رزان الثائرة.. صوت الحرية المخطوف

فريق التحرير28 سبتمبر 2017آخر تحديث :
ريم زيتونة

كم من الصعب أن نكتب عمّن نحب وأن نختصر سنين طويلة عاشوها ضمن صفحة واحدة!!

حروف معدودة تتحول إلى قصة، أو ربما خبر أو مجرد أسطر في تاريخ طويل بدأ ولم ينته، وقد يمتد سنين عديدة دون أن نذكر جميع التفاصيل أو الأحداث وإنما فقط بضعة كلمات تمتد بمشاعرنا إلى ما لا نهاية إلى المستحيل إلى الحلم ..

ولكنّي ها هنا أكتب عن رزان زيتونة.. شقيقتي التي حبست ضمن زجاجة محكمة الإغلاق ورميت بعيداً في المحيطات، لا أحد يعلم أبداً في أي ميناء هي ولا على أي شاطئ رست، قد تكون قريبة جداً منا، وقد تكون بعيدة، ولكن صوتها العالي ما زال يصدح بالحرية التي ستكسر جدار زنزاتها يوماً وستعود من جديد.

لطالما عاشت رزان ما تؤمن به، فنهج رزان كان واضحاً جداً ومحدداً ومكملا لطريقها الذي سلكته لمدة عشر سنوات قبل انطلاق الثورة، لم يكن مفاجئا أو مخططاً له، وإنما هو مسيرة كاملة لكتاب من المبادئ خطته بنفسها ومشت به إلى يوم تم تغييبها.

استطاعت رزان فرض مصداقيتها على الجميع من خلال صدقها في تعاملها الحر والموثوق وإيثار الآخرين على نفسها، بالإضافة إلى قلمها الحر الذي خط قصصاً عديدة وتقارير حقوقية ومشاعر آنية، وتجسيد كامل للمناداة والدفاع عن حقوق المرأة والطفل ومعتقلي الرأي، كما شهدت لها أبواب وقاعات محكمة أمن الدولة مقارعتها لقاضي التحقيق وجرأتها اللامتناهية للنقاش والمجابهة في حين يرتعد الآخرون من مجرد الفكرة.

احتلت القضية الكردية جزءا من همها ووقفت إلى جانب الأكراد الذين سلبت حقوقهم لعدة سنوات على الأراضي السورية وانتزعت منهم بطاقاتهم واثباتاتهم الشخصية وعوملوا معاملة لا تشبه البشر بأي شيء، وعندما هبت انتفاضة الأكراد التي تسببت بهجوم النظام السوري بآلياته الثقيلة في عام 2004 في القامشلي فاعتقل منهم من اعتقل وقتل من قتل، كانت رزان أول من وقف الى جانب قضيتهم المعزولة والمغيبة إعلامياً والمتكتم عنها، ووثقت الانتهاكات الحاصلة ضدهم وكتبت عنهم.

في بداية الحراك الثوري الذي أعقب ثورات الربيع العربي، شاركت في مختلف الاحتجاجات ووقفت في الصفوف الأولى تغني الثورة وتهتف وتصفق مع الثائريين، ثم توجهت بصوتها للوسائل الإعلامية الغربية والعربية لإيصال صوت المدنيين ووقف “بروباغندا” النظام والدعاية المضادة والأخبار المزورة التي كان إعلاميو النظام يروجون لها كنفي صفة العنف والاعتقال ومجابهة المتظاهرين بالرصاص.

في خلال هذه الفترة اضطرت رزان لترك بيتها الذي تساعدت مع زوجها على تأسيسه خطوة بخطوة آملين بناء عائلة أكبر منتظرين اكتمال دفع أقساط منزلهم الصغير قبل التفرغ لأي التزامات مادية أخرى، وبالتالي لم يسعفهم الوقت لتحقيق حلمهم البسيط كباقي الأزواج وخاصة بعد أن بدأت رزان بالظهور على القنوات الإعلامية بصوتها واسمها الكامل وصورتها، مما هدّد أمنها وأمن زوجها مما اضطرهما الى التنقل من منزل الى آخر كلما شعرا بالخطر أو باقتراب إحدى المداهمات من مكان سكنهما الجديد أو اعتقال أحد المقربين الذي يعلم بمكان سكنهما.

كانت تستبدل البيت الذي تقطنه كل شهرين أو شهر أحيانا، لم تعرف معنى الاستقرار أبداً، ولم تتمكن من عيش حياة طبيعية بعد ذلك اليوم،  في كثير من الأيام كانت تفتقد لبعض أساسيات الحياة حين لا يتواجد معها أحد في البيت وكانت تبقى دون طعام أو شراب لفترات طويلة، في بعض الأحيان كانت تشتاق دمشق وحاراتها القديمة، بازدحام أسواقها ورائحة عرانيس الذرة على العربات الجوالة والأطفال الذين يلعبون في الشوارع، حينها كانت تتوجه عند حلول المساء ممشطة الأرصفة في بطء متناغم مع روائح الياسمين دون كلل أو تعب، محاولة أن تحتفظ بقدر المستطاع بعبق دمشق ورائحتها كي تمدّها بالصبر وقوة التحمل ما أمكنها لتكملة مشوارها الثوري.

لاحقاً  أيقنت رزان أن النشاط الإعلامي لم يكن كافياً وحده، لذلك عمدت لتقديم المساعدات الإغاثية والمادية للمحتاجين، والنازحين الى أماكن جديدة.

بعد الانتقال إلى الغوطة الشرقية، حيث كان الحرمان الأبدي لوالديَ من أي فرصة لرؤيتها خلسة كما في الأيام الأولى لتواريها عن الأنظار، كان عزاؤهما بأنها قد تكون أكثر أمناً في بيئة حُسبت على الثورة، وفي بيئة أمضينا في حاراتها سنين لا بأس بها، أي أنه نوع من الارتباط الفكري والثقة اللامطلقة بأبناء المنطقة التي لم نتوقع يوماً أن تخطف أمام أنظارهم جميعا دون أي حراك من قبل أي مدني على الأرض.

كانت رزان منذ بدايات الثورة تعلم من خلال حنكتها السياسية، أن طريق النصر طويل جداً، خاصة بعد أن لمست بعض الأخطاء التي مرّ بها الحراك الثوري من التّحول إلى العسكرة التي نجح النظام بالدفع له والترويج لوجوده منذ الأيام المبكرة، إلى انقسام الجيش الحر إلى عدة فصائل مالت إلى التّشدد في انتماءاتها، أدت لسيل من الانتهاكات، ما دفع رزان للكتابة عنها وتوثيقها ضمن مركز توثيق الانتهاكات”VDC” ليصبح عرضة للتهديد من قبل العديد من الفصائل الإسلامية، تماما كما كان مهدّداً من قبل النظام .

نشطت فيما بعد بشكل مستمر لإبعاد فكر المقاتلين ضمن الجيش الحر أو الفصائل الأخرى عن أي أجندات خارجية تابعة لأي تمويل خارجي، سواء بتنظيم بعض التدريبات على حقوقهم وحقوق المدنيين أو عن طريق بعض المشاريع الإغاثية وخلق مشروع وطني لهم في الغوطة الشرقية، لتأسيس نظام مدني تعف الفصائل يدها عن الإدارة المدنية وشرطتها واقتصار مهامها في معاركه العسكرية، والتي لم تكتمل بعد خطفها، وعلى ما يبدو أنها كانت واحدة من الأسباب التي دفعت له.

في خضم الحصار على الغوطة الشرقية، وبالفترة التي عانت من نقص الطحين وقلّة الخبز، بدأت رزان تسعى لأي متبرع من شأنه أن يدفع ثمن الطحين للمدنيين، لم تكن المشكلة في إدخال الطحين بقدر ما كانت انعدام وجود متبرع، أذكر جيداً تواصل عدّة أشخاص واقتراح التبرع لها ولكن في آخر المطاف كان الجميع ينسحب خوفاً أو ربما كنوع من استبدال خطته كمتبرع لأماكن أقل صعوبة، ولن أنسى أبداً عرض السيد الأخضر الابراهيمي لها كي تنضم إليه في لجنته النسائية مبدياً استعداده لتأمين إخراجها من الغوطة وحمايتها من النظام السوري، فكان جوابها “بما أنك تستطيع إخراجي من هنا وبهذه البساطة لم لا تدخل بعض الطحين للغوطة الشرقية بدلاً من ذلك؟”.

قررت التوجه بكلمة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان من أجل تسليط الضوء على الحصار وأملا بإيصال صوت الداخل المحاصر إلى العالم والرأي العام، فلربما تحرك أحد ما لنجدتهم، وقد كانت مسبقا قد أسّست مكتب المشاريع التنموية ودعمت مشاريع النساء كوسيلة لمقاومة الحصار إضافة لعملها بتوثيق الانتهاكات الحاصلة من جميع الأطراف.

من لا يعرف رزان لن يفهم أبداً تمسّكها بالعيش هناك، لم يكن قرار العيش في الغوطة الشرقية قراراً سهلاً، فالحصار والقصف لم يكونا أقل رهبة من خوف الاعتقال في العاصمة دمشق، إلا أنّها وبدافع من رغبتها بمشاركة الناس المحاصرين معاناتهم والقرب من المأساة، تمسكت بهدف تسعى إليه، لإيصال أكبر قدر من المصداقية.

في تاريخ 9 أيلول من العام 2013 تعرضت رزان للتهديد عن طريق إطلاق عدة طلقات نارية أمام منزلها وترك رسالة مكتوبة بخط اليد تضمنت التهديد بالقتل في حال عدم مغادرة المنطقة خلال ثلاثة أيام، فقامت الهيئات المدنية العاملة في الغوطة الشرقية بإصدار بيان إدانة لهذا الفعل، وتم التوقيع عليه من الجميع ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي .

كان الجميع يعلم مصدر التهديد، كانت أصابع الاتهام تشير إلى عناصر من جيش الاسلام، خاصة اّن التهديد ترافق مع حملة واسعة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعتها والتشهير بها، كالحملة التي أطلقها أحد التابعين لإعلاميي جيش الاسلام بأن رزان تقوم باصدار التقارير مقابل مبلغ مادي ضخم ولا تقوم بدفعها للمراسلين.

في 9 كانون الاول من العام 2013، أي في ليلة الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الانسان، تم خطف رزان مع زوجها وائل الحمادة وزملائها في المكتب: المحامي ناظم الحمادي والسيدة سميرة الخليل، وكان ذلك ليلاً دون شهود ودون وجود أي أحد يدافع عنهم، ودون أن يسمع جيرانهم أصواتهم، وبذلك غّيبت رزان التي تعتبر فعليا آخر رموز الحراك المدني في الساحة  التي أصرت على البقاء ضمن سوريا والحلم برؤية وطنها حراً من الاستبداد، ولكنني مازلت وأصدقائها وكل من آمن بثورتها بانتظارها.

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل