هل فقدت الأرض جاذبيتها؟

رغدة حسن2 سبتمبر 2017آخر تحديث :
رغدة حسن

نريد ميزانًا جديدًا لرؤية التاريخ في حركته السياسية المتداولة، ورؤية مظاهر الجحيم الدكتاتوري عن كثب.

عبر الأزمنة ثمة ما كان يُنحت ويتحضر، لتكتمل هيئة الديكتاتور التي نعرفها ونواجهها الآن.

عبر كل التجارب السابقة والخبرات العميقة في أشكال الحكم و التسلط، جاءت النسخ التي نتعامل معها الآن تحمل موروثات فاقت في طغيانها كل ما عرفته الذاكرة البشرية من استبداد وتوحش، منذ نمرود ابن كنعان مرورًا بجنكيز خان وكاليغولا وفلاد أو المشهور بلقب دراكولا.

في الزمن القريب صعد نجم وحوش وجزاري البشرية الذين ارتكبوا مجازر مروعة لا تدع ذاكرتنا تهدأ حين نأتي على ذكر تفاصيل منها، وهذه الأسماء مازالت حاضرة بمجازرها وطغيانها، محفورة في ضمير البشرية، من راح ضحيتهم ملايين الأرواح في حملات تطهير عرقي ومجازر إبادة جماعية،ذُكر أن ليوبولد الثاني ملك بلجيكا قد وصل عدد ضحاياه إلى 15 مليون شخص في حملته لبناء الكونغو الحرة، والتي كان يعتبرها مزرعته الخاصة.

إن الديكتاتور الظاهر، والواضح الأبعاد، لا يحتاج إلى اجتماع بلدية منسية قرب الصقيع السيبيري ليعرّف.

وإذا تابعنا في استحضار أسماء الطغاة، لن تنتهي، اللائحة طويلة لكن هناك من استحوذ على مكانة لا ينازعه عليها أحد، كـ ستالين وهتلر ونيكولاس الدموي وميلوسيفيتش وكاراديتش وعيدي أمين دادا، قائمة طويلة “قد لا تنتهي” إلى أن نصل إلى بشار الأسد في سوريا.

رسائل وأدب ويوميات الحروب الطويلة، عاجزة عن تويثق ما حدث فعلًا من انتهاكات و قتل وإبادة لجماعات بشرية لا ذنب لها، سوى أن السيد الحاكم لا يرضي غرائزه وعشقه للقتل إلا المزيد من الدماء، ومازال دم الهنود الحمر يصرخ في فضاء البشرية للاقتصاص ممن ارتكبوا به أبشع المجازر.

إذًا بأي ميزان سنكيل حقيقة جحيم الاستبداد؟

إن الديكتاتور الظاهر، والواضح الأبعاد، لا يحتاج إلى اجتماع بلدية منسية قرب الصقيع السيبيري ليعرّف، لأنه مرئي وظاهر، لكن الاستبداد المقنّع كيف سنوثق انتهاكاته؟

كيف سنجره إلى محاكمة؟

وهل سيكتفي الدم المهدور بالمحاكمات وحسب؟

في البلاد المسقوفة بمظلة حقوق الانسان، قد نبحث عن هذه الحقوق ولا نطالها، قد يكون العيب في قاماتنا، أو قد تكون تلك المظلة خفيفة الوزن ترتفع نحو الأعلى عند كل محاولة لملامستها.

في كل لحظة يعيش اللاجئ معاناة بحجم ساطور ضخم يهوي على عنقه.

ساطور القهر المصحوب بالحصار، ” ولا مفر”.

القهر من الدونية التي تأتي من صناديق البريد ومحطات القطارات ومراكز التسوق والمستشفيات والمدارس … إلخ

يعملون على أن تنفذ عميقًا في روح اللاجئ، وكلما امتثل لقوانينهم، كلما ازداد جموح التسيّد لديهم.

كأن كل هذه الحكومات باتت من أتباع تشرشل في مقولته الممتلئة بالحقد، التي تختصر كل الحكاية:

“إنني مؤيد جدًا لاستخدام الغازات السامة ضد القبائل والشعوب غير المتحضرة، سيكون لهذا العمل أثر أخلاقي جيد، وسينشر الرعب حول العالم”.

ليس إجحافًا أن نصرخ في وجوه من ادعوا صون الكرامات والحقوق، ومناصرة الضعفاء أو المتورطين في ربيع لم يزهر بعد.

وليس من العدل ادعاء الطرش والعمى حين يمر موكب من النساء الثكالى يبحثن بين الجموع عن أطياف من فقدوا، ويسعين لتأمين سقف يحتمين به من نظرات الشفقة المبتذلة.

كما ان من العار أن تصمت أقلامنا، حين تسجل المنظمات يوميًا حالات الاعتداءات العنصرية بكل أشكالها المتفشية، هذا وقد كانت فرنسا أم الثورات، قد حققت أعلى نتائج للعام الفائت.

نشرت “اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان” تقريرا يشير إلى تفشي العنصرية في فرنسا وتغلغلها في كافة طبقات المجتمع.

وأوضح التقرير أن مستوى التسامح في البلاد في تراجع مستمر منذ أربع سنوات وأن العنصرية لم تعد تترجم باعتداءات جسدية، لكن الألفاظ العنصرية تنتشر بين كافة طبقات المجتمع.

ما يؤسف حقًا، أن المجتمعات التي يحاول اللاجئ أن يتعايش معها، اختصرت صورته بما يقدمه الإعلام لها، من وجبات دسمة كل يوم تحمل إنذارات وتنبيهات من شر القادمين من الشرق.

وها هو اللاجئ  يحمل عبء أكثر من قضية، سوريا والطريق إليها كما كان يحلم حين انطلقت أول صرخة حرية في البلاد، وعبء التأقلم مع واقع غريب يرفض وجوده، ويحمله مسؤولية الكوارث التي حلّت في بلاده.

مهمة الضمير الإنساني أن يحاكِم ويقاوم إلى أبعد حد، لا أن يبحث عن الذرائع والمسوّغات هنا وهناك.

الديكتاتوريات القديمة غيّرت لبوسها ومكياجها، لكنها لم تقلّم أظافرها، واستعانت بقلوبنا لشحذ أنيابها، وتعمل جاهدة على قبولنا بالرضوخ لعملية التدجين.

في كل خطوة يحاول اللاجئ أن يتقدم بها، يقع فريسة سهلة للهستيريا من شدة التناقض، تلك الهيستريا التي تلحق محاولة فهم التناقض أو الخديعة، لأن اللافتة التي كانت تدله على وجهته، والتي من المفترض أن تؤدي إلى مكتب لحماية حقوق اللاجئ، تأخذه إلى شرك خبيث.

أشد ما يؤلم أن هناك الكثير من اللاجئين أصابهم خلل ما، حين حاولوا فهم واقعهم الجديد، وهاهم الآن يقبعون في مصحات للأمراض النفسية والعقلية.

كل سوري جاء حاملًا قطعة جمال من بلاده، محتفظًا بذاكرته التي يأبى أن يفقدها، ولأن هذا الجمال يحدث تغييرًا وفارقًا في تركيبة المجتمع الذي حلّ عليه نزيلًا مؤقتًا، هذ كله أثار حفيظة وخوف الحكومات والمؤسسات التي تحكم هذه الدول، فبدأوا ببناء السدود لدرء فيضان التميز السوري، وعلّقونا على خطّاف الوقت.

مهمة الضمير الإنساني أن يحاكِم ويقاوم إلى أبعد حد، لا أن يبحث عن الذرائع والمسوّغات هنا وهناك.

وهذا يدعونا للتساؤل: في هذا العالم المختنق، إلى أين سنلجأ مرة أخرى،

إذا فقدت الأرض جاذبيتها؟

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل