صخر الحاج حسين: سيرة بطل دونكشوتي

عبد الكريم بدرخان23 ديسمبر 2017آخر تحديث :
عبد الكريم بدرخان

ثمة أشخاص تلتقي بهم لخمس دقائق في العمر، ولا يمكنك نسيانهم طُول العمر. إما لخفّة الظلّ أو براعة الوصف أو جرأة الطَّرْح أو شهامة الموقف، أو لأنّ فيهم جاذبيةً مغناطيسيّة غريبة، تشدّك إليهم، وتجعلك تتعلّق بهم، وتنتظر منهم أي كلمة أو تصرّفٍ بديعَين. هكذا كان المترجم الراحل صخر الحاج حسين، مزيجًا من الظُرْف والدهشة والغرابة واللُّطف والنَّـزَق، تختلف معه أو تتّفق معه، لكنك تعترف في الحالتين أنك أمام شخصيّة مميّـزة ونفْسٍ كبيرة.

ما سأكتبه عن صخر، لن يشمل سيرته الحياتيّة الممتدة على قرابة خمسين عامًا، بل ما أعرفه من هذه السيرة، منذ أن تعرّفت عليه افتراضيًا في العام 2011، ثم لقاءاتنا في تركيا عامي 2013 و2014، وحتى آخر اتصالٍ بيننا في تموز 2017. وأعتذر من عائلته سلفًا في حال أوردتُ أي معلومة غير دقيقة.

 شخصيّة صخر

شخصية صخر هي شخصية النبيل الأرستقراطي، فمِنَ الواضح أنه نشأ في عائلةٍ مهتمّة بالآداب والفنون، وأنه تربّى (وربَّى ذائقته) على قراءة الأدب العالمي ومتابعة السينما الراقية، وهو موسوعة في المجالَين. ولكي أوضّح ما أقصده بهذه الشخصية، أقول إنها شخصية تنشُد السُمُوّ في كافة الأعمال المادية والمعنوية، وهي شديدة الحساسيّة وسريعة النزق، تُبدي إعجابًا هائلًا بكلّ ما جميل، بدءًا من تسريحة شعر أو ربطة عنق، إلى ضحكةٍ مميزة أو نكتةٍ حاذقة، وصولًا إلى الأعمال الأدبية والفنيّة. وهي في المقابل شخصيّة تزدري كل ما هو رديءٌ وسوقي، بدءًا من سلوك الإنسان في حياته اليومية، وصولًا إلى الأدب والفنّ والفكر والسياسة.

عمل صخر في تدريس اللغة الإنغليزية (كما يحبّ كتابتها) في ثانويات حلب، وكان يخصّص بعضًا من ساعات الليل للترجمة، وكان “يُنتج بـالكلمة” كما وصفه أحد أصدقائه كدلالةٍ على دقّته في الوقت والإنتاج. ثم غادر سوريا في عام 2010 طلبًا للرزق، فعمل في السعودية ثم في الإمارات، وكان آخر عملٍ له في قناة “سكاي نيوز عربية”. وفي كل الأوقات والأحوال، كانت القيم العليا عند صخر هي قيَم الأدب: الحقّ والخير والجمال. فلطالما كان يزدري المال والتهافُتَ على المادة والنزعة الاستهلاكية، فهو يأخذ من المال (ولو كان مال الدنيا كلّها) ما يكفيه للاعتناء بمظهره الأنيق، واقتناء كتبه وعطوراته وغلايينه وغيرها من أشيائه الخاصة، ثم يوزع البقية على كل من يحتاج (وأنا شاهد على بعضٍ من هذه المواقف). كان احتقاره للمادة مكوّنًا أساسيًّا في شخصيته، فهو لا يخشى خسارة أي شيء، لأنه في الأصل لا يملك أي شيء، باستثناء نفْسٍ عزيزة وإرادةٍ صلبة.

وكأنه تربّى في اليونان القديم، كان شديد الحذر والتحذير من مُحدَثي النعمة، وخطورتهم على السياسة والاقتصاد والثقافة. فهو لم يتوقف يومًا عن انتقادهم والسخرية اللاذعة منهم، سواءً مَنْ صنعَهم فسادُ النظام أو مَنْ ركبوا الثورة وأثرَوا بسببها. وهو -في ذلك- يذكّرني بـالأستاذ حنّا عبّود (أطال الله عمره)، إذ يرى أن العالم منقسمٌ إلى فئتين، فئة تحاول امتلاكه ماديًّا، وأُخرى تحاول امتلاكه جماليًّا.

أعتقد أنّ محبّة الكثيرين له؛ تعود إلى أنه مثَّلَ نموذجًا مختلفًا عن الصورة النمطية السائدة للمثقف السوري، أعني المثقف المنتوف، العاطل عن العمل، رديء الذوق والسلوك.  كما كان الراحل من أكثر المثقفين، بل أكثرهم، تواضعًا على الإطلاق. فهو لا يتعالى أو يتكلَّف أو يتحذلق، ولا يستخدم لغةً طِلَّسْميّة لكي يُدهش الناس بثقافته، ويُقنعهم بمكانته “الأعلى” منهم. وخلال معرفتي به، عرفتُ أنه يخجل من نشر روابط مقالاته ودراساته على صفحته في الفيسبوك، وكذلك أغلفة الكتب التي ترجمها، لكيلا يحسّ -بينه وبين نفسه- أنه يروّج لنفسه أو لأعماله.

كما أودّ التنويه إلى أن شخصيّة صخر على الفيسبوك (وأغلب الناس عرفوه من الفيسبوك)، حيث يبدو غاضبًا ونَزِقًا على الدوام، مختلفة تمامًا عن شخصيته في الواقع، فهو مهذّبٌ جدًّا وخجول كالأطفال.

مرض صخر

في بداية العام 2015، اكتشف صخر إصابته بسرطان الرئة، فخضع لعمليّة جراحيّة ثم لجلسات العلاج بالأشعة، وتعافى من المرض. لكنه في أواخر العام ذاته، اكتشف إصابته بسرطان الدماغ، وهنا لا يمكن إجراء عملية استئصال للوَرَم، فخضع لجلسات العلاج الكيميائي إلى أن وافتْه المنية يوم 22-12-2017.

خلال عامي 2016 و2017 انقطع صخر عن العمل في قناة “سكاي نيوز”، ثم صار يعمل لمدة ساعتين في اليوم، ثم توقّف. وقد وجدَ في مرضه وقتَ الفراغ الذي كان يحلم به، لكي يعود إلى الترجمة وكتابة المقالات والدراسات. لقد جعلَه المرضُ يرى الحياة أجمل، ويُعيد اكتشاف ذاته، مُبتعدًا عن السياسة والأخبار، ومنهمكًا في الشُغل الثقافي. لكنه اصطدم بواقعٍ جديد، فكثيرةٌ هي الأشياء التي تغّيرتْ منذ خروجه من سوريا عام 2010 إلى مرضه أواخر العام 2015. فهو لم يعد يستطيع النشر في الصحف والمجلات ودور النشر السورية الحكوميّة أو الخاصّة، بسبب موقفه المبدئي والراديكالي إلى جانب الثورة السورية. وهكذا بدأ بمراسلة دور نشر عربية “مرموقة” لعرض كتبه المترجمة أو التي ينوي ترجمتها، وكانت أغلب الدور تكتفي بعدم الردّ على رسائله. ثم راسلَ صحفًا عربية “مرموقة” لنشر مقالاته فيها، وأيضًا لم يتلقَّ منها جوابًا يُذكر. أما مَنْ نشرَ لهُ فلم يدفعْ له حقّه في الاستكتاب، في حدود معرفتي.

كانت الكتابة والترجمة أثناء مرضه، بمثابة المقاومة الأجدى للسرطان، والمحاولة الأنجع للتمسّك بالحياة. فهو من الأشخاص الذي لا يستطيعون الجلوس ليوم واحدٍ دون عمل، وممّن يملكون شغفًا كبيرًا في القراءة والترجمة، كما أنه بحاجةٍ إلى مردودٍ ماديّ يساعده على تحمُّل نفقات العلاج. مرةً أشرتُ لهُ بأنْ يُراسِلَ دورَ نشرٍ سورية في الخارج، منها ما هو محسوبٌ على الثورة والمعارضة، وقد كانت النتيجة أنهم لم يَردُّوا عليه، فوصفَهم لي قائلًا: “ولاد، وشايفين حالهم”. كما حاولَ أنْ ينشُرَ مقالاتٍ وترجماتٍ في الصحافة السورية الثورية، وفي الصحافة العربية التي يتنفّذُ فيها سوريُّون ثوريُّون، وكانت النتيجة ذاتها: الإهمال والتهرُّب. وهكذا وجدَ نفسه مُقصًى من الطرفين؛ النظام والثورة، ومحاربًا من كليهما معًا.

وفي النهاية، قرّر أن يستمرّ بالترجمة، وبشكلٍ يوميّ، دون أيّ اهتمامٍ إذا ما كانت ترجماته سوف تنشَرُ بعد موته أم لا. كانت الترجمة فعلَ حياةٍ أطالَ عمره لسنتين، مثلما كانت سببًا في مرضه العضال، لقد لعبتْ دورًا في حياته كما في موته.

بعد وفاته بساعات، سمعتُ من أحد زملائه في “سكاي نيوز”؛ إنّ الراحل كان يسألُ قبل شهرين عن إمكانية عودته إلى سوريا، إذ كان يحلُم بأنْ يموت ويُدفَن في مسقط رأسه مصياف. لكنْ يبدو أنّ سارقي الوطن لم يسمحوا له حتى بقبرٍ تحت ترابه.

ترجمات صخر

علمتُ من صخر ومن أصدقائه أنه ترجم ما بين 35 إلى 40 كتابًا، بالإضافة إلى عشرات المقالات والدراسات. لكنني لم أستطع إحصاءَ سوى 12 كتابًا منها، معظمُها صادرة عن دار “قدْمُس” ما بين عاميّ 2005 و2010، والسبب -كما اتّضح لي- أنه قد نشرَ معظم ترجماته في زمن ما قبل الإنترنت، وفي دور نشرٍ لم تهتم -كما يبدو- بتوثيق إصداراتها على الشبكة فيما بعد ذلك. وهنالك أيضًا تقصيرٌ من الراحل في توثيق سيرة حياته وأعماله، ومنها:

  • “ثلاث مقالات في الدولة التوتاليتارية”: إريك فروم، حـنّـة أرندت، ريتشارد لوينثال. دار عبد المنعم- ناشرون، حلب.
  • “في انتظار البرابرة”: ج.م. كويتـزي. رواية، دار ورد، دمشق.
  • “حياة أقلّ من عادية”: بيبي هِلْدر. رواية، دار قدمس، دمشق.
  • “بـشَـرٌ للـرَّمـي: العبودية الجديدة في الاقتصاد العالمي”: كِـفِن بلز. دار قدمس، دمشق.
  • “صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث”: جويا بـلِـنْدل سَعد. دار قدمس، دمشق.
  • “جذور الثورة الإسلامية في إيران- عهد محمّد مُصدَّق”: سَـبْـهر ذبيح. دار قدمس، دمشق.
  • “التوراة جاءت من جزيرة العرب: أورشليم والهيكل وإحصاء داود”: كمال الصليبي. دار قدمس، دمشق.
  • “سياحة الليل.. سياحة النهار: الخليجيّون والأوروبيّون في مصر”: ليسا وَن. دار قدمس، دمشق.
  • “الحمامة: التاريخ الطبيعي والثقافي”: بربارة ألين. مشروع كلمة، أبو ظبي.
  • “البقرة: التاريخ الطبيعي والثقافي”: حنّة فيلتين. مشروع كلمة، أبو ظبي.
  • “من المسرح الإفريقي: ثلاث مسرحيات قصيرة”: وزارة الثقافة السورية، دمشق.
  • “البقاء”: مسرحية من تأليف “مجموعة العمل الدرامي 71”. سلسلة المسرح العالمي، عدد آب/أغسطس 1998، الكويت.

كما توجد لدى الراحل مخطوطاتٌ مترجمة لم تنشر بعد، أعرف منها روايةً لـ سلمان رشدي، وكتابًا عن النِّـسْوية، وأطروحة ماجستير في علم الجمال لباحثة أُستراليّة، وقاموس “السلانغ والتشات والرسائل النصيّة” الذي كلَّفني بتقديمه.

خاتمة

بمِثْلِ صخر الحاج حسين، تزدهرُ الثقافة وترتفعُ القيَم وتُبنى الأوطان. وبمثلِهِ تُعود الأخلاقُ الدونكشوتية إلى الساحة، وتُواصلُ معركتَـها ضدّ أخلاق سانشو وحميره. لا بمَنْ تصدَّروا المشهدَ الثقافي السوري، على ضفتيّ النظام والمعارضة، وأقصَوا صخرَ وأمثالَه عن المشهد، لأنهم لم يقبلوا بالسُكُوتِ عن السُلوكيّات والكتابات الرديئة، ولم يَرْضَوا لأنفُسِهم الانخراطَ ضمنَ الشلَلِ والعصاباتِ العابرة للقارات.

أغلفة عدد من الكتب التي ترجمها الراحل صخر حاج حسين
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل