حروب سورية القذرة

عمر قدور1 نوفمبر 2017آخر تحديث :
حروب سورية القذرة

لم يثر خبر توقيف رجل الأعمال السوري فراس طلاس، قبل نحو أسبوعين في دبي، الضجةَ التي تثيرها أخبار عائلته عادة. بحسب الأخبار تم توقيف نجل وزير الدفاع الأسبق على خلفية ارتباط اسمه بملف شركة لافارج الفرنسية التي يمثلها في سوريا، وهي تملك مصنعاً للاسمنت في مناطق سيطر عليها داعش، وهناك معلومات عن أموال دُفعت للتنظيم لقاء عدم المساس بالمصنع بحسب صحيفة “لوموند”، الأمر الذي تعتبره التحقيقات الحالية تمويلاً للإرهاب.

شخصية طلاس الابن كانت في مناسبات سابقة مثار جدل بين مؤيدي الثورة، فهو مؤسس ما يُعرف بتيار “الوعد” ويحسبه البعض معارضاً أسوة بباقي المعارضين، بينما يرى فيه البعض الآخر واحداً من أثرياء الفساد في عهد عائلة الأسد، بخاصة لأن المذكور لم يتبرأ علناً من تاريخ أبيه، ولم يتبرع بالكشف عن مصادر ثروته كما تقتضي الشفافية التي يطالب بها هذا البعض. على أية حال؛ تدين تغطية “لوموند” ممثل لافارج “طلاس” بقدر ما تدين الشركة الأم، لأن الأخيرة بحسب التقرير كانت على علم بوصول حوالي 20 ألف دولار شهرياً لتنظيم داعش ضمن اتفاق الحماية. وفي كل الأحوال؛ لا تُعدّ قضية طلاس من القضايا الكبرى في تمويل التنظيم، فالجهات الدولية على علم مثلاً بتجارة النفط بينه وبين تنظيم الأسد، إن لم تكن على دراية وافية بصفقات أكثر سرية وقذارة.

بالتزامن مع خبر توقيف طلاس أُطلقت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لمناصرة الغوطة الشرقية لدمشق التي تقع منذ سنوات تحت حصار قوات الأسد وشعار “الجوع أو الركوع”. أصوات قليلة جداً ذكّرت في هذه المناسبة بدور تجار الحرب، إن لم يكن في التجويع التام المباشر فهو في الغلاء الفاحش والمُميت للشرائح الأفقر. عدم التوقف عند هذه الأصوات مردّه التركيز على المجرم الأول والأكبر وعدم تشتيت الانتباه عنه، وهذا كان قد انسحب في ما قبل على العديد من انتهاكات الفصائل، حيث كان يُخشى من المساواة بينها وبين تنظيم الأسد وصولاً إلى تبرئة ضمنية له.

إلا أن هذه الخشية كان من شأنها منح غطاء لمزيد من الانتهاكات، وأهم من ذلك كان من شأنها التشكيك في الجانب الأخلاقي المفترض للثورة، حتى إذا أتى التشكيك بصورة “حق يُراد به باطل”. ففي مثال الغوطة الشرقية مثلاً سيبقى ماثلاً مشهد الأهالي ذات يوم، عندما داهموا مستودعاً مليئاً بالأغذية يعود لجيش الإسلام المتنفذ في المنطقة، بينما هم محرومون من الضروريات الأساسية. أيضاً في المثال ذاته؛ يعلم كثرٌ وجود نفق تعبره سيارات تنقل مؤناً تخترق الحصار التام، وهذا النفق مُسيطر عليه من قبل قوى الأمر الواقع في الغوطة، بالشراكة مع تجار الحرب من جهة النظام وتجار الحرب في الغوطة نفسها. أي أن سكان الغوطة الصامدين ليسوا فقط ضحية سياسة “الجوع أو الركوع” التي تتبعها قوات الأسد، وإنما هم ضحية سرقة موصوفة من قبل تجار الحرب على الطرفين، وهذه السرقة تهدف إلى إبقاء “زبائنها” على قيد الحياة لاستنزافهم والتجارة بمعاناتهم.

كان يمكن لتجارة الحرب هذه أن تكون أمضى مما هي عليه لولا المساعدات الإغاثية التي تأتي من الخارج، فجزء معتبر من السيولة النقدية التي تُشترى بها البضائع من تجار الحرب يأتي من خارج الغوطة التي توقف فيها النشاط الاقتصادي، وفي غالب الأحيان من خارج سوريا إما على شكل معونات فردية أسرية، أو من قبل منظمات إغاثية. ومن المعلوم أن جزءاً ضخماً من هذه المبالغ يذهب كأرباح فاحشة إلى جيوب تجار الحرب بدل أن يصب في المنفعة المتوخاة لمستحقيها.

إن المسألة، في قضيتي طلاس وحصار الغوطة، هي في تلك الحروب القذرة التي مارستها فصائل تقاتل النظام، أو تدّعي العداء له، بينما مارست في المقلب الآخر سلوك إمارات الحرب بأسوأ ما يحمله هذا التوصيف. قضايا مثل فرض الأتاوات على أصحاب النشاط الاقتصادي، أو اختطاف الأثرياء وطلب فدية مقابل إطلاق سراحهم، أو تشكيل جيش من المرتزقة والسيطرة على مناطق صناعية ونهبها، هذه جميعاً من الحروب القذرة التي تورط فيها العديد من الفصائل، وتسببت بالأذى للأبرياء مثلما تسببت في أذية صورة الثورة ككل.

القضية لم تكن إطلاقاً ضمن حيز محدود من التجاوزات، ففي الأجزاء التي كانت محررة من مدينة حلب “على سبيل المثال” كانت هناك ثلاث حالات مشهورة جداً؛ فصائل مثل “غرباء الشام” و”لواء أحرار سوريا” و”لواء شهداء بدر” عرفها أهالي المدينة وريفها بتجاوزاتها وانتهاكاتها، أكثر مما عُرفت بمقارعتها قوات الأسد. فكتائب “غرباء الشام” بدل مهاجمة قوات النظام في مدينة حلب اتجهت إلى رأس العين الواقعة تحت سيطرة قوات الحماية الكردية لتدشن بدء العداء الصريح بين الأكراد والعرب، فضلاً عن شهرتها في نهب ممتلكات الأهالي والممتلكات العامة ومن ضمنها المنطقة الصناعية شرق المدينة. أما لواء “أحرار سوريا” فسيطر وقتها على منطقة المعامل شمال المدينة، وهي منطقة متاخمة لفرع المخابرات الجوية الذي بقي حصناً لقوات الأسد، ويُعرف عن قائده أنه طلب من فصائل أخرى مبلغ 500 مليون ليرة لقاء السماح لها بالعبور ومهاجمة مقر المخابرات. بدوره “لواء شهداء بدر” عُرف بعمليات الاختطاف وطلب الفدية من الميسورين، ومن “مآثره” القصف العشوائي بأسطوانات الغاز للمدنيين في مناطق سيطرة النظام.

كان محتماً لكافة الانتهاكات في كافة المناطق أن تصب في مصلحة تنظيم الأسد، الموضوع لا يتعلق بتشويه الصورة الأخلاقية للثورة فحسب، وإنما يتعلق تالياً بتقديم خدمات مباشرة له. لم تكن مصادفة أبداً أن يعمل فصيل على إذكاء النزاع بين العرب والأكراد، أو أن يحمي فصيل آخر مقراً لقوات الأسد، أو أن يقوم الثالث بقصف المدنيين عشوائياً، حتى إذا تجاوزنا الاتهامات التي طالت العديد من قادة الفصائل بالتواطؤ المباشر مع مخابرات الأسد.

قد لا تكون الحالة السورية سابقةً لجهة عمل أمراء الحرب ومكاسبهم، لكنها بالتأكيد تفوق ببشاعتها غالبية السوابق الأخرى، فإذا كانت الانتهاكات بأنواعها متوقعة من الخصم فالانتهاكات في حالتنا أتت أيضاً من قبل جهات يُفترض أنها نشأت من أجل حماية الأهالي. ملف هذه الحروب الصغيرة القذرة ينبغي ألا يُطوى تحت ثقل الملف الأضخم لجرائم الأسد، بل ربما يكون فتحه اليوم واجباً أكثر من أي وقت مضى، لأن بعض أمراء الحرب يتحفز الآن ليأخذ حصته من كعكة التسوية، أو ليكون شريكاً بمباركة دولية أو إقليمية لتنظيم الأسد، ومن المتوقع أن الأخير الذي رفض في بدء الثورة أية مشاركة شعبية يرحب بهذا النوع من الشركاء.

بموجب الطاولة المقلوبة حتى الآن، تُستخدم جميع انتهاكات أمراء الحرب الصغار لتبرير وحشية المجرم الأكبر. إعادة الطاولة إلى وضعها الصحيح يقتضي الانطلاق من أن وحشية الأسد في حق السوريين لا تبررها جرائم آخرين في حق السوريين أيضاً، لأن الجريمة لا تبرر الجريمة، وهذا يعني في المقلب الآخر أن الجريمة الكبرى لا تبرر الجرائم الأصغر. ذلك لا يتعلق باعتبارات النزاهة فحسب، ففتح ملف الحروب القذرة يضمن ألا يسطو أصحابها على مستقبل السوريين مثلما فعلوا من قبل.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل