ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: السبعون العجاف

صبحي حديدي15 ديسمبر 2017آخر تحديث :
ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: السبعون العجاف

في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، الذي يصادف اليوم العالمي لحقوق الإنسان، دشن أنتونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، سلسلة احتفالات بالذكرى السبعين لوثيقة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»؛ التي كانت قد أقرّت في قصر شايو، قرب العاصمة الفرنسية باريس، في 10/12/1948. وشدد غوتيريس على أنّ الوثيقة تمثّل «واحدة من الاتفاقيات العالمية الأشدّ عمقاً، والأوسع انتشاراً»، وكذلك لأنّ حقوق الإنسان هي «ثالثة أعمدة المنظمة الدولية، بعد السلام والتنمية».

من جانبها، ما تزال مؤسسة «غينيس» للأرقام القياسية تؤكد أنّ الوثيقة هي الأكثر ترجمة إلى لغات العالم: 500 لغة ونيف!
ولعل استعادة بعض الوقائع التي اكتنفت صياغة وإقرار الوثيقة قد تكون مفيدة على أكثر من صعيد، بادئ ذي بدء؛ كأنْ يضع المرء معايير الماضي على محكّ الحاضر، وربما بشائر المستقبل الدانية أيضاً؛ أو أن يتبصر في متغيرات القِيَم ذاتها التي آلت إلى ولادة الوثيقة، وما إذا كانت قد تأصلت أو انحسرت أو انحدرت أو حتى انقلبت رأساً على عقب. ولم يكن عجيباً أن يمزج غوتيريس نبرة الاحتفال بحسّ الأسف لأننا «ما نزال نرى الكراهية، وانعدام التسامح، والأهوال والجرائم»؛ في الحدود الدنيا لانتهاكات حقوق الإنسان، كما يتوجب تذكير الأمين العام، إذْ أنّ الانتهاكات لا تبدأ من الإبادات الجماعية ولا تنتهي عند إعادة إنتاج أنماط معاصرة من الهولوكوست ذاته الذي كان أحد أهمّ حوافز وثيقة 1948.

ولعلّ أبرز ما يصحّ استذكاره من وقائع جلسات قصر شايو أنّ اللجنة الخماسية، التي تولت مناقشة الوثيقة وتعديلها وإقرار صيغتها النهائية، تألفت من خمسة: السيدة إليانور روزفلت، زوجة الرئيس الأمريكي وأوّل شخصية تتولى رئاسة مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة؛ وشانغ بينغ شون، الفيلسوف والمسرحي والدبلوماسي الصيني؛ وشارل مالك، الأكاديمي والحقوقي اللبناني، الذي لعب دوراً كبيراً في الصياغة؛ ورونيه كاسان، المستشار القانوني للرئيس الفرنسي شارل دوغول؛ وجون همفري، الأكاديمي الكندي، الذي اقترح المسودة الأولى. وهذا التوزع الجغرافي يبدو، للوهلة الأولى ممثلاً لقارّات ثلاث، وحساسيات ثقافية وسياسية متنوعة؛ لولا أنّ «المزاج» الغربي ظلّ هو المهيمن، كما تناقش هذه السطور في فقرات تالية.

في الوقائع، أيضاً، أنّ الدول التي صوتت لصالح الوثيقة ضمّت عدداً كبيراً من ممثلي ما كان يُسمى بـ«العالم الثالث»؛ مثل أفغانستان وبوليفيا وبورما وكولومبيا وكوستاريكا وكوبا والدومنيكان والإكوادور والسلفادور وأثيوبيا وغواتيمالا وهاييتي وليبيريا ونيكاراغوا وبنما والباراغواي وبيرو والفليبين وتايلاند والأوروغواي، فضلاً عن الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والهند والمكسيك ونيوزيلندا والباكستان وفنزويلا. كما صوتت، من بلدان الشرق الأوسط، مصر والعراق ولبنان وسوريا وتركيا وإيران. وكان لافتاً أنّ السعودية وجنوب أفريقيا (أيام نظام الأبارتيد، بالطبع) امتنعتا عن التصويت؛ أسوة بمجموعة دول المعسكر الاشتراكي يومذاك. وفي هذا التوزّع دلالات سياسية وجغرافية وثقافية، كذلك.
من حيث المحتوى، لا جدال في أنّ الوثيقة كانت خطوة حاسمة متقدمة على النطاق الكوني لحقوق الإنسان، في اعتبارات عديدة لعلّ أبرزها أنّ موادّ الإعلان الثلاثين تضع البشر أجمعين في مصافّ مساواة واحدة، طبقاً للمادة 2 مباشرة: «لكلّ إنسان حقّ التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييز عل أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاً أو موضوعاً تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أم خاضعاً لأي قيد آخر على سيادته».

وهذه نقلة نوعية كبرى بعيداً عن ثنائيات العالم الغربي، القديم والوسيط والحديث، الذي حفل بالثنائيات المتضادة، حتى وهو يرفل في بهاء عصور الأنوار، على غرار «السيد/ العبد»، و«المستعمِر/ المستعمَر»، و«الأبيض/ الملوّن»، و«الغرب/ الشرق»… كذلك فإنّ المادة 4 ـ التي تقول: «لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرقّ والاتجار بالرقيق بجميع صورهما» ـ ألغت، وإنْ على الورق بالطبع، تراثاً طويلاً من اتجار الغرب بأبناء المستعمرات في طول العالم وعرضه. وكذلك توجب على المادة الأخيرة، التي اعتبرت أنه «ليس في هذا الإعلان أي نصّ يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حقّ في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه»؛ أن تُبطل مفهوم «العبء التمديني» الذي نسبه «الرجل الأبيض» إلى نفسه، وتضع كامل عواقبه موضع مساءلة جذرية.

والحال أنّ المظانّ التي طعنت في مصداقية الإعلان إنما بدأت من هذا الملفّ تحديداً: المشروع الاستعماري، الذي نهض جوهرياً على انتهاك المادة الأولى في حقوق البشر: «يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق». فالإعلان يغفل الإشارة إلى حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، بل يبدو وكأنه يسوّغ سياسات الوصاية والانتداب والهيمنة من خلال السعي إلى تلطيفها فقط، بدل المطالبة بإلغائها. ولم يكن هذا عجيباً إذا استذكر المرء حقيقة أنّ القوى الكبرى التي رعت الإعلان، لم تكن سوى تلك القوى الغربية الكبرى الضالعة، ماضياً أو يومذاك، في مشاريع استعمارية هنا وهناك في العالم.

في البُعد الثقافي، لم تكن مشاركة الصيني شون واللبناني مالك ذات أثر كبير في إسباغ صفة ثقافية كونية على روحية الإعلان؛ ليس لأنّ الأوّل اتكأ على مرجعية أخلاقية مثالية مستمدة من الكونفوشيوسية، والثاني كان ربيب فلسفة الحقوق الغربية، فحسب؛ بل، كذلك وأساساً، لأنّ قِيَم الإنسان الغربي كانت رأس المرجعيات في تلك الحقبة، خاصة من حيث تثبيت «صورة العالم» كما ارتسمت في النزعة الفردية وفلسفة الأنوار والتنظيرات الليبرالية. إنها، كما عبّرت الإيرانية شيرين عبادي في محاضرة جائزة نوبل للسلام، معايير حقوق الإنسان التي «تُنتهك أيضاً في الديمقراطيات الغربية، أي في البلدان التي كانت هي ذاتها في عداد روّاد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان».

وفي ضوء حصيلة إعلان 1948، وهي سبعون عجاف في كلّ المقاييس، يبدو مشروعاً تماماً الاستخلاص بأنّ الوثيقة عجزت عن تمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول روح الحقوق وصلاح القوانين وصواب العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ هذا إذا وضع المرء جانباً تلك الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوئ البنيوية، والتي لم تكن قليلة أو ضئيلة الأثر حتى بمفعول رجعي. وهذا، في المقابل، لا يلغي البتة أنّ الإعلان كان حصيلة صراع الغرب مع وحشيَن كاسريَن: الدولة ـ الأمّة، سيّما حين تحتكر العنف؛ والرأسمالية الصناعية، لأنها في طبيعتها لا تكفّ عن احتكار الجهد الإنساني وفضل القيمة. ذلك هو السبب في أن تسييس تلك الحصيلة، أي تحويلها إلى أداة لكيل القيمة ذاتها بأكثر من مكيال، يجعل المشهد السبعيني لإعلان 1948 حافلاً بالمتناقضات والأضاليل والأكاذيب.
صحيح أنّ ثنائيات العالم القديم انحسرت، على الورق في أقلّ تقدير؛ ولكن ماذا يرى الناظر إلى أخلاقيات حقوق الإنسان المعاصرة، كما يزعم إعلاء راياتها أمثال دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، أو يسهر على انتهاكها أمثال بنيامين نتنياهو وبشار الأسد؟ هل تُداس بالنعال، فقط؛ أم أنها، أيضاً، انقلبت… رأساً على عقب؟

المصدر القدس العربي
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل