سرد الذات في السينما: سيرة المخرج الراحل يوسف شاهين أنموذجاً

عمر إدلبي5 أغسطس 2016آخر تحديث :
عمر إدلبي

عمر إدلبي - OMAR EDLBI

قلة قليلة من السينمائيين سردت في أفلامها سيرتها الذاتية، حتى التجارب العالمية على هذا الصعيد اقتصرت على منجزات المخرج إيليا كازان في فيلم «أمريكا.. أمريكا«، والمخرج بوب فوس في فيلم «كل هذا الجاز«، إضافة إلى محاولات أخرى على هذا الصعيد قدمها برجمان وفلليني وبروتولوتشي، في حين كان للعالمي الراحل يوسف شاهين قصب السبق في إنجاز سيرة ذاتية سينمائية عربية، قبل فترة لا بأس بها من محاولات عربية أقل حضوراً على يد المخرج السوري محمد ملص، والمخرج التونسي فوزي بو زيد.

وفي الذكرى السنوية الثامنة التي مرت قبل أيام لرحيل يوسف شاهين عن 82 عاماً، نقف باحترام أمام المنجز الكبير الذي حققه هذا العلم السينمائي العربي والعالمي، تقديراً لريادته، وبخاصة في مجال العمل على سيرته الذاتية سينمائياً، وهي دون شك سيرة ثرية حافلة بكل ما هو مثير للبحث والتأمل، والنقد أيضاً. لا سيما وأن الراحل عاكس على الدوام تيار السائد والمتعارف عليه، فنياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً، ودفع أثماناً باهظة لقاء مواقف نالت الاحترام من قبل الكثيرين، في الوقت الذي تعرضت فيه مواقفه هذه لكثير من النقد والهجوم والتجريح، وصلت حد النيل منه شخصياً.

سيرة شاهين الذاتية هذه حققها عبر أربعة أفلام تقطع الشك باليقين على صعيد دلالتها على كونها أفلام سيرته الذاتية، هذا مع التأكيد أن معظم أفلام يوسف شاهين تبدو وكأنها معادلات بصرية جزئية لتاريخه الشخصي من جهة، وتاريخ المرحلة العربية التي عايشها وكان شاهداً على أحداثها المفصلية وتواريخها العامة من جهة ثانية.

 

فيلم اسكندرية ليه

«إسكندرية ليه»

بداية الرحلة كانت مع فيلم «إسكندرية ليه« عام 1979، حيث قدم شاهين نفسَه في الفيلم عبر شخصية يحيى الشاب (أدى الدور الفنان محسن محيي الدين).

ويحيى هذا فتى إسكنداراني يتنازعه حبه لمدينته وحلمه بدراسة فن السينما في عاصمة السينما العالمية هوليوود، ويعيش في مدينته المفتوحة على ثقافات عديدة مرحلةً تاريخيةً شهدت نضالات الشعب المصري ضد الاحتلال الانكليزي، وتحولات مجتمعية خطيرة وحاسمة بفعل الصراع العربي الإسرائيلي الذي بدأت ملامحه تظهر بوضوح مع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948 وما نتج عنها من بداية هجرة واسعة لليهود من الدول العربية، وبداية تهشم التلاحم الاجتماعي الذي عاشه المجتمع في الإسكندرية بعد وضوح انتماء غالبية الجالية اليهودية لمشروع الدولة الغاصبة (إسرائيل).

فيلم (إسكندرية ليه) يقدم شخصية يوسف شاهين من دون رتوش، عبر سرد بصري ينبع من رؤية شخصية تعي ذاتها وتاريخها، تعري واقع وأسلوب حياة البلد، بمقدار ما تعرّي ذاتها. ويختتم شاهين رحلة الذات مع مشهد ركوبه الباخرة وبداية رحلته إلى هوليوود، في دلالة على بداية زمن الحلم.

 

فيلم حدوتة مصرية

«حدوتة مصرية»

القفزة الثانية لشاهين في مسيرة أفلام سيرته الذاتية كانت مع فيلم «حدوتة مصرية« عام 1982، حيث يقدم شاهين سيرته في هذا الفيلم متبعاً أسلوب السرد الدائري، مفتتحاً الفيلم بمشهد يحيى (المخرج، أدى الدور نور الشريف) وقد تعرض لأزمة قلبية أثناء تصوير فيلم «العصفور« وهو فيلم حققه شاهين عام 1973.

وبفعل هذه الأزمة الصحية تتداعى الذكريات، وتبدأ محاسبة الذات عن كل ما فعلته وما لم تفعله.

وتسير الأحداث المتخيلة لتقدم للمشاهد محاكمة للذات على أحداث واقعية في معظمها، يعري شاهين نفسه من خلالها، ويسائلها ويحاكمها بمقدار ما يحاكم الواقع من خلالها عن الكثير الكثير مما حدث وشوه صورة الذات والمجتمع في آن.

وينتهي الفيلم بعقد مصالحة مع الآخر، الأسرة والمجتمع والعصر، ومع الذات أيضاً، من خلال مشهد المصالحة بين (يحيى) الكبير، والطفل (يحيى) في دلالة على الرغبة بالعودة إلى صفاء النفس وبراءة الطفولة.

 

فيلم اسكندرية كمان وكمان

« إسكندرية كمان وكمان »

الرحلة مع السيرة الذاتية السينمائية لشاهين تابعت مسيرتها في فيلم «إسكندرية كمان وكمان« عام 1990، حيث يضعنا شاهين أمام نفسه، ليعبر عن نظرته تجاه مشروعه الفني أولاً، وتجاه مجتمعه ثانياً، في دعوة صريحة للمصالحة والمصارحة مع الذات والآخرين.

المرحلة الزمنية التي يستعرضها الفيلم عند إنتاجه كانت تحاكي الحاضر تماماً، ولهذا عمد شاهين إلى أسلوب المزج بين الروائي والتسجيلي، وذلك باستخدام السرد الملخص لزمنٍ يمتد على مساحة الحدث، على نحو ما يوثق له من حدث حقيقي يتمثل في إضراب الفنانين احتجاجاً على القانون 103 الذي ينتهك حقوقهم.

الأسلوب التسجيلي هذا أفسح المجال لتدفق حركة الشخصيات، ولا سيما الشخصية الرئيسية (يحيى) الذي أدى دوره الفنان نور الشريف، فيما ساهم الأسلوب الدرامي بتعزيز المتخيل السينمائي والصناعة البصرية، وذلك باعتماد السرد البصري زمناً تسرده الصورة داخلياً، بحيث يتوضح بحركة الكاميرا في متابعة الشخصيات، ولا سيما عندما تعمل الكاميرا على الابتعاد عن بؤرة الحدث، وتتحول لتبني سرداً وصفياً للمكان ومعالم الشخصيات.

هذا الأسلوب المزجي استدعته ضرورة فنية تنبع من وجهة نظر المخرج الفكرية التي تأكدت من خلال مناقشته ثنائية الديموقراطية/ الديكتاتورية، وهي ثنائية لطالما وسم الجدلُ فيها أعمالَ يوسف شاهين عبر رحلته الفنية كاملة.

فيلم اسكندرية نيويورك

«إسكندرية ـ نيويورك»

آخر حلقة من سلسلة أفلام السيرة الذاتية ليوسف شاهين قدمها في فيلم «إسكندرية ـ نيويورك« عام 2004، وفيه قدم شاهين نفسه في رحلة إلى أميركا تكريماً له على مسيرته الفنية، وذلك بعد أحداث 11 أيلول، وفي خضم أحداث تفرض المقارنة المحزنة بين جيلين يمثلهما شاهين نفسه من جهة، (يحيى) الذي أدى دوره الفنان محمود حميدة، وابنه الأميركي من جهة ثانية، وهو ابنه من صديقة أميركية عاش معها قصة حب أثناء دراسته في أمبركا، تركها حاملاً وعاد إلى مصر بسبب ظروف عائلية.

هذه المقارنة لا تتوقف على مقارنة جيلين، بقدر ما هي مقارنة بين زمنين، تبدلت خلالهما القيم الإنسانية والفنية وأوضاع العالمين الدولي والعربي تبدلاً يثير الحزن والأسى على مصيرنا ومصير الإنسانية.

الفيلم حافل بسرد التداخل، حيث تقوم بنيتُه على مجموعة محاور متداخلة، تتخللها تقنيات الارتدادات والقفزات والوقفات، ما فرض على المخرج استخدام تقنيات مساعدة على ربط المحاور ذهنياً، للحفاظ على تماسك السرد ووضوح غايات الفيلم، وهذا النمط من السرد البصري نشهد له مثيلاً في معظم نصوص السيرة الذاتية، واعتماده في فيلم سينمائي ينطوي على مخاطرة كبيرة على سلامة الوحدة الموضوعية، لكننا في هذا الفيلم نشهد حلولاً بصرية إخراجية تعزز القناعةَ بإبداع شاهين وريادته وعلوّ شأنه في مجال الإخراج السينمائي.

ختاماً، نؤكد أن ريادة الراحل الكبير يوسف شاهين التي نشير إليها، تمثل على الصعيد الفني مشتركاً بين جمهور النقاد، بعكس ريادته بوصفه فناناً له خط فكري خاص ووجهة نظر خاصة، التي يرى الكثير أنهما محل نقاش، قد نتفق مع البعض في بعض انتقاداتهم له بناءً عليها، وقد لا نتفق مع البعض الآخر.
يوسف شاهين

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل