المداخل المصلحية في الأجندة المعلنة لصالح المدخل السياسي، الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على الخطاب الرسمي المعلن للدول والذي يشكل بدوره سردية تعنى بحقوق الشعوب ودعم تطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية .

تلك المصالح المغيبة، هي ذاتها الأسباب الخفية التي تحتمل مئات التأويلات حول تعقد أي ملف، واستمرار أي صراع وارتفاع فاتورته البشرية والمادية. في الحالة السورية أعطيت عشرات التأويلات المختلفة لتفسير استعصاء هذا الملف على الحل وازدياد تعقيده مع ازدياد عمره، ولكن على اختلاف تلك السرديات التأويلية نجد المشترك بينها هو الموقع الجغرافي لسورية وأهميته، ولكن دون توضيح دور الجغرافية في الصراع وتعقيده وبيان مصالح دول الجوار و الإقليم في فيه، لذا سنحاول في هذه الفقرة ربط المصالح الدولية بالإقليمية وخلط الجغرافية بالسياسية لتقديم سردية جديدة، جيو سياسية تسعى لفك خيوط المصالح المتشابكة وتركيب أجزاء الصورة لتقديم رؤيا متكاملة حول الأزمة السورية من مدخل الجيوبولتيك .

في سورية أعلنت وزارة النفط و الثروة المعدنية السورية (2011)، أن الشركة السورية للنفط حققت اكتشافاً جديداً للغاز في منطقة قارة حيث بينت نتائج الاختبارات لبئر قارة (1) الذي يقع غرب بلدة قارة بحدود 6 كم وتم حفره إلى عمق 3113 متراً، أن البئر تحقق إنتاجية تقدر بـ 400 ألف متر مكعب غاز إضافة إلى 560 برميلاً مكثفات باليوم. وإن مساحة التركيب الحاملة للغاز تقدر بـ 25 كيلومتراً مربعاً ويقع هذا التركيب في حوض الدو في المنطقة الوسطى حيث تم اكتشاف العديد من التراكيب، أهمها تركيب أبو رباح وشمال الفيض وقمقم، والتي وضعت بالإنتاج عام 2009 تحت اسم مشروع جنوب المنطقة الوسطى، ويقدر الاحتياطي القابل للإنتاج في هذا التركيب بـ 47 مليار متر مكعب غاز إضافة إلى 21 مليون برميل مكثفات. كما تم اكتشاف عدد من التراكيب الجديدة في هذا الحوض وهي في منطقة صدد، والبريج، وقارة، ودير عطية، وفرقلس، حيث يقدَّر الاحتياطي القابل للإنتاج في هذه التراكيب بـ24 مليار متر مكعب إضافة إلى 22 مليون برميل مكثفات، كما يقع في هذا الحوض تركيب الرشيفة الذي يتبع لشركة إيبلا، وتركيب جهار الذي يتبع لشركة حيّان للنفط. إنَّ الاكتشافات الجديدة تفتح مجالاً واسعاً لتحقيق مزيد من الاكتشافات في منطقة القلمون، حيث تعمل الشركة السورية للنفط على متابعة أعمال الحفر في هذه المناطق، إضافة إلى إجراء مسوحات نوعية إضافية في المناطق الممتدة بين دير عطية وحتى جنوب بلدة القسطل، لزيادة الاحتياطي الجيولوجي القابل للإنتاج. مع العلم أن وزارة النفط في سورية افتتحت مشروع استثمار غاز حقل صدد 60 كم جنوب شرق مدينة حمص الذي ينتج نحو مليون متر مكعب يومياً من بئري صدد1، وصدد 3، ويحوي كميات تجارية من الغاز الطبيعي تقدر بحوالي 12 مليار متر مكعب كاحتياطي مؤكد قابل للإنتاج. كما يشار إلى أننا في سورية قد أنتجنا من الغاز الحر والمرافق 483، 5 مليارات متر مكعب بمعدل يومي 29، 30 مليون متر مكعب بزيادة قدرها 009، 3 ملايين متر مكعب في اليوم عن إنتاج النصف الأول لعام2010 [20].

وتشكل الاكتشافات الحديثة نقطة أساسية في مستقبل خارطة الطاقة لسورية، فحوض شرق البحر المتوسط, ويعرف باسم الحوض المشرقي (Levantine)، يشغل غرب الشاطئ الفلسطيني ولبنان وسوريا حتى غرب اللاذقية، واكتشفت فيه حقول للغاز غرب حيفا أهمها حقل ليفياتان. وكان هذا الحوض مثار اهتمام الاستكشافيين السوريين منذ بداية الخطة الخمسية الثالثة، وأجريت فيه مسوح بحرية قبالة الشواطئ السورية عن طريق سفن أبحاث روسية وفرنسية وفرق جيوفيزيائية أجنبية، واكتشفت فيه بنى جيولوجية ضخمة أهمها حافة طرطوس وحافة اللاذقية.

 

المصدر: وكالة الطاقة الأمريكية Levant Basin.pngː www.eia.gov

يتوقع محللو الطاقة إمكانية اكتشاف الغاز الطبيعي والنفط في هذه المنطقة الواقعة شرقي البحر المتوسط، والتي تشكل الجزء الشمالي من “حوض بلاد الشام” حيث توقعت دراسة أجرتها “هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي” في عام 2010 أن المنطقة تحتوي على ما يصل 1.7 مليار برميل من النفط و122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي الذي يمكن ضخه.

وقد تم اكتشاف نحو 35 تريليون قدم مكعب قبالة ساحل إسرائيل و5 تريليون قدم مكعب أخرى قبالة ساحل قبرص. وسوف تبدأ عمليات الحفر البحرية للتنقيب عن النفط قبالة ساحل إسرائيل خلال 2014. حيث أعلنت شركة “نوبل إنرجي”، وهي الشركة الأمريكية التي تقود تحالفاً مع شركات إسرائيلية، عن توقعها اكتشاف نحو 1.5 مليار برميل من النفط والغاز السائلين في حقل تحت قاع البحر في المنطقة الاقتصادية الحصرية لإسرائيل ورقم مماثل لحقل في المنطقة الاقتصادية الحصرية لقبرص.

ي 25 كانون الأول2013 تم التوقيع على اتفاق بين روسيا وسوريا يسمح بالتنقيب والحفر في منطقة قبالة الساحل السوري. وإذا تم اكتشاف النفط أو الغاز الطبيعي، فإن المجموعة الروسية “سيوزنفتاغاز” التي تسيطر عليها الدولة سوف تمتلك حصة مسيطرة لمدة خمسة وعشرين عاماً. ولا تذكر التقارير قيمة ما دفعته الشركة مقابل الرخصة، كما لا تشير إلى ما إذا كان قد تم تقديم أي عروض منافسة أخرى. وقالت وكالة الأنباء السورية إن “سيوزنفتاغاز” سوف تستثمر 15 مليون دولار لتغطية تكاليف الدراسات المسحية و75 مليون دولار أخرى لأعمال الحفر الأولية.

وهذا الامتياز هو الأول الذي يتم التوقيع عليه ويتعلق بالمناطق البحرية الواقعة قبالة ساحل سوريا على البحر الأبيض المتوسط.

وتفيد التقارير بأن الاتفاقية الجديدة بين روسيا وسوريا تتعلق بمنطقة تبلغ مساحتها 845 ميلاً بحرياً مربعاً وهي جزء من منطقة “البلوك 2” الأكبر، التي تقع تقريباً بين مينائي بانياس وطرطوس السوريين. ولم تتوصل سوريا إلى اتفاقات بشأن حدودها البحرية مع جيرانها – قبرص وتركيا ولبنان – لكن “البلوك 2” لا يجاور في الجنوب ما يمكن أن تعتبره لبنان مياهها كما أنه غير متاخم للساحل التركي في الشمال. ومع ذلك، فإن المنطقة قد تتعارض مع المزاعم التركية بشأن قبرص، والتي لا تعتبرها أنقرة أكثر من كونها مياه إقليمية تمتد اثني عشر ميلاً بحرياً من الساحل [21].

على الرغم من أن مشاركة موسكو في أنشطة الطاقة البحرية السورية تأتي ظاهرياً ضمن إطارات فنية وتجارية، إلا أنه لن ينظر إليها على أنها حسنة النية. وسوف تلبي هذه الأنشطة مصلحة أصيلة لروسيا، فضلاً عن أنها ستجعل التوصل إلى حل للحرب السورية أكثر صعوبة.

ترى واشنطن أن المشاركة الروسية في تطوير الطاقة البحرية في سوريا غير مجدية، لذا كانت السياسة الأمريكية تقوم على تشجيع تطورات الطاقة في المياه الواقعة قبالة ساحل إسرائيل وقطاع غزة (حيث تمتلك السلطة الفلسطينية في رام الله حقل غاز غير مستغل) وقبرص ولبنان. وقد بذلت واشنطن الكثير من الجهود الدبلوماسية لتخفيف حدة النزاعات المحتملة، على الرغم من إرجاء أعمال التنقيب البحرية في لبنان، وهي القضية الأكثر إثارة للنزاع حتى الآن، بسبب غياب اتفاق سياسي داخلي في بيروت.

إن اكتشافات الغاز الطبيعي في شرقي البحر الأبيض المتوسط، والتي تعد كبيرة من المنظور الإقليمي رغم كونها صغيرة من المنظور الدولي، لا تزال قادرة على تقويض الوضع المهيمن لروسيا كمورد للغاز الطبيعي إلى غرب أوروبا، لذلك فإن موسكو لن تسمح بذلك كما لن تفوت منطقة غنية بالغاز تفوتها دون قتال لذلك تعد سوريا الأسد موطئ قدم لها عسكرياً وسياسياً وطاقياً على ساحل المتوسط، ودعم بشار الأسد بالنسبة لها اليوم لم يعد دعم نظام حليف وإنما دعم محور (إيران، نظام الأسد، حزب الله، حماس) يسيطر على غاز شرق المتوسط، والذي تأمل موسكو بإلحاقه بأنبوب السيل الجنوبي ليصل إلى أوروبا عبر تركيا وبذلك تحكم الخناق على أوروبا .

أمريكا التي تبحث عن مصدر لملء أنبوبها (نابوكو) بعد خسارتها لغاز بحر قزوين لن تسمح بخسارة منطقة أخرى غنية بالغاز لصالح روسيا، ومشروعها أساساً من وجهة نظرها ونظر الأوربيين ما زال يعد استراتيجياً مهماً على صعيد المواجهة مع روسيا وتحجيم مناوراتها إقليمياً، كما أن هذا المشروع الاستراتيجي يلبي رغبة الاتحاد الأوروبي في إسقاط ما يعدّه الأوروبيون ورقة مبيعات الغـاز من يد روسيا.

بالإضافة إلى أن السعة الهائلة لهذا الأنبوب (31 مليار متر مكعب في السنة) لا يمكن الحصول عليها من مصدر واحد وإنما صمم المشروع ليتم من خلال تجميع غاز المنطقة عبر أنابيب تصب في نابوكو المتجه إلى أوروبا عبر تركيا أيضاً .

تلك الأنابيب هي مربط الفرس في المصالح الجيوسياسية للدول الإقليمية، وهي أيضاً التي ترسم ملامح أدوار تلك الدول في الأزمة السورية وما تعقيد تلك الأزمة إلى نتيجة لتضارب تلك المصالح وتشابكها وتداخلها، فقد لا تكون سورية مُنتِجاً كبيراً للنفط أو الغاز في الشرق الأوسط، إلا أنها قادرة على تحديد شكل خريطة الطاقة الإقليمية في المستقبل استناداً إلى ما ستؤول إليه الانتفاضة السورية. فموقع البلاد الجغرافي يتيح منفذاً إلى المتوسط للهيئات التي ليس لها مخرج إلى البحر، والتي تبحث عن أسواق لمنتجاتها من الهيدروكربون، كما للدول التي تريد منفذاً إلى أوروبا من دون أن تضطرّ إلى المرور عبر تركيا.

تركيا (البحث عن مبادئ كيسنجر):

ميزة تركيا هي موقعها بجوار نحو 70 في المائة من الاحتياطيات المعروفة في العالم من النفط والغاز في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه تقع بجوار واحدة من أكبر المناطق المستهلكة في العالم وهي أوروبا.

وأمل تركيا هو الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتوقعها بأن يعمل مشروع نابوكو على ترسيخ مكانتها أوروبيا من خلال العمل على أن تكون مركزاً للطاقة بالنسبة إلى الغرب، حيث إن خط نابوكو سينضم إلى عدد آخر من خطوط أنابيب الغاز التي تمر عبر تركيا.

والمتتبع للمساعي التي تبذلها تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يرى أن مشروع نابوكو يصب في جهد تركيا الحثيث لتقييم أهليتها للعضوية واجتيازها العقبات الـ 35 بفصولها المتعددة التي وضعت أمام تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.

وتوجه تركيا في هذا النهج من خلال مشروع نابوكو يؤكده تصريح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يوم التوقيع على الاتفاقية حينما قال: «حتى إن قمتم بتقييم من ناحية الطاقة فحسب، يتضح أنه ينبغي أن تكون تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي».

خارطة توضح خطوط نقل الطاقة التي تعبر أراضي تركية

المصدر: http://www.geni.org/globalenergy/library/national_energy_grid/turkey/g

كما أن مرور أنبوب نابوكو سيحقق لتركيا عائداً سنوياً لقاء رسوم العبور بمقدار  630مليون دولار، ولكن الأهم من ذلك أن تكون الممر الوحيد لنقل الطاقة من المنطقة إلى أوروبا ليس فقط لأجل العائد السنوي لقاء عبور الأنابيب، وإنما كون كل الدول المستفيدة من الأنابيب سواء منتجة أو مستوردة ستساهم في دعم استقرار تركيا الذي سيمثل استقرار مصادر الطاقة، وهذا أكثر ما يهم أردوغان لأنه سيحشد دعماً إقليمياً ودولياً لاستمرار العدالة والتنمية في السلطة ويحميه من منافسيه وخصوصاً الجيش التركي ذو الماضي الإنقلابي داخلياً.

وهنا تختلط السياسة بالجغرافية لتشكل سداً أمام الطموح التركي المدعوم من أمريكا وأوروبا كونها الشريك الناتوي، فمشروع تحول تركيا إلى نقطة عبور للطاقة من المنطقة إلى أوروبا وما يتبعه من مزايا حماية دولية تشابه ما يتمتع به الخليج العربي (مبادئ كيسنجر) إنما يصب في مصلحة مشروعها الإمبراطوري الجديد، والذي يتعارض مع مصالح دول عدة في الإقليم إن لم تكن جميعها وسنتناولها كل على حدة، تلك المصالح المتناقضة التقطها النظام السوري مستنداً إلى موقع سوريا الجغرافي الذي يشكل المنافس الوحيد للجغرافية التركية والمخرج الوحيد للدول الغير راغبة بتصدير طاقتها عبر تركيا، حيث طرح بشار الأسد رؤيته الاستراتيجية لمستقبل سوريا (2002) والتي أسماها ربط البحار الخمسة (المتوسط، الخليج العربي، الأحمر، الأسود، قزوين)، عبر العمل على تطوير المرافئ البحرية وسكك الحديد وتحويل سورية إلى عقدة لنقل الغاز وتوزيع الكهرباء حتى تصبح لاحقاً «منطقة حرة تربط بين الشرق والغرب»، وتم التخطيط لعدد من المشروعات منها : 1- إعادة بناء خط نفط كركوك – بنياس. 2- تصدير الغاز الآذري إلي سوريا عبر تركيا. 3- ربط خط الغاز العربي بتركيا و تصدير الغاز المصري إلي أوروبا. 4- بناء شركة ترك تيليكوم لخط اتصالات يعبر من سوريا للأردن و السعودية لربط هذه الدول بأوروبا عبر تركيا.

وقبل الاستطراد في الحديث عن الواقع، لعل العودة إلى تاريخ العلاقة بين البلدين يثبت مشقة الأخوة بفعل الجغرافية منذ سقوط الدولة العثمانية حتى مطلع القرن الواحد والعشرين:

التواريخ المبينة في الخريطة تبين الإشكالات الجغرافية منذ سقوط الدولة العثمانية والتي حلت باتفاقات دولية على حساب الأراضي السورية، لكن ما يستوقف في تاريخ التوترات بين البلدين هو تاريخ 1957 والذي تشابه أحداثه تماماً ما يحدث اليوم عاشت سورية، إثر سقوط حكم العقيد أديب الشيشكلي، مرحلة متميزة من الحياة السياسية النشطة لعب خلالها الضباط تقدميوا النزعة دوراً حاسماً في تبني سياسة خارجية نشطة ضد سياسات الأحلاف، وضد مشروع أيزنهاور، المعروف بالنقطة الرابعة، والقائل بأن خروج فرنسا وبريطانيا من منطقة الشرق الأوسط، نتيجة لحرب السويس، سيترك فراغاً لا يمكن أن تسده سوى الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي، واتبعت الحكومة السورية سياسة سيادية رفضت تدخل القوى الغربية في الشؤون الداخلية للبلاد، الأمر الذي أثار غضب دوائر صنع القرار في البلدان الغربية، والتي حاولت تنظيم مؤامرة تلو الأخرى لتغيير الأوضاع في سورية.

وفي بداية صيف 1957، بدأ سفير الولايات المتحدة بدمشق يحرض بلاده على التحضير لسلسلة من إجراءات الضغط ضد سورية، وبلغت الأمور ذروتها من خلال قيام تركيا بحشد قواتها على طول الحدود السورية، وبعث الحديث عن حقوقها التاريخية في بعض المناطق السورية، وحينها جاء الرد الروسي واضحاً على لسان رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، نيكيتا خروتشيف، الذي صرح لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في 7 تشرين الأول 1957 “تستعد تركيا لشن حرب ضد سورية، وثمة بعض الشخصيات في الولايات المتحدة كان وراء دفع تركيا في هذا المسار الخطر… وفي النهاية، الولايات المتحدة بعيدة عن هذه المنطقة في حين أن هذه المنطقة محاذية لبلادنا”، وفعلاً، قام الاتحاد السوفييتي بحشد قواته على الحدود مع تركيا، وتصاعدت حدة التوتر إلى حد فرض تدخل الأمم المتحدة، وحاولت السعودية طرح نفسها للعب دور الوسيط بين سورية وتركيا، لكن الحكومة السورية رفضت منح المملكة أي دور يتعلق بالسياسة السورية [22].

يشير خبراء بأن العداء الحالي بين سورية وتركيا ليس بسبب طبيعة الأنظمة السياسية القائمة حالياً في كلا البلدين، بل إن ذلك له جذور تاريخية، تمتد لأكثر من قرن مضى، إذا استثنينا الحديث عن الحكم العثماني لبلاد الشام والذي دام لأربعة قرون، وهو عداء فرضه الموقع والجغرافيا والمصالح المتضاربة، والاصطفافات السياسية والعسكرية، وهذا التاريخ يثبت بشكل قاطع بأن سوريا تؤتى من تركيا وليس من العراق كما توقع الكثيرون إبان الغزو الأمريكي.

بالعودة لاستراتيجية بشار الأسد التي تشكل تهديداً للتطلعات التركية، فإن تأخير الصراع بين البلدين ودفئ العلاقة مع حكومة العدالة والتنمية يعود إلى عاملين: أولهما سياسة “صفر مشاكل” التي انتهجها العدالة والتنمية في علاقات تركيا الخارجية، وثانيهما: سياسة “حسن النية” الذي أبداه بشار الأسد عندما طرح استراتيجيته بشكل يحقق التكامل مع تركيا التي ستكون منفذه إلى أوروبا وليس المتوسط، الأمر الذي يخدم التطلعات التركية.

الأسد والأحلام الكبيرة:

“سوريا صغيرة بحجمها ولكنها عظمى بتأثيرها” عبارة لطالما كررها الأسدين الأب والابن مستندين في ذلك إلى موقع سوريا الجغرافي وسياسة “التشبيح” المخابراتي التي تمارسها مخابراتهما على دول الجوار، واعتماداً على تلك القناعة الراسخة حاول بشار الأسد حرف بوصلة مشروعه عن تركيا وتوجيهها باتجاه المتوسط، عندما رفض في 2009 العرض القطري بتمرير أنبوب للغاز من قطر يمر بالسعودية والأردن وسوريا لينقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر تركيا، وذلك لصالح ما سمي “بخط الغاز الإسلامي” الإيراني  والذي يمر عبر العراق إلى سوريا ومنها إلى لبنان ثم إلى أوروبا عبر قبرص، والذي تم توقيعه 2011 بعد مفاوضات بدأت في 2009، حيث ستمتد الأنابيب على مسافة 5600 كيلومتر سينقل عبرها 110 ملايين متر مكعب يومياً.

خسر الأسد بفعلته آخر حليفين له في المنطقة (قطر وتركيا)، وأثبت عدم صوابية رؤيتهما بإمكانية التعاون مع محور ” الممانعة “، لصالح الرؤية السعودية بأن نظام الأسد ركن أساسي في محور شيعي يخدم التطلعات الإمبراطورية لإيران، وأن الوقت قد فات على استلال شعرة هذا النظام من العجين الإيراني، وعلى هذا توحدت رؤى البلدان الثلاثة .

خط الأنابيب الإيراني ليس تهديداً فقط لمصالح قطر وتركيا بل أيضاً لمصالح روسيا، التي تحتكر تقريباً توريد الغاز إلى أوروبا وترغب بإبقاء إيران تصدر فقط إلى آسيا والصين وبعيدة عن أوروبا، لذا فإن الدخول الروسي على خط الأزمة السورية بشكل تدخل عسكري مباشر وتسلمه لكامل ملف المفاوضات مع الغرب ودول المنطقة حول سوريا، إنما يأتي على حساب النفوذ الإيراني السياسي والعسكري وينهي مشروعها بوصول غازها إلى أوروبا عبر المتوسط، كما يدل على إدراك نظام الأسد للعبة المصالح الجيوسياسية العالمية ومصالح الأطراف الإقليمية، حين قفز في الوقت المناسب من الحضن الإيراني إلى الحضن الروسي بعد يأسه من قدرة إيران وميليشياتها على تثبيته .

إيران:

إن موضوع النزعة الإمبراطورية لإيران واعتمادها على المذهب الشيعي الذي شكلت منه محوراً في المنطقة (العراق، سوريا، لبنان) لم يعد بحاجة إلى شرح فقد قُتل بحثاً وتحليلاً هذا على الصعيد السياسي، ولكن على صعيد الجغرافيا فبعد قطع موسكو الطريق على الطموحات الإيرانية شمالاً نحو بحر قزوين، وإحباط الولايات المتحدة والسعودية لخطوطها التي تنقل الغاز نحو الهند وباكستان كما ذكرنا سابقاً، لم يعد أمامها سوى شواطئ حلفائها في سورية ولبنان على المتوسط كمنفذ لإنتاجها من الغاز نحو أوروبا، ذاك السوق المتعطش للغاز والباحث عن أي بديل يحرره من الارتهان للغاز الروسي، هذا بالإضافة إلى الكشوفات الجديدة في أراضي محور الممانعة من الغاز (سوريا،، لبنان، غزة) مضافاً لها موارد العراق مما سيحولها كونها صاحبة ثاني أكبر احتياطي عالمي بعد روسيا إلى لاعب عالمي جديد وكبير في سوق الغاز ينافس روسيا وقطر على صعيد التصدير، خاصة بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات الذي سيتيح لها تطوير منشآتها ويفتح الأسواق التي كانت مغلقة أمامها، وامتلاكها منفذ على المتوسط للتصدير إلى أوروبا سيحرم تركيا من أهم ورقة لدخولها الاتحاد الأوروبي،  لذلك فإن إيران تعد أهم الأسباب الجيوسياسية في الأزمة السورية وتعقيدها عبر مشروعها المسمى

خط الغاز الإسلامي:

مع تطوير إيران (تملك ثاني أكبر احتياطي من الغاز بعد روسيا) المستمر لقدراتها لاستخراج احتياطاتها من حقل جنوب فارس (14 تريليون متر مكعب) الذي تشترك فيه مع قطر تسعى إيران إلى توسيع دائرة زبائنها لكسر الحصار الغربي المتزايد عليها و زيادة مواردها الاقتصادية. حيث يمثل مشروع خط الغاز الإسلامي إحدى أكبر مشروعات إيران الاستراتيجية لتصدير الغاز إلى العراق , سوريا و لبنان و من ثم ليمتد في المستقبل إلى أوروبا كما تخطط طهران.

في 2009 عقدت إيران مفاوضات أولية مع كل من العراق و سوريا لمناقشة المشروع و في يوليو 2011 توصلت الثلاث دول لاتفاق لتنفيذ للمشروع بتكلفة 10 مليار دولار, لاحقاً في مارس 2013 توصلت جميع الأطراف لاتفاق نهائي , وأخيراً في يوليو 2013 اتفق الجانب العراقي مع الإيراني على زيادة حجم الغاز الذي سيتم تصديره.

من المتوقع أن يبلغ طول خط الغاز الإسلامي الممتد حتى سوريا و الجنوب اللبناني تقريباً 2000 كيلو متر. سينطلق خط الغاز من عسلوية المُطلة على الخليج وصولاً إلي الحدود العراقية, ليتم ضخ الغاز إلى العراق عن طريق خطين فرعيين, خط عيلام الذي سيغذي بغداد , المنصورية و الصدر و خط خرمشهر الذي سيغذي البصرة، و من المتوقع أن يبلغ حجم الغاز المُصدر إلى العراق عن طريق الخطين 40-45 مليون متر مكعب يومياً، ثم سيتفرع خط الغاز العراقي الذي سيبلغ 500 كيلو من داخل الأراضي العراقية ليغذي دمشق بطاقة 25- 30 مليون متر مكعب يومياً عبر خط يبلغ طوله 600 – 700 كيلومتر، كما أن الخط سيتفرع من داخل الأراضي السورية ليغذي الجنوب اللبناني بطاقة 5 – 7 مليون متر مكعب يومياً. ستكون طاقة ضخ الخط الإسلامي كلياً حوالي 110 مليون متر مكعب من الغاز يومياً و 40 بليون متر مكعب سنوياً. من المتوقع أن تدير صادرات الغاز من هذا الخط 3.7 مليار دولار سنوياً إلى الخزانة الإيرانية، أما في المستقبل البعيد فإن إيران تخطط لمد خط الغاز إلى قبرص فاليونان ثم إيطاليا من لبنان عبر المتوسط ليبلغ طول الخط 4900 كيلو متر[23].

إذاً فمشروع الخط الإسلامي لا يجعل من بقاء النظام السوري (حتى لو تمت التضحية ببشار الأسد و القادة العسكريين) خياراً مهماً بل ضرورة حتمية بالنسبة للجمهورية الإسلامية لتأمين مشروعها الاستراتيجي, ليس فقط من أجل استمرار المشروع في سوريا بل لضمان أيضاً استمرار دور حزب الله السياسي و الأمني في لبنان على المدى البعيد لمد الخط إلى أوروبا مستقبلاً، لذا فإن أمن إيران الاقتصادي المُهدد بشكل متزايد يجعل من أمن الطاقة في سوريا لدى صناع القرار الإيرانيين مسألة أمن قومي.

خارطة تبين مسار خط الغاز الإيراني في مقابل خط الغاز القطري

المصدر: http://oil-price.net/en/articles/oil-prices-and-syrian-civil-war.php

يتجاوز طموح تركيا الطموح القطري في حرب خطوط الغاز. حيث ترغب تركيا في أن تكون جسراً للطاقة تلتقي فيها خطوط الغاز و النفط من الشرق الأوسط, القوقاز و البحر الأسود.  فأنقرة تسعى إلى لعب دور محوري عبر إنشاء خطوط وسيطة لإيصال الغاز إلي أوروبا المتعطشة إلى المزيد من صادرات الغاز.

حيث ترغب تركيا في نقل الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر أراضيها من خلال الخط العابر للأناضول، ثم خط العابر للأدرياتيكي الذي من المخطط أن يمر عبر اليونان وألبانيا وصولاً إلى إيطاليا وهو المشروع المعروف بـ”خط الغاز الفارسي”، و لكن في المقابل لا ترغب طهران في حصر صادراتها في هذا الخط  بمنح تركيا هذا الدور الاحتكاري في نقل غازها, و تُفضل توزيع الغاز عبر الخط الإسلامي و هو ما ترفضه أنقرة، من ناحية أخرى يكسر مشروع الخط الإسلامي الدور الاحتكاري الذي تطمح تركيا إلى ممارسته و ذلك لرغبة طهران في تصدير غازها إلى أوروبا مباشرة عبر المتوسطً دون وسيط. لذا فإن إحدى أهداف تركيا من دعم الحراك الثوري السوري و إسقاط الأسد القضاء على مشروع خط الغاز الإسلامي لإجبار طهران على القبول بالأمر الواقع، و تصدير غازها عبر الخط الذي تقترحه أو الضغط عليها لتحويل مسار الخط الإسلامي ليتجه من سوريا إلى تركيا و من ثم إلى أوروبا بدلاً من أوروبا مباشرة عبر المتوسط, هو ما يعني أيضاً الخضوع لسلطة تركيا، والأهم أن خط الغاز الإسلامي من المفترض أن يتجه نحو قبرص ومنها إلى أوروبا، وهو ما لن تسمح به أنقرة كونه سيمنح امتيازات حماية لقبرص ويقوي موقفها دولياً في خلافها مع تركيا.

سيضعف رجحان كفة الصراع لصالح الأسد و حلفائه من الدور الذي كانت تطمح إليه تركيا في جانب من جوانبه ألا و هو الطاقة, بالإضافة لجعل سوريا منافساً محتملاً لتركيا في نقل الغاز إلى المستهلكين الأوروبيين مستقبلاً.

قطر:

تمتلك قطر ثالث أكبر احتياطيات من الغاز في العالم، أو حوالي 871.5 تريليون قدم مكعب (24.7 تريليون متر مكعب)، وهو ما يمثل نحو 13.3 في المائة من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة في عام 2013. وبلغ إنتاج قطر في العام الماضي 158.5 مليون متر مكعب، أو ما يعادل 4.7 في المائة إنتاج الغاز العالمي؛ مما جعلها تحتل رابع أكبر منتج للغاز في العالم (بعد روسيا والولايات المتحدة وإيران). ووفقًا للبيانات التي أوردها الاتحاد الدولي للغاز، صدَّرت قطر أكثر من 84 في المائة من إنتاجها من الغاز على شكل الغاز الطبيعي المسال (LNG)، وأكثر من ثلثي ذلك الغاز المسال (71.4 في المائة) تم شحنه إلى دول آسيا. وقد شهد إنتاج قطر من الغاز الطبيعي المسال طفرة خلال العقد الماضي؛ ساعدها في ذلك ارتفاع الطلب العالمي وسط قلة العرض خصوصًا بعد كارثة اليابان عام 2011، لتقفز صادراتها من 18 مليون طن سنويًّا في عام 2002 إلى 77.2 مليون طن سنويًّا في عام 2013، وهو ما يمثل أكثر من 42 في المائة من التجارة العالمية للغاز الطبيعي .

 

المصدر: الاتحاد العالمي للغاز

لكن هذا الوضع الريادي لدولة قطر ربما يواجه تحديات كبيرة على مدى العقد القادم؛ نتيجة تغيرات عميقة قد تطرأ على أسواق الطاقة العالمية. حيث يمكن لخارطة الغاز العالمية أن تتغير جذريًّا مع دخول المزيد من المنافسين، وظهور مراكز جديدة مصدرة للغاز الطبيعي المسال، خصوصًا في أستراليا والولايات المتحدة الأميركية. ثمّ إنَّ الزيادة في الإمدادات من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وروسيا وبعض الدول الإفريقية، قد يؤدي إلى تخمة في الأسواق ربما تدفع إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تراجع الإيرادات المالية لدولة قطر بشكل كبير. أضف إلى ذلك أنّ توافر الإمدادات البديلة في الأسواق الآسيوية قد يسمح للمشترين هناك بزيادة قوتهم التفاوضية والعمل بشكل جادٍّ من أجل تعديل عقود توريد الغاز طويلة الأجل لصالحهم، وهذا الأمر قد يعني بالمحصلة تحديًا للنموذج الذي تعمل به دولة قطر حاليًّا بربط عقود الغاز المسال طويلة الأجل بأسعار النفط [24].

مما تقدم نجد بأن سوق الغاز المسال التي تسيطر عليها قطر عرضة لدخول العديد من المنافسين واللذين سيضعفون من موقعها التنافسي، لذا فرهان قطر اليوم على إيصال غازها بالأنابيب التي تعتبر أقل تكلفة من عمليات إسالة الغاز ونقله،  وهي بهذه العملية تستهدف السوق الأوروبية الأضعف اعتماداً على الغاز القطري كما يوضح الشكل أعلاه.

قطر بهذا المشروع تحاول الهرب من إيران لتجدها أمامها، حيث تُصدر قطر غازها المُسال إلى الأسواق العالمية عبر ناقلات الغاز البحرية التي تعبر من مضيق هرمز. و مع التذبذب المستمر للعلاقات الإيرانية – الغربية و التهديدات الإيرانية المتكررة بإغلاق مضيق هرمز تسعى الإدارة القطرية لإيجاد وسيلة أكثر استقراراً لنقل صادراتها إلى الأسواق الأوروبية و ذلك عبر خط الغاز العربي الذي ينطلق من مصر و يمر عبر الأردن و ينتهي في سوريا, حيث يغذي الخط طرابلس اللبنانية عبر فرع من حمص. و تخطط قطر لخط يتفادى العراق و يمر عبر السعودية ثم يتم دمجه بالخط العربي في الأردن و ينتهي في حلب بسوريا ليتم مد الخط إلى كلس التركية و منها إلى أوروبا. (نظراً لاحتلال حمص و حلب مواقع حاسمة في حرب خطوط الغاز فالمدينتان تحتلان مواقع استراتيجية في القتال الدائر بين الجيش النظامي و قوات المعارضة السورية).

التنافس الإيراني القطري في مجال الغاز لا يقتصر فقط على الوصول إلى الأسواق الأوروبية، ومحاولة قطر تفادي تمرير صادراتها عبر مناطق نفوذ إيرانية، بل تبرز خطورته في كون مصدر الغاز للبلدين واحد وهو ما ينذر بإمكانية اندلاع صراع مستقبلي بين البلدين أسوة بما حصل بين العراق والكويت الأمر الذي تسبب بغزو الأخيرة من قبل العراق وحرب الخليج الأولى، خصوصاً وأن إيران بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات تسعى لرفع إنتاجها من حقل غاز الشمال المشترك مع قطر، و هو حقل غاز طبيعي يقع في الخليج العربي تتقاسمه كل من قطر وإيران، وهو أكبر حقل غاز بالعالم حيث يضم 50.97 ترليون متر مكعب من الغاز، وتبلغ مساحة حقل غاز الشمال نحو 9,700 كيلومتر مربع منها 6,000 في مياه قطر الإقليمية و 3,700 في المياه لإيرانية، اكتشف الحقل عام 1971 وبدأ الإنتاج فيه عام [25]1989.

المصدر: http://www.eia.gov/cabs/Qatar/NaturalGas.html

بالنسبة للدوحة فإن الثورة السورية فرصة مناسبة للإطاحة بمشروع منافستها إيران في سوريا، لتلعب دور(لتعزز دورها) شبه احتكاري في تصدير الغاز إلى أوروبا -إذا اخذنا في الاعتبار طبعاً ضعف صادرات الغاز المصرية بالنسبة لحجم الصادرات القطرية المُخطط لها- و من خلال دعم صعود حكومة سورية موالية للولايات المتحدة و حلفائها الإقليميين في مرحلة ما بعد الأسد (الإخوان المسلمون)، يصبح المجال مفتوحاً بالنسبة لقطر لترسيخ دورها وقوتها التنافسية في سوق الغاز العالمية أمام منافسيها، ولتركيا الحليفة لتكون الممر الوحيد للطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا.

مصر: (اضطراب بين عهدين)

تعرض مشروع مصر الاستراتيجي (خط الغاز العربي )، الذي بدأ العمل عليه قبل عشر سنوات من ثورة 25 يناير 2011 إلى التوقف عن إكمال مراحله، وانقطاع إمداد الغاز في المراحل المنجزة منه، وهو خط غاز لتصدير الغاز الطبيعي المصري لدول المشرق العربي ومنها إلى أوروبا. ويتألف من عدة خطوط على الشكل التالي: خط من مدينة العريش في شمال سيناء إلى العقبة في جنوب الأردن تم الانتهاء من هذا الجزء عام 2003 بتكلفة قدرها 220$ مليون, والسعة السنوية لهاذا الجزء هو 1.1، الجزء الثاني من المشروع يصل بين العقبة والرحاب أيضاً في الأردن, والتي تبعد 24كم عن الحدود السورية, وطول هذا الجزء 390 كم بتكلفة قدرها 300$ مليون, وتم الانتهاء منه بحلول عام 2005.

الجزء الثالث للخط طولة 324كم من الأردن إلى دير علي في سوريا، ومن هناك سيمتد الخط ليصل الي قرية رايان. في عام 2006 تم الاتفاق بين مصر وسوريا والأردن ولبنان وتركيا ورومانيا بتوصيل خط الغاز إلى الحدود السورية التركية ومن هناك سيتم توصيل الخط بخط غاز نابوكو ليوصل بالقارة الأوروبية.

في عام 2004 اتفقت مصر والأردن ولبنان وسوريا مع العراق لتوصيل خط الغاز العربي مع العراق لتصدير الغاز العراقي لأوروبا أيضاً.

المصدر: Economy of Egypt – Mineral and energy resource

يتفرع منه خط أنابيب شرق المتوسط هو خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي المصري من العريش بمصر إلى عسقلان بإسرائيل داخل المياه الإقليمية المصرية ثم الإسرائيلية في البحر المتوسط بطول 100 كم. ومن المنتظر مد الخط شمالاً بطول إجمالي 780 كم حتى ميناء جيهان التركي. سعة خط الأنابيب 15 بليون م3 في السنة. قامت شركة إني الإيطالية ببناء المرحلة الأولى من العريش إلى عسقلان تحت البحر [26].

تملكه شركة غاز شرق المتوسط East Mediterranean Gas – EMG، هي شركة مشتركة تأسست في سنة 2000، الشركة يرأسها حسين سالم وتملكها الهيئة العامة للبترول المصرية بنسبة (68.4%), والشركة الإسرائيلية الخاصة مرهاڤ بنسبة (25%) وشركة أمبال-إسرائيل الأمريكية Ampal-American Israel Corp بنسبة (6.6%) [27]. الشركتان الأخيرتان يملكهما رجل الأعمال الإسرائيلي يوسف مايمان، وتزاول الشركة نشاطها في منطقة حرة خاصة بالإسكندرية.

جيوسياسياً، فإن تعاطي مصر مع الأزمة السورية في العهدين اللذين أعقبا سقوط نظام مبارك، كان مرتبط بشكل كبير بهذا الخط الاستراتيجي بالنسبة لمصر، فمع وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في عهد الرئيس محمد مرسي المدعوم من تركيا وقطر والولايات المتحدة الأمريكية كان تعاطي هذا العهد مع الملف السوري مشابهاً تماماً للرؤية التركية القطرية في دعم الثورة بكل قوة للوصول إلى إسقاط نظام الأسد، الذي يؤدي بالنتيجة إلى استكمال المرحلة الأخيرة من الخط وربطه مع تركيا كون هذا الخط كان ضمن استراتيجية الأسد بلعب دور بديل للتركي كممر للطاقة نحو أوروبا عبر المتوسط .

أما في عهد السيسي  فقد تم تغيير الموقف المصري بشكل مفاجئ وكلي اتجاه الثورة السورية، حيث انتقلت مصر من دولة داعمة للثورة إلى طرف يحاول الدخول على خط الأزمة كوسيط ولكنها لم تفلح، قد يصيب المحلل نصف الحقيقة حين يعزو هذا التغير إلى الأسباب السياسية وحدها، كون هذا النظام انقلب على نظام الإخوان المسلمين الأمر الذي أحدث قطيعة مع تركيا وقطر، ولكن الرؤية الكاملة هي الرؤية الجيوسياسية والتي تقول أن القيادة المصرية الجديدة ترى في استراتيجية بشار الأسد بتحويل مسار خط الغاز العربي من تركيا نحو المتوسط إلى أوروبا عبر قبرص فائدة أكبر كون تركيا تعتبر منافس للدور المصري الذي يعاد دعمه في المنطقة (دول مجلس التعاون الخليجي عدا قطر) كقوة سنية في مجابهة إيران، وبخاصة السعودية التي لا ترغب بتقوية الدور التركي أكثر مما هو عليه بتحولها لمركز عبور لطاقة الشرق الأوسط إلى أوروبا ولا ترضى عن سياسة الكعب العالي التي تتبعها قطر، وتفضل أن تلعب سورية دور همزة الوصل بين الشرق والغرب، ولكن دون بشار الأسد، وهنا تكمن نقطة الاختلاف مع نظام السيسي الذي يقدم مصالحه على المصلحة القومية ولا يعتبر نفسه في عداء مع نظام الأسد، بل هو جاهز دائماً كما يبدو لفتح قنوات حوار معه .

قبرص واستحالة المصالحة مع تركيا:

تعتبر اليوم الجيوبولتيك هي أعقد الملفات التي تواجه مصر اليوم، فحالة الفوضى السياسية التي أعقبت سقوط نظام مبارك فاقمت العديد من الأزمات الجغرافية المختلطة باعتبارات سياسية، ومنها ملف سد النهضة العالق مع إثيوبيا المدعومة من إسرائيل والذي يهدد الأمن المائي المصري، إضافة إلى ملف ترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان وتركيا وإسرائيل وأية حدود؟ في وقت قد يعني فيه الكيلو متر البحري حقلاً غنياً بالغاز . في هذا الملف قدمت مصر تنازلات لصالح قبرص واليونان وفي صالح إسرائيل أيضاً في خطوة اعبرها البعض عقابية لتركيا على تدخلها في الشأن الداخلي المصري، ولكن في حقيقتها تعبر عن عجز مصر حالياً عن مواجهة كل تلك الجبهات في آنً واحد فاختارت الجبهة المفتوحة أصلاً مع تركيا وتأجيل باقي الجبهات، ولفهم الخطوة المصرية لا بد من أن نعرج على بعض الاتفاقات الدولية و نلقي الضوء على مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة «EZZ» والتي تعرف بكونها المنطقة التي يحق للدولة أن تمارس بشأنها حقوق الاستغلال والتنقيب عن الموارد البحرية ويحددها القانون الدولي بـ«200 ميل بحري» من خط الأساس البري للدولة، وهو الخط الذي يحدد رسمياً الفاصل بين اليابسة والبحر الخارجي، وتودع كل دولة من دول العالم لدى الأمم المتحدة مجموعة إحداثيات نقاط تحدد خط الأساس لتلك الدولة.

تمتد المنطقة البحرية بين كل من تركيا واليونان ومصر وقبرص على شكل خطين متقاطعين، الأول يصل بين مصر وتركيا ، أما الخط الآخر فيصل بين قبرص واليونان، والقانون الدولي ينص على أن الدولتين اللتين تتمتعان بمساحة أقصر بينهما يكونان أحق بالحدود المشتركة من الدولتين اللتين تفصلهما مسافة أبعد، في هذه الحالة فإن أقصر مسافة بين مصر وتركيا هي « 274 ميل بحري» ، في حين أن أقصر مسافة بين قبرص واليونان هي «297 ميل بحري» بما يعني أن مصر وتركيا أحق بالحدود المشتركة من قبرص واليونان.

من ناحيتهما ترغب كل من قبرص واليونان في إثبات أحقيتهما بالحدود المشتركة ، وتستند اليونان في ادعاء أحقيتها على قانون البحار الثالث والأخير الصادر عام 1982، والذي ينص على أن أي جزيرة يحق لها منطقة اقتصادية خالصة مثل أي بر آخر، أي بعرض « 200 ميل بحري» وهو ما يرفض العالم تطبيقه على حالات مماثلة، وفي حال تطبيق هذا القانون على الحالة المصرية اليونانية فإن خط الأساس البري اليوناني سوف يمتد ليتضمن جزيرة «كاستلوريزو» هي الواقعة على بعد 160 ميل بحري من قبرص، وهي مسافة أقصر من المسافة بين تركيا ومصر، وبذلك يحق التلامس الحدودي من حق اليونان مع قبرص، وليس مصر مع تركيا.

جدير بالذكر أن خط الأساس البري اليوناني المعترف به لدى الأمم المتحدة من الجانب الشرقي هو لساحل الشرقي لجزيرة رودس، وبذلك تكون المسافة بين اليونان وقبرص هي المسافة بين جزيرة «رودس» اليونانية ومدينة «بافوس» القبرصية، وتبلغ 275 ميل بحري كما سبق أن أسلفنا، وهو ما تسعى اليونان إلى تجاوزه بمحاولة إقناع مصر بتضمين جزيرة «كاستلوزيرو» كأساس لترسيم حدودها.

يعني دخول جزيرة «كاستلوزيرو» بالتأكيد حرمان تركيا من أي مياه إقليمية أو اقتصادية في هذه المنطقة، لذا فإن تركيا لم توقع من الأساس على اتفاقية البحار الثالثة وتتمسك بكون المناطق الاقتصادية الكاملة تختص بحدود الدول وحدها وليس الجزر ، يذكر أن العديد من دول العالم ترفض التوقيع على اتفاقية البحار ومنها الولايات المتحدة وإسرائيل.

تستغل تركيا نفوذها الكبير في شمال قبرص “لا تعترف تركيا بقبرص كدولة مستقلة” ، وتقول تركيا أن أي تفاوض بين قبرص و مصر و إسرائيل على الحدود البحرية هو تفاوض لا يعتد به لأن شمال قبرص غير ممثلة في التفاوض.

هذا وقد قامت تركيا أواخر أكتوبر الماضي ببدأ أعمال تنقيب في ما تعتبره المناطق الاقتصادية لدولة قبرص الشمالية، كما حذرت تركيا أيًا من شركات النفط العالمية من مغبة قبول عقود تنقيب لصالح قبرص في هذه المنطقة، بدورها ردت قبرص بإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا في المنطقة، قبل أن ترد تركيا من خلال تفويض قواتها البحرية بتطبيق قواعد الاشتباك حال واجهت سفنًا حربية يونانية أو إسرائيلية في المناطق التي تسيطر عليها تركيا شرق المتوسط. إسرائيل ربما تكون بدورها أحد أكبر المستفيدين من هذا الاتفاق، فبدخول كاستلوريزو في خط الأساس اليوناني يصبح مرور أنبوب الغاز الإسرائيلي المستقبلي لتصدير غازها إلى أوروبا في مياه قبرصية ويونانية بدلاً من مروره في مياه مصرية .

كم تلك المشكلات التي تواجه مصر، خصوصاً مع غياب الظهير العربي الغارق في مشكلاته يكبل الدور المصري، ويفسر التخبط في السياسة الخارجية لها واللهاث الدبلوماسي في البحث عن حليف قوي، فالسعودية ودول مجلس التعاون لا تشكل سوى دعماً مادياً، لكن مصر بحاجة لأكثر من ذلك اليوم وخصوصاً بعد حالة الجفاء مع الولايات المتحدة التي أعقبت الانقلاب على حكم الإخوان، لذا يلاحظ محاولات مصرية للاستمالة الروس كحليف بديل، وربما إيران إذا اقتضت الحاجة وهذا ما قد يفسر سياسة مسك العصا من المنتصف التي ينتهجها السيسي في الملف السوري بين السعودية وإيران .

إسرائيل (الحرب المؤجلة):

تحدثنا سابقاً عن الاحتياطيات الكبرى التم اكتشافها شرق المتوسط (سوريا – لبنان- غزة- مصر- إسرائيل)، حيث كانت إسرائيل هي السباقة في التنقيب وتطوير الحقول الواقعة في ما يسمى حوض ليفانت (بلاد الشام) حيث تم الكشف عن حقلين عملاقيين هما تمار وليفاثان إضافة إلى عدة حقول أخرى أصغر حجماً.

جدول حقول الغاز الإسرائيلية وحجم احتياطياتها وإنتاجها :

حقل الغاز تاريخ الاكتشاف بدأ الإنتاج احتياطي (مليار متر مكعب)
تمار 2009 2012 240
ليفاثان 2010 2012 450
تنين 2012 2012
شمشون 2012 2013 100

المصدر: من تصميم الباحث بالاعتماد على بيانات شركة نوبل إنرجي

المصدر: موقع شركة نوبل إنرجي المطورة للحقول الإسرائيليةhttp://www.nobleenergyinc.com/operations/eastern-mediterranean-128.html

تلك الاكتشافات الإسرائيلية لن تكفي فقط لتغطية استهلاك إسرائيل من الغاز(يبلغ معدل الاستهلاك الحالي للبلاد حوالي 4 مليارات متر مكعب سنوياً)، بل ستحولها إلى بلد مصدر لهذه المادة، الأمر الذي وضع ولأول مرة منذ تأسيسها أمن الطاقة على أجندة الدولة العبرية، خصوصاً وأن الفرحة الإسرائيلية باكتشاف موارد للطاقة فيها مشوبة بمنغصين يمثلان عقبات كبرى في وجه استغلال تلك الاكتشافات بالشكل الأمثل وهي:

ترسيم الحدود البحرية مع الجوار:

كما ذكرنا سابقاً فإن التعريف الدولي للمنطقة الاقتصادية الخالصة هي 200 ميل بحري من كل دولة. أما إذا كانت المسافة بين دولتين أقل من 400 ميل بحري، فحينئذ يلجأ الطرفان لترسيم حدودهما معاً. إذا انعدمت من أي من الطرفين الدفوعات بأحقية أو ملكية أكثر من حد المنتصف، فقط وقتها يلجأ الطرفان إلى ترسيم حد المنتصف، بناءً على هذا التعريف فإن حقل تمار الإسرائيلي يقع في منطقة نزاع حدودي مع لبنان وحقلي ليفاثان وشمشون يقعان في المنطقة الاقتصادية المصرية .

خرائط توضح تداخل حقول الغاز الإسرائيلية مع المناطق الاقتصادية الحصرية لكل من لبنان ومصر[28]

ملف ترسيم الحدود بين مصر ولبنان وإسرائيل ينذر بإمكانية كبيرة لاندلاع حرب في المنطقة بسبب اكتشاف حقول الغاز، فإذا كانت حرب الأيام الستة 1967 اندلعت بسبب الموارد المائية فكيف بثروة قد تحدث طفرة في المنطقة شبيهة بطفرة النفط في الخليج.

استشعرت الولايات المتحدة خطورة الموقف فحاولت دبلوماسياً التوصل إلى تسوية مع لبنان بشأن ملف ترسيم حدودها مع إسرائيل، حيث تركّز الحكومة الأميركية على تجنّب اندلاع صراع بين إسرائيل ولبنان حول المثلّث البحري المُتنازَع عليه بين البلدين، والبالغة مساحته 800 كيلومتر مربّع، وهي لهذه الغاية أوفدت مبعوثين إلى المنطقة بغية التوسّط في النزاع [29].

إن الجهد الدبلوماسي الأمريكي قد يؤجل الصراع المقبل على الحدود البحرية ولكن لن يستطيع منعه، فكيف يمكن لدول تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة مثل مصر ولبنان وغزة التي تمنعها إسرائيل حالياً من تطوير الحقول الواقعة في مياهها (غزة مارين1- غزة مارين 2)، أن تتنازل عما يمكن أن يكون المنقذ لها اقتصادياً خصوصاً مع وجود حركات مسلحة تستحوذ على السلطة في لبنان (حزب الله) وفي غزة (حماس) تحلم بمصدر للتمويل كهذا، وتسعين مليون مصري يرزحون تحت وطأة ظروف اقتصادية كارثية، إضافة لإسرائيل التي تعتمد على الغاز المصري في تلبية ما يقارب نصف احتياجاتها، الأمر الذي يجعل مواردها غير مستقرة فاتفاقية الغاز مع مصر مهددة بالإلغاء تحت الضغط الشعبي المصري في أي لحظة، وما يعزز هذا القلق الإسرائيلي وقف إمدادات الغاز المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر .

إذاً لا يمكن لأي طرف من أطراف النزاع أن يتنازل عن شبر من حدوده البحرية لصالح الآخر، وإسرائيل تعي هذه الحقيقة جيداً وتتعامل مع الربيع العربي من خلالها فمن مصلحتها دعم الفوضى في بلدان هذا الربيع وبخاصة في مصر، التي طوقتها بمشكلات اقتصادية تحدثنا عنها سابقاً، ثم دعم وصول نظام عسكري هو الأقدر على حماية أمنها مثل نظام السيسي الذي دمر أنفاق رفح وأغلق معابرها في وجه الفلسطينيين وصنف حماس كحركة إرهابية. أما في سوريا فالدور الإسرائيلي يتمثل بإذكاء الصراع واستمراره عبر دعم بقاء نظام الأسد دولياً لتدمير سوريا واستنزاف مواردها، فإسرائيل لن تجد صهيونياً في العالم يقدم لها ما قدمه بشار الأسد الذي يعي وحليفه المقاوم حسن نصر الله خطورة اللحظة والصراع المقبل في المنطقة ورغم ذلك دمر سوريا وسلم سلاحه الاستراتيجي للتدمير( مخزون سوريا من السلاح الكيماوي) في سبيل البقاء في السلطة.

وبهذا تكون إسرائيل قد أجلت حرباً حتمية إلى أجلٍ غير مسمى فالعرب لن يخوضوا حرباً بدون مصر وسوريا، أما العقبة الثانية أما استثمار إسرائيل لموارد الغاز والتحول لمصدر هي:

طرق التصدير:

بعد أن حققت إسرائيل هدفها بإبعاد شبح الحرب عنها، والاستئثار بحقول الغاز المشتركة مع لبنان ومصر وغزة، وذلك بفضل محور الممانعة، لم يبق إلا أن تجد طريقاً لتصدير غازها إلى أوروبا وآسيا المتعطشين لتلك المادة، ولكن عن أي طريق؟؟.

طرحت تركيا رغم علاقاتها المتوترة مع إسرائيل وفي إطار استراتيجيتها للتحول إلى عقدة نقل الطاقة إلى أوروبا في المنطقة، مشروع لإنشاء خط أنابيب ينقل غاز حقل ليفاثان الإسرائيلي عبر البحر إلى ميناء جيهان التركي، ففي 13 سبتمبر 2013، تقدمت تركاس، الفرع التركي لشل، باقتراح مد خط أنابيب غاز طبيعي من حقل ليفاثان للغاز، يمتد وصولاً لجنوب تركيا، بتكلفة 2.5 بليون دولار ويمكنه نقل 16 بليون م³ من الغاز. وصفت الشركة هذا المشروع بأنه مشروع جذاب على الرغم من المخاطر السياسية القائمة بسبب توتر العلاقات الإسرائيلية التركية [30].

ولكن إسرائيل بعد اكتشاف الغاز بات ذات الحلم التركي يراودها بالتحول إلى طريق مرور رئيسي عبر المحيطات، يربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ويعيد التأكيد على أن أرض إسرائيل، باعتبارها طريقاً رئيسياً للتجارة والنقل، بديل لقناة السويس. وهي تنظر إلى تطوير منطقة إيلات، وامتدادها الإسرائيلي، كبوابة أوروبا إلى آسيا، وبالتالي كتعزيز للقيمة الاستراتيجية لإسرائيل لدى الغرب.

بالتالي تُخطط تل أبيب لشحن صادراتها عبر قبرص إلى  اليونان مما يعني طريقاً أطول، كما أن تركيا تقف حجر عثرة في وجهه.

وهكذا يتضح أن تراجع العلاقات التركية – الإسرائيلية جاء في وقت سيئ للغاية بالنسبة إلى الطموحات الإسرائيلية في مجال صادرات الطاقة.

الخيار الآخر أمام إسرائيل هو بناء مصنع لتسييل الغاز الطبيعي قبالة شواطئها أو في قبرص، وشحن الغاز على السفن إلى الأسواق العالمية. بيد أن هذا خيار مكلف، علاوة على كونه عرضة أيضاً إلى التهديدات والتوترات الإقليمية[31].

ليس فقط تركيا من تقف عائقاً أما استراتيجية إسرائيل في التحول إلى ممر يربط أوروبا وآسيا، بل هناك أيضاً سوريا ومصر (قناة السويس)، خصوصاً وأن إسرائيل بمعاداتها لجيرانها تبدو بالنسبة للعالم ممراً غير آمن. من هذه النقطة تنطلق إسرائيل في تعاطيها أيضاً مع الربيع العربي، فتدمير سوريا بالنسبة لها أبعد منافساً من طريقها، وتبقر قناة السويس، والتي وضعت لها إسرائيل أيضاً استراتيجية لإزاحتها من المنافسة، ويمكن تلخيصها بنقطتين:

إيجاد طرق بديلة:

تسعى إسرائيل منذ سنوات لإنشاء طرق تجارية تمثل بديلاً لقناة السويس وهي:

قناة البحر الميت: وهو مشروع تم توقيع الاتفاق عليه في 2013 بين الأردن وفلسطين وإسرائيل، ويقضي بفتح قناة لربط البحر الاحمر بالحر الميت. القناة بتصميمها الحالي ليس لها أي تأثير على قناة السويس، إلا أن المخاوف تدور حول إمكانية تطويرها في المستقبل عبر إنشاء قناة أخرى من البحر الميت إلى المتوسط لتصبح بديل لقناة السويس، وهو مشروع قديم كان أول من طرحه الأميرال البريطاني وليم ألن 1855 كبديل لقناة السويس التي كانت تحت سلطة الفرنسيين[32] .

خط سكك حديد تل أبيب- إيلات:

أعلنت إسرائيل في عام 2013 عن مشروع خط سكك حديد يربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، يبدأ من تل أبيب المطلة على البحر المتوسط وينتهي عند إيلات المطلة على البحر الأحمر قاطعاً مسافة 350 كم، سيتمكن هذا الخط من نقل البضائع والمسافرين بين البحرين في مدة زمنية لا تزيد عن ساعتين مما يشكل مباشراً لحركة نقل البضائع عبر قناة السويس. تبلغ كلفة المشروع 70 مليون دولار ومن المفترض أن ينتهي العمل به كلياً في عام 2017 [33].

ميناء أشدود:

يقع هذا المشروع ضمن استراتيجية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لربط الموانئ الإسرائيلية( تل ابيب- إيلات- حيفا- أشدود)لتشكل بديلاً لقناة السويس، ولبنائه تعاقدت إسرائيل مع شركة (تشاينا هاربر) الصينية المتخصصة ببناء الموانئ بتكلفة 850 مليون دولار، حيث وضع حجر الأساس لهذا المشروع في 2014 و يتوقع أن يتم الانتهاء منه خلال مدة أقصاها سبع سنوات [34].

خط أنابيب إيلات –عسقلان:

تم بناء هذا الخط بالتعاون بين إيران وإسرائيل عام 1968 كبديل عن قناة السويس في نقل النفط الإيراني إلى مصافي التكرير في رومانيا، وتسعى إسرائيل إلى توسيع هذا الخط ليتمكن من نقل مليون ومئتي ألف برميل من النفط الخام يومياً بدلاً من الطاقة الحالية وهي 900 ألف برميل بزيادة قدرها 33%. هذا ويوجد صراع قضائي مستمر منذ عقود بين إيران وإسرائيل حول عائدات هذا الخط[35] .

مصر ليست طريقاً آمناً :

إعداد إسرائيل لبنى تحتية تؤهلها للعب دور بديل لمصر كممر لعبور التجارة والطاقة بين آسيا وأوروبا غير كافي، بل لابد أيضاً من إظهار أن إسرائيل باتت أكثر أمناً من مصر للتجارة الدولية بعد الفوضى التي أعقبت ثورة 25 يناير، وهنا يطرح سؤال هام جداً لماذا كانت العمليات الإرهابية الوحيدة التي تصورها وتنشرها جماعة أنصار بيت المقدس في سيناء هي ضرب السفن التي تعبر الممر الملاحي لقناة السويس[36] ؟، ولماذا تركز تلك الجماعة عملياتها على ضرب خط غاز العريش الذي يوصل الغاز إلى الأردن وإسرائيل[37]، والذي ضرب حوالي 30 مرة منذ ثورة يناير2011؟، تبدو كل تلك العمليات تصب في مصلحة إسرائيل بالإيحاء للعالم بأن مصر لم تعد طريقاً آمناً وهي استغلت تلك العمليات إعلامياً بشكل جيد، وخصوصاً ضرب خط غاز العريش حيث أن إسرائيل لديها اليوم غاز يعوض انقطاع الغاز المصري ولن تتأثر بشكل بالغ لكن الأردن هو الخاسر من ضرب هذا الخط، وهذا أيضاً يصب في مصلحة إسرائيل كون الأردن أسهل دولة يمكن تصدير الغاز إليها من إسرائيل عبر مد أنبوب ولمسافة قصيرة، وفي ظل استمرار انقطاع الغاز عن الأردن من مصر نتيجة التخريب فلن يبقى أمامه مناص من الاستيراد من إسرائيل.

العراق (خطوط ما قبل الدولة):

يندرج العراق العائد مجدداً إلى سوق الطاقة بعد غياب لعقود ضمن المشروع الإيراني لتصدير الطاقة إلى أوروبا عبر سوريا، وتتنازع العراق مشروعين بحسب الولاءات السياسية فحكومة بغداد الموالية لإيران تبحث عن إعادة إحياء مشروق خط أنابيب كركوك بانياس، كبديل لتصدير نفطها عبر تركيا (خط كركوك جيهان).

خط كركوك بانياس (الشيعي):

في عام ١٩٥٠ قامت شركة نفط العراق بالتعاقد مع شركة بيكتل لإنشاء خط أنابيب ٣٠ – ٣٢ إنش, و الذي تم تركيبه من قبل عمال بريطانيين, أمريكيين, سوريين و عراقيين. تم الانتهاء من الإنشاء عام ١٩٥٢. قام الجيش السوري بإلحاق الضرر بالأنابيب كرد على الاستيلاء الانكليزي- فرنسي على منطقة قناة السويس عام ١٩٥٦, لكن تم إصلاحه لاحقاً.

في عام ١٩٧٢, قام العراق بتأميم شركة نفط العراق مما أدى لتأميم أصول الشركة في سوريا, ومن ضمنها القسم السوري من خط أنابيب كركوك – بانياس [38].

تم إغلاق الأنبوب خلال الحرب العراقية الإيرانية في خطوة داعمة من حافظ الأسد لإيران, لكن خلال التسعينات تمت إعادة فتحه ليتمكن العراق من تجاوز حظر الأمم المتحدة النفطي.- ذكرت التقارير في ذلك الوقت أن العراق كان يصدر عبر الأنبوب ما بين ١٥٠,٠٠٠ – ٢٠٠,٠٠٠ برميل يومياً- [39]. تم قصف الأنبوب من قبل القوات الأمريكية أثناء الغزو الذي أطاح بصدام حسين في ٢٠٠٣, مما أدى لتوقف التدفق النفطي في الأنبوب.

ذكرت تقارير في ٢٠٠٧ أن العراق و سوريا يدرسان إعادة تأهيل الأنبوب, و مع ذلك, فإن الأمور الأمنية المستمرة قد أوقفت الاتفاق بحسب وزير النفط العراقي في ذلك الوقت الشهرستاني [40]. في نيسان ٢٠٠٩ أعلنت سوريا و العراق مجدداً أن الطرفين قد توصلا لاتفاق بشأن إصلاح الخط. لكن الاتفاق لم يتابع [41].

في نيسان ٢٠١١, قالت سترويترانسغاز أن العراق يضع اللمسات الأخيرة على شروط التعاقد لبناء خطي تصدير للنفط الخام و خط للغاز عبر سوريا إلى ميناء بانياس، و سيتم طرح ذلك للمستثمرين، الخط الأول سينقل الخام الثقيل من منطقة بيجي الشمالية, مع إمكانية أن ينقل النفط من حقول مجنون, حلفايا، بدرة, الأحدب و حقول بغداد الشرقية, إضافة لحقلي نجمة و الكيارة، و الخط الثاني سيتبع مسار الخط المعطوب الموجود حالياً, باستطاعة ١,٢٥ مليون برميل. حتى نهاية ٢٠١١ لم يتم تأكيد المشروع [42].

العراق جزء أساسي في التحالف الشيعي الذي تقوده إيران في المنطقة، لذا فهي تُسير حتى خطوط نقل الطاقة بمسار استراتيجيتها السياسية الطائفية، وبذلك فهي تفضل تمرير نفط العراق وغازه عبر الحليف سوريا كمنفذ متوسطي لها وللعراق، وليس عبر تركيا المنافسة لمشروعها في المنطقة[43]، إضافة لذلك فإن خط كركوك جيهان الحالي يمر عبر فيشخابور في محافظة دهوك العراقية، الأمر الذي قد يهدد سلامة الأنابيب بسبب العلاقة المتوترة مع أربيل والتي من الممكن أن تتطور إلى صراع مع محاولة الأخيرة ضم كركوك المتنازع عليها إلى الإقليم، لذا فإن التصدير عبر سوريا يبدو أكثر ملائمة لحكومة بغداد ومن خلفها طهران .

الكرد وإسرائيل (علاقة حب):

وصف يوسي ميليمان معلق الشؤون الاستخبارية لصحيفة معاريف الإسرائيلية في تحقيق صحفي حول العلاقة بين إسرائيل وكردستان العراق بأنها “علاقة حب”، إذ تعود العلاقة إلى ستينات القرن الماضي وإلى عهد “الثائر” مصطفى البرزاني الذي تحرك ضد الحكومة العراقية بدعم من شاه إيران وإسرائيل، واليوم وفي عهد ” القائد” الابن مسعود البرزاني لابد من الوفاء للحلفاء القدامى، حيث تملء الاستثمارات الإسرائيلية كردستان العراق وهناك تنسيق أمني ومدربين إسرائيليين لقوات البيشمركة، إضافة لتعاون في مجال الطاقة[44] .

في ظل الحميمية والدفء التي تلف العلاقة بينهما يتطلع الطرفان إلى إحياء خط كركوك حيفا:

خط نفط كركوك- الموصل – حيفا: هو خط سابق لخط كركوك بانياس، ينقل النفط الخام المُستخرج من حقول كركوك الواقعة شمال العراق إلى مدينة حيفا الفلسطينية (الآن في إسرائيل)، مروراً بالأراضي الأردنية. يبلغ قطر هذا الأنبوب 305 ملم ويمتد مسافة مقدارها 942 كم إلى أن ينتهي في ميناء حيفا لتصدير النفط إلى باقي العالم. شيدته عام 1932م شركة نفط العراق أثناء الانتداب البريطاني على البلدين، وقد استغرق العمل في إنشاءه 3 أعوام. توقف الأنبوب عن العمل نهائياً عام 1948، بعد أن أوقفت الحكومة العراقية ضخ النفط عبره بسبب حرب 1948 وتأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، حيث كان الجيش العراقي أحد الأطراف المحاربة ضد الدولة العبرية الوليدة آنذاك [45].

بعد احتلال العراق عام 2003، بدأ بعض المسؤولين الإسرائيليين بالتحدث حول إعادة العمل بهذا الخط بعد توقفه لمدة 55 عام، وأن الاستعدادات لمثل هذا التطور جارية، كما أكدت مصادر سياسية إسرائيلية أنه مع تقدم القوات الأميركية والبريطانية داخل العراق، أجرت أوساط عربية حكومية مع ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون اتصالات بهدف استئناف تشغيل أنبوب النفط إلى حيفا. كما قال وزير البنى التحتية الإسرائيلي باريتسكي أن تشغيل أنبوب النفط بين الموصل وحيفا قد يخفض أسعار الوقود بنحو 25%، وكان مصدر في وزارة البنى التحتية الإسرائيلية قد أعلن في شهر أبريل (نيسان) 2005 أن إسرائيل كانت تجري محادثات مع المسؤولين الأردنيين من أجل إعادة تشغيل الأنبوب[46]، إلا أن السلطات الأردنية نفت ذلك في حينها [47].

يخدم هذا الخط التوجهات الإسرائيلية في التحول إلى عقدة نقل للطاقة بين آسيا وأوروبا، كما يخدم الأكراد الذين يتوقون إلى التخلص من “تهريب” النفط بعقود  غير دستورية وبدون موافقة حكومة بغداد عبر تركيا التي تكبح جماح طموحاتهم الانفصالية.

هذا الهدف المشترك للكرد الإسرائيليين، قد يفسر اختيار التحالف الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية للأكراد دون غيرهم من المكونات العراقية كشريك في حرب داعش والتي تسيطر على المسار المفترض لهذا الأنبوب، وقد تدعم أيضاً ضم الكرد لكركوك كونها المنبع، ولكن تركيا لهذا المشروع بالمرصاد كونه من جهة تعدي على مشروعها في الانفراد بنقل الطاقة عبر أراضيها من المنطقة إلى أوروبا، ومن جهة أخرى كونه يدعم التوجهات الانفصالية للكرد وكون كركوك في نسبة لا يستهان بها من التركمان إضافة للعرب، حيث حذرت تركيا إسرائيل بأنها تعتبر مثل هذه التطورات، ضربة جدية للعلاقات الإسرائيلية التركية[48]. يبقى هذا المشروع الخطير على العراق وعلى سوريا كونه يمهد لانفصال كردستان العراق وما يتبعه من أثر على أكراد سوريا، رهناً للصمود التركي والأردني ولصحوة وطنية محتملة في ضمير حكومة بغداد لإيقافه.

الثورة السورية فتحت خياراً جديداً أمام كردستان العراق، كبديل لخط كركوك حيفا الذي تعترضه عقبة تركيا والأردن وهو الوصول إلى المتوسط عبر المناطق السورية التي يقطنها الأكراد، خصوصاً مع تزايد احتمال حصولهم على حكم ذاتي على غرار العراق، ولكن هذا الخيار أيضاً تقف أمامه الانقسامات الكردية حاجزاً، فبينما تدعم أربيل المجلس الوطني الكردي كممثل للكرد في سوريا، تسيطر على الأرض مليشيات pyd التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، والذي لا تحبذ أربيل سيطرته المطلقة كون العلاقة معه ليست على ما يرام، كما أن هذا الحزب يعد الجناح الموالي لإيران وسوريا داخل حزب العمال الكردي، وإيران تقف بطبيعة الحال مع مواقف حكومة بغداد ضد أربيل، وهذا ما يجعل الموقف الرسمي لأربيل قريباً من التركي في الأزمة السورية على عكس حكومة بغداد .

أما إيران في تعاطيها مع ملف الأكراد في سوريا فهي على عكس الموقف التركي لا تمانع من إعطائهم حكماً ذاتياً إذا أوصل حزب الاتحاد الديمقراطي للسلطة، خصوصاً وأن مناطق تواجد الأكراد تقع ضمن محافظات الثقل السني في سوريا (المنطقة الشرقية وحلب) وعلى حدود تركيا، مما يجعلها ورقة ضغط بيدها على تركيا لطالما استخدمها سابقاً حافظ الأسد .

اهتمام إيران بالملف الكردي في سوريا توضحه زيارة لصالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الكردي لطهران في بداية أغسطس 2013 بدعوة من وزارة الخارجية الإيرانية، أجرى فيها مفاوضات مع مسؤولين في الوزارة و قيادات من الحرس الثوري الإيراني , صرح مسلم بعدها لجريدة الحياة بأن إيران أكدت علي حق الأكراد في مشروع “الإدارة المدنية الذاتية” كما أنه اتفق مع الجانب الإيراني علي ضرورة محاربة “عدونا المشترك” في إشارة لجبهة النصرة وداعش، إضافة إلى أن إيران تتوسط بين صالح مسلم و عبد الحكيم بشار رئيس الحزب الديموقراطي الكردي (بارتي) لمعارضة الأخير هيمنة حزب الاتحاد علي الساحة الكردية في سوريا[49].

الخاتمة:

موقع سورية الجغرافي يضعها هدفاً لثلاثة مشاريع إقليمية، يدعم كل منها ظهير عالمي، تلك المشاريع هي:

  • المشروع الإيراني الهادف إلى ابتلاع سورية والهيمنة المطلقة عليها، والذي يصب في صالح روسيا والصين في كسر سياسة القطب الواحد الأمريكية.
  • مشروع تركي يهدف إلى التكامل مع سورية في التحول إلى طريق عبور للطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا، يلاقي هذا المشروع دعماً أوروبياً وأمريكياً و عدم ارتياح إقليمي .
  • مشروع إسرائيلي منافس للمشروعين يقوم على تحويل إسرائيل إلى همزة وصل بين أوروبا وآسيا، يبدو هذا المشروع مستحيلاً إقليمياً ودولياً لاعتبارات عديدة سياسية وأمنية، ولكن إسرائيل تسعى بخطوات حثيثة لفرضه عبر تدمير سورية وإضعاف مصر وتطويقها بأزمات سياسية وأمنية واقتصادية تحتاج لعقود كي تحل، وذلك لدرء حرب قادمة لا محالة حول حقول غاز شرق المتوسط، وإظهار نفسها كبديل وحيد وإجباري لهما في مرور الطاقة والتجارة بين آسيا وأوروبا .

ما يزيد من تعقيد الأزمة السورية واستعصائها عن الحل، هو تلاقي تلك المشروعات في نقاط مشتركة عدة، تجعل انتصار أحدها نصراً مطلقاً على الباقيين أقرب إلى المستحيل من المنظور الواقعي، وتلك النقاط هي:

  • تكافؤ الدول الثلاثة صاحبة المشروعات نسبياً من حيث الثقل العسكري والسياسي والاقتصادي والدعم من أطراف دولية، الأمر الذي يجعل حسم الصراع عسكرياً على الأرض السورية وبوكلاء سوريين أمراً صعباً جداً.
  • غياب رؤية عربية موحدة وموقف عربي محدد اتجاه المشروعات الثلاثة، وبخاصة القوى العربية الفاعلة (مصر- السعودية ومجلس التعاون الخليجي عدا قطر) والتي تؤيد سقوط النظام السوري لضرب المشروع الإيراني، وبالتأكيد هي ضد المشروع الإسرائيلي، ولكن في نفس الوقت لا تحبذ المشروع التركي كونه يدعم تحول تركيا إلى قوة إقليمية بطابع سني مما يؤثر على هذا الدور الذي تلعبه السعودية ومصر.
  • سقوط سورية صاحبة العلاقة من المعادلة الإقليمية، وانعدام أية فاعلية سورية اتجاه ما يجري بحكم التشتت السوري بين نظام جزء من المشروع الإيراني، ومعارضة منقسمة باتجاهين أحدهما متماهي مع المشروع التركي والآخر يمثل وجهة النظر العربية المرتبكة .
  • المشاريع الثلاثة تصب في صالح أوروبا، إذ غايتها نقل الطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا المتعطشة لكسر احتكار روسيا لتصدير الغاز لها، وهذا يتوافق مع الرؤية الأمريكية، ولكن ليس الروسية التي تعي جيداً أهداف أوروبا وأمريكا، لذا فإن الموقف الأوروبي الأمريكي مرتبك في الاختيار بين ثلاثة مشاريع تخطب ودهم، أما الروسي فالثلاثة بشكلها الحالي لا تناسبه، لذلك وعقب تسليم بشار الأسد قياده له بعد اليأس من قدرة إيران منفردة على إنقاذه، لا بد أن يكون لديه مشروع خاص منفصل عن الثلاثة أو تكييف أحد المشروعين التركي أو الإيراني بما يتفق مع مصالحه .
  • المشروعين التركي والإيراني يرغبان بسوريا بخريطتها الحالية، ولا يخدم مصالحهما التقسيم بأي شكلٍ من الأشكال فدويلة علوية للأسد لا تخدم مصالح إيران كون خطوط أنابيبها الواردة من العراق ستمر بالدولة السنية المفترضة وستكون على حدود تركيا، ولن ترغب تركيا بدويلة علوية على حدودها التي يقطنها العلويون، والطرفان ليس في صالحهما أيضاً إقليم كردي جديد في سوريا قد يعزز طموحات الأكراد في تركيا وإيران، تقسيم سوريا هو في صالح إسرائيل فقط ولكن يبدو بعيد المنال كون باقي الأطراف الإقليمية والدولية لا يصب هذا في مصالحها .
  • داعش تعد استثماراً مربحاً للجميع فهي من ناحية تسيطر على الطريق المفترض لخطوط أنابيب إيران في سوريا والعراق وهذا يخدم تركيا، ومن ناحية أخرى فهي تخدم النظام السوري وإيران في تشويه الثورة السورية ووسمها بالإرهاب وتمثل حربها البوابة الوحيدة لدخول النظام إلى شرعية الغرب وإيران إلى شراكته والفعل الإقليمي والدولي، أما إسرائيل فداعش تضمن لها مزيداً من الدمار والفوضى في سوريا ولاجل غير مسمى، وهذا ما يفسر تلكؤ تلك الأطراف في حربها على الأقل إن لم نقل دعمها.

بناءً على المعطيات السابقة تظهر استحالة وجود حل سياسي توافقي في سوريا، إذ تمثل المشاريع الثلاثة التي تستهدفها كخطوط متوازية لا يمكن أن تتقاطع مهما امتدت حول نقاط مشتركة، خصوصاً أن أي فعل دولي لا يمكن أن يمر إلا من خلال تركيا أو إيران لذا تبقى الفاعلية الدولية رهناً بهما، إضافة للحيرة الأمريكية الأوروبية حيال الاختيار بينهما، والرغبة الروسية في كسب الوقت لتثبيت أقدامه أكثر على الأرض السورية، واضطراب  عربي وعدم ارتياح لمشاريع تركيا او إيران .

بداية الحل في سوريا تنطلق من تلك الحيرة العربية التي تشابه تماماً عصور الانحطاط التي عاشتها الأمة بعد الغزو المغولي لبغداد وضعف الخلافة العباسية، حيث تنازعتها آنذاك مشروع فارسي (لم يغفر للعرب خطيئة فتح فارس) بلباس شيعي خلق دويلات شيعية في المنطقة، وعثمانيون يتربصون على الحدود، وصليبيون احتلوا بيت المقدس، ومماليك اشترتهم كل الأطراف لتستخدمهم فهل سينتظر العرب تاريخ تلك المرحلة ليعيد نفسه بكل مراحله، فتقوم الدولة الفاطمية الشيعية والأيوبية الكردية ثم دولة المماليك( الداعشية) ثم لتتوحد المنطقة من جديد تحت لواء الدولة العثمانية، أم سيحرق العرب كل تلك المراحل للدولة العثمانية الجديدة، أي التحالف مع تركيا وهو الحل الأقل ضرراً في واقعنا العربي الحالي المشتت والضعيف، فالمخرج اليوم للأزمة السورية هو توحد الموقف العربي (مجلس التعاون الخليجي عدا قطر وبقيادة السعودية- مصر) مع الموقف التركي وتشكيل جبهة واحدة بشكل ينعكس على موقف المعارضة السورية التي أرهقها الخلاف السعودي مع قطر وتركيا لعامين اضاعت كل إنجازاتها.

فنقاط التلاقي بين المحورين السعودي والقطري التركي أكبر بكثير من نقاط الاختلاف ويمكن تسويتها:

  • المشروع التركي مشروع اقتصادي وليس طائفي كالإيراني يقوم على تشكيل دويلات شيعية ضمن الدول العربية تضعفها لصالح إيران.
  • المشروع التركي تكاملي مع سوريا والعراق ومصر فيما يخص نقل الطاقة، حيث ستبقى لتلك الدول التي بها منابع الطاقة وستمر منها خطوط الأنابيب إلى تركيا أوراق عديدة للضغط على تركيا، والعلاقة ستكون ندية وليست تبعية كما هو الحال في المشروع الإيراني.
  • ليس لتركيا مطامع في الخليج العربي ولا تشكل تهديداً للأمن القومي العربي كما إيران.

أما الخلاف فيكمن في الخوف الخليجي من مشروع تركي لدعم وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في العالم العربي ومنه دول الخليج، وهذا ما يقض مضجع السعودية القائمة أساساً على الشراكة بين آل سعود والوهابية كدولة، يحل بشكل بسيط حيث السياسة التركية وإن كان حزب العدالة والتنمية ينتمي للإخوان المسلمين فهي براغماتية وليس إيديولوجية صرفة في التعاطي مع العلاقات الخارجية والمصالح، وهذا ما يدل عليه عمق علاقتها مع نظام الأسد قبل الثورة، يبقى أن تبدي السعودية بعض البراغماتية في سياستها اتجاه الإخوان، وهنا تبدو تجربة حافظ الأسد جديرة بالاستلهام، ففي الوقت الذي كان فيه يحكم بالإعدام كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين كان نظام الأسد يدعم الإخوان في باقي الدول.

إذاً فالظرف اليوم يحتم على السعودية وتركيا تجاوز ما حدث في مصر وانقلاب السيسي، والبدء بشراكة حقيقية واستراتيجية تقف في وجه المشروع  الإيراني والإسرائيلي الذي يهدد مصالح الجميع .

  • إعداد الباحث : سقراط العلو – المركز الديمقراطي العربي

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل