حكاية سوريا – اختفاء السياسة من المجتمع

زكي الدروبي6 نوفمبر 2017آخر تحديث :
حكاية سوريا – اختفاء السياسة من المجتمع

أوضحت في المقال السابق “بلدان الثروة والثورة” تشابه مجمل الظروف السياسية في المنطقة العربية، قمع وفساد وافساد وافقار للشعوب، وكان واضحاً أن الخلل في توزيع الدخل الوطني، وانهيار البنى الاجتماعية مع انهيار الطبقة الوسطى، أدى لانسداد الأفق أمام الشباب العربي، ما أدى لانفجار الانتفاضات في البلاد العربية، أي أن الظروف الموضوعية لانفجار الانتفاضات في البلاد العربية والتي سميت بالربيع العربي كانت ناضجة.

وبينما كانت الظروف الموضوعية جاهزة لانطلاق الربيع العربي، كانت الظروف الذاتية للقوى السياسية غير جاهزة لهذه المتغيرات، فشدة القمع التي تعرضت لها الأحزاب السياسية كانت عاملاً مهماً في ضعفها، بالإضافة لضعف البنية الفكرية في هذه الأحزاب، وهو – أي ضعف البنية الفكرية – ناجم عن أزمة تاريخية فكرية عالمية في كل الايديولوجيات، أنتجت قادة أمثال أوباما وبوتين وترامب وأمثالهم.

كان التيار القومي العروبي لا يزال متأثرا بهزيمة مشروعه في 1967، وخرجت أحزابه من الفعل الشعبي، واعتمدت أنظمته على قوة قمع الأجهزة الأمنية لتحافظ على وجودها، كما في مصر أيام عبد الناصر، وسورية تحت حكم حزب البعث، أعاقت تطور المجتمع وشاركت بقتل شعوبها ثم انتهت وأصبحت تابعاً لأجهزة السلطة، ويظهر هذا جلياً في التحاق الأحزاب القومية العروبية بأجهزة السلطة في مصر وسورية وغيرها من الأقطار العربية وتبريرها للحاكم فعلته.

وظهر هذا الشكل واضحاً لدى قادة ونخب أحزاب مصر التي أيدت السيسي ومنهم حمدين صباحي الذي نزل “محللاً” للانتخابات المزورة الأخيرة التي وصل بها السيسي لرئاسة الجمهورية، وظهر أيضاً لدى أبناء جمال عبد الناصر، ونخب أشباه الأحزاب الطفيلية المنتفعة من فتات السلطة والتي أيدت نظام المجرم بشار الأسد بوصفه “حامل المشروع القومي العربي” وهو كما يعلم الجميع عميل ايراني ساهم في توسع نفوذها.

أيضاً لم يستطع التيار الليبرالي أن يشكل تعابيره الحزبية المدافعة عن مشاريعه ومصالحه، للأسباب التي ذكرتها من توقف المجتمع منذ سبعينات القرن الماضي عند مرحلة الاقطاع، وعدم بناء مصانع جديدة، والاعتماد في تحقيق الثراء على الاستيراد للمقربين من السلطة، فكلما كان رجل الأعمال قريبا من رجال السلطة وبالتحديد العائلة الحاكمة وضباط المخابرات كلما كانت فوائده وأرباحه أكبر، وبهذا التحقوا كلياً بمشروع السلطة ودافعوا عنها، وليس غريباً أن نجد تجار دمشق وحلب قد رفعوا اللافتات تأييداً لانقلاب حافظ الأسد على رفاقه (طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد).

أما اليسار فقد عاش أيضاً أزمته وكان ملتحقاً بدول المعسكر الشرقي وكان من المفترض به أن يكون طليعة للقوى الثورية التي تسعى لتطوير المجتمع وحمايته، لكنه اعتبر الاتحاد السوفيتي النموذج والقدوة ولم يفكر خارج إطار التعليمات والتوجيهات التي تصل إليه من القادة السوفييت، وظهر هذا جلياً حين طلب خرتشوف آنذاك من الأحزاب الشيوعية الالتحاق بحركات التحرر الوطني (مشروع عبد الناصر) والتوقف عن النضال من أجل المهام الاجتماعية، وتنفيذا لهذا القرار حلت بعض الأحزاب الشيوعية نفسها والتحقت بالسلطة كما في مصر والجزائر في نفس الوقت التي كانت تقتل فيه على أيدي أصحاب السلطة سواء في مصر أو الجزائر، وفي سوريا لم ينفذ خالد بكداش قرار الحزب الشيوعي السوفيتي لكنه التحق بمشروع السلطة وكان حليفا لحافظ الأسد في الجبهة الوطنية التقدمية، وقدم المهمة الوطنية (تحرير الجولان وقضية فسطين) على المهمة الاجتماعية والدفاع عن مصالح الفئة الاجتماعية التي يمثلها من المجتمع، وكان من أهداف الجبهة الوطنية التقدمية تحرير الأراضي المحتلة، والتقارب شيئاً فشيئا للوصول لحزب واحد، والانتقال لمجتمع اشتراكي، لكن لم تنفذ حتى الآن هذه المهام، فلا حافظ الأسد ولا ابنه من بعده حرر الجولان، وتحول الاقتصاد السوري لاقتصاد البرجوازية الطفيلية وهي أسوأ انواع البرجوازية، وفيها كما شرحت مراراً يكون تراكم الثورة بسبب القرب من السلطة وليس بسبب العمل المنتج.

ولم تتحد هذه الاحزاب بحزب واحد، بل استمرت بانقساماتها، ولم تستطع هذه الاحزاب بالتالي الدفاع عن مصالح العمال والفقراء والكادحين، بل غرقت في منافع السلطة ومميزاتها وتحولت إلى طفيليات تابعة تعيش على السلطة وتنتفع منها.

كانت الأجهزة الأمنية، وكلما تململت كوادر هذه الاحزاب، مطالبة قيادتها بالانعتاق من التبعية للسلطة، والعودة لتنفيذ مهام الحزب الأصلية، تلتقط هذه الاشارات المبكرة، لتقوم بتشجيع بعض القياديين من هذه الاحزاب على الانشقاق، وتكوين أحزاب أخرى، ثم تكتشف كوادر هذه الاحزاب أن القيادة الجديدة للحزب الجديد الذي التحقوا به لم تنفذ ما وعدت به، لتتململ فتعاود اجهزة المخابرات تشجيع آخرين على الانشقاق، وتكوين أحزاب اخرى، وهكذا انقسمت الاحزاب الكبيرة وضعفت وأصبح لدينا مجموعة من الأحزاب الناصرية والقومية والشيوعية وخلافه، ضعيفة ومنقسمة، متشابهة في البرنامج السياسي النظري، مختلفة في القيادة، وأصيبت كوادرها باليأس والاحباط، فتراجع الاهتمام بالسياسة خصوصاً مع حملة القمع الشديدة التي مورست ضد المعارضين، فقد استغل نظام حافظ الأسد العمليات التي قام بها تنظيم الطليعة المقاتلة التابع لحركة الاخوان المسلمين في سوريا، ليقوم في ثمانينات القرن الماضي بتنفيذ عمليات اجرامية قذرة في حماه وتدمر وجسر الشغور وغيرها من المناطق، كما نفذ حملة تهدف لقمع كل التيارات والتشكيلات السورية السياسية الديمقراطية واليسارية، وتركزت الضربة بشكل خاص على حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي وكان رئيسه آنذاك جمال الأتاسي، وعلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، واعتقل امينه العام رياض الترك وبقي في الزنزانة المنفردة 17 سنة، كما اعتقل المئات من كوادر هذه الاحزاب، كما شملت الحملة أيضاً كوادر وقياديي حزب العمل الشيوعي وعلى رأسهم مؤسسيه، أصلان عبد الكريم وفاتح جاموس وعبد العزيز الخير.

هذه الحملة الأمنية الكبيرة على الاحزاب الموجودة في التجمع الوطني الديمقراطي نتج عنها شلل أي قدرة له على إحداث أي تأثير، ولم يستطع فعل شيء سوى في بقائه كرمز مقاوم للنظام المستبد.

وبهذه الحملة الواسعة على الأحزاب لم يعد هناك أي أمل بوجود وممارسة عمل سياسي ذو قيمة، وسيطرت أجهزة المخابرات على البلد ومقدراته ونتج عن هذا نتائج خطيرة.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل