البرغي الإسرائيلي واستغباء الثورة السورية

أسامة أبو زيد1 يناير 2018آخر تحديث :
البرغي الإسرائيلي واستغباء الثورة السورية

مع ساعات الفجر الأولى من يوم الأول من مايو/ أيار 2011، حاصرت الفرقة الرابعة في جيش النظام السوري، بقيادة ماهر الأسد، مدينة داريا، وبدأت بمداهمة بيوت الناس. وخلال ساعتين، اختطف مئات الشبان والرجال من منازلهم، أمام أعين أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم وآبائهم. اقتحموا منزلي، لكن القدر شاء أن أقرر المبيت خارج داريا، لكنهم أخبروا والدي، الذي لم تشفع له الحروب الثلاث التي خاضها قائدا لكتيبة مدرعات، أن يخاطبه جنود الأسد، بقليل من الاحترام، أخبروه أنهم سيعودون لأجلي قريبا، وإن لم أسلم نفسي سيعيدونني له جثة هامدة.

بدأت مساعي وجهاء داريا من أجل كف الملاحقات عمّن لم تصل إليهم أيدي المخابرات الجوية والفرقة الرابعة، وإطلاق سراح من اختطفوا من منازلهم. أبلغت المخابرات الجوية الوجهاء أنها ستكف البحث والملاحقة عن كل شخصٍ يسلم نفسه، ويكتب تعهدا بعدم الخروج مجدّدا في المظاهرات. ولأنني كنت أفضل الاعتقال على أن تقتحم قطعان الشبيحة منزل أهلي فجرا، كما كانت تفعل كل يوم بحثا عني، لم أستغرق كثيرا من الوقت، واتخذت قرارا بالذهاب مع الشبان الملاحقين الآخرين.

في مطار المزة العسكري، وفي مكتب الإدارة، جلسنا ننتظر، كان بيننا شاب أربعيني مصاب بالسرطان، وكان واضحا من ملامحه أن أياما قليلة تبقت على مغادرته الحياة، لكنه كان مضطرا للقدوم، ليضمن إزالة اسمه من على حواجز النظام، حتى يستطيع النزول إلى أحد مشافي دمشق، لتلقي جرعة الكيميائي.

استدعيت إلى مكتب اللواء فؤاد الطويل. وبعد جلوسي، قال: يا أستاذ أسامة، أنت لا تصدّق أننا نواجه مؤامرة؟ فتح أحد أدراج مكتبه، وأخرج قطعة معدنية تشبه البرغي، ثم سألني: هل تعرف ما هذا، يا حضرة المحامي؟ أجبته: لا. فقال: هي، يا أستاذ، مقذوف طلقة استخرجها الأطباء في مشفى المواساة من كتف أحد المتظاهرين الذين أصيبوا في يوم الجمعة الماضية. ثم قال: المفاجأة، يا أستاذ، أن الأطباء في مشفى تشرين العسكري استخرجوا مقذوفا مطابقا من يد ملازم من الجيش كان يحرس المتظاهرين في داريا في يوم الجمعة نفسه (!). ثم تابع: هل يمكن، يا أسامة، أن تقول لي ما معنى هذا الكلام. ..

لم يسعفني عقلي بأي كلمة. صدمني حجم الاستغباء والاستحمار الذي يمارسه ضابط برتبة لواء، واستوقفتني كثيرا مهارة هذا اللواء في ممارسة هذه الكذبة وتصديقها في الوقت نفسه. أيقظني من الصدمة تكرار اللواء السؤال: ما تفسيرك، يا حضرة المحامي؟ ثم قال: طبيعي ما عندك تفسير، لأنك لو كنت تعرف التفسير لما طلعت مظاهرات. يا حضرة المحامي، هذا المقذوف لطلقةٍ لا تصنع إلا في إسرائيل. وهذا يعني أن الكيان الصهيوني موجود ضمن المظاهرات، وهو من أطلق النار على المتظاهرين وجنود الجيش وعناصر الأمن حتى يشعل فتنة في البلد.

كان مفهوما تعاطي نظام دموي مستبد مع الشعب الذي يحكمه بازدراء واستغباء. وكذلك المجتمع الدولي الذي عرّت الثورة السورية زيف القيم التي ينادي بها من حريةٍ وديمقراطيةٍ وحقوق إنسان. لكن، وبعد سبع سنوات من تضحيات السوريين على مذبح الحرية والكفاح في سبيل الكرامة، كان صادما أن يتبع من يدّعون تمثيل طموحات السوريين الثوار سياسة مشابهة لسياسة النظام في استغباء من يدعون تمثيلهم وتضليلهم.

الانقلاب على الهيئة العليا

بعد مؤتمر المعارضة السورية، الرياض 2، في 23 و24 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والذي أثارت طريقة الدعوة للمشاركة فيه، وتجاوز الهيئة العليا للمفاوضات في توجيه الدعوات، وعدد المستقلين الكبير، تحفظات كثيرة بشأنه، برّر متصدرو مشهد ما تسمى الهيئة السورية للمفاوضات تحرّكهم لحل الهيئة العليا بانتهاء ولايتها. ولكن، بالعودة إلى بيان “الرياض 1” ومستندات المؤتمر وأوراق الهيئة العليا للمفاوضات، لا يوجد أي نص يحدد عمل الهيئة العليا للمفاوضات بسنة واحدة، فولايتها موضوعية، تنتهي بإنجاز الغاية التي أسست لأجلها، أي الحل السياسي، وهو ما لم يتم إنجازه بعد. ولو افترضنا جدلا أن صلاحية الهيئة العليا للمفاوضات محدودة بسنة، لكان من الواجب انعقاد مؤتمر الرياض 2 في العام المنصرم، وليس في نهاية العام الحالي.

كانت الهيئة العليا للمفاوضات هدفاً لروسيا، منذ بداية تأسيسها، حيث صرحت الخارجية الروسية إنها “لا تستطيع الموافقة على محاولة هذه الجماعة احتكار حق التحدث باسم المعارضة السورية بأكملها”. وكان التركيز الروسي على تمييع قرار الثورة التفاوضية وثوابتها من جهة، وتجاوز قضية الانتقال السياسي في أجندة التفاوض لصالح مكافحة الإرهاب والدستور والانتخابات.

ويمكن القول إن الغاية الروسية في تكسير الثوابت التفاوضية تحققت إلى حد كبير، يتجلى ذلك في هدم الهيئة العليا للمفاوضات، وتشكيل جسم تفاوضي جديد بمشاركة منصتي القاهرة وموسكو، الأمر الذي اتضحت منعكساته في نص بيان اجتماع الرياض 2 الذي أبقى الباب مواربا أمام قضية بقاء الأسد في السلطة، حيث نص البيان على “مغادرة الأسد” بعد فقرة رئيسية وجوهرية، تنص على أن المفاوضات بدون شروط مسبقة، بما في ذلك “مقام الرئاسة”.

وبوجود تناقضٍ في فقرات نصٍّ ما، فإن القاعدة التي تطبق، والتي أقرّها جميع فقهاء القانون، هي: “إذا تعذّر إعمال الكلام يهمل”. وبالعودة إلى نص البيان الختامي لاجتماع “الرياض 2″، يتعذر تطبيق بند رحيل بشار، لأن الفقرات الجوهرية في البيان تتناقض مع مطلب الرحيل. مع الأخذ بالاعتبار أن رحيل الأسد ليس سقفا في نظر أولياء الدم، وإنما الحد الأدنى لتعريف المعارض، فضلاً عن الثائر.

وفد مخترق أم موحد؟

لعل أبرز أسباب رفض شريحة واسعة من السوريين مخرجات مؤتمر الرياض 2 الى جانب ثغرات بيان المجتمعين في الرياض، هو تشكيل الوفد المفاوض عن الثورة بمشاركة منصة موسكو، وهو ما يعتبر خرقا كبيرا لصالح النظام وروسيا في قرار الثورة التفاوضي.

حجة الروس ابتداء، والذي صار لاحقا حجة أعضاء في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، في الرد على التنديد بتشكيل وفد مع منصة موسكو، هو قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، والذي ينص على “وإذ يأخذ علماً بالاجتماعات التي جرت في موسكو والقاهرة وغيرها”. وبالنظر إلى النص، لا يمكن القول إطلاقا إن القرار يفرض مشاركة المنصات في وفدٍ يفاوض لنيل حقوق ملايين من شهداء ومشرّدين، كان سبب معاناتهم رمز الوحدة الوطنية (جيش النظام)، بحسب وثيقة منتدى موسكو، وهي إحدى مرجعيات منصة قدري جميل وشركاه.

ربما، وعلى الرغم من ضآلة الاحتمال، كان ممكنا لجمهور الثورة أن يقبل تبرير القوى المحسوبة على الثورة التي وافقت على شراكة مبعوثي المخابرات الروسية في وفدٍ يفاوض بالنيابة عن الثورة بأن هذه الشراكة ناتج ضغط دولي، وواقع لم تستطع تلك القوى مواجهته، لتركز تفكيرها على سبل الحد من هذا الاختراق، لكن المشهد السوريالي تجسّد حينما أكدت تلك القوى، حتى في اجتماعاتها المغلقة مع هيئات ثورية في الداخل، أنها شكلت وفدا “موحدا”، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حينما قالت، في أحد لقاءاتها مع ناشطي الغوطة الشرقية المحاصرة، إن المعارضة لم تكن موحدة من قبل كما هي اليوم، بعد مؤتمر الرياض 2.

نجح الوفد “الموحد”، بنظر أعضائه وهيئته، في الحفاظ على تماسكه، خلال جولتين تفاوضيتين، حمّل خلالهما أحد أعضاء الوفد جزءا من مسؤولية تعنت النظام ورفضه الانخراط في تفاوض مباشر للوفد نفسه الذي ينتمي إليه، وبيان المؤتمر الذي تشكل بموجبه ذلك الوفد.

ويمكن القول إن التحديات الرئيسية، والتي ستكشف تماسك الوفد، لم تأت بعد، والتي تتمثل في قضية الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية في سورية، بالإضافة إلى حسم المشاركة في مؤتمر سوتشي من عدمها، هذه التحديات ستكشف أن منصة موسكو لم تنتقل إلى ضفة “الائتلاف” والقوى الثورية، وأنها ما زالت في ضفة المخابرات الروسية، وأن آخرين قد قفزوا إلى ضفتها، وربما الحقيقة أشنع من ذلك.

موجة سوتشي

جدّدت روسيا دعوتها الى مؤتمر سوتشي لـ”الشعوب السورية”، وحدّدت موعدا له، بالتفاهم مع كل من تركيا وإيران خلال جولة أستانة أخيرا، والتي استمر وفد الفصائل بالمشاركة فيها، على الرغم من أن معظم الغايات الإنسانية التي يفترض أن المسار أنشئ لمعالجتها لم تتحقق، فلا يزال المحاصرون يموتون جوعا ومرضا في الغوطة الشرقية، ولم يتوقف مسلسل التهجير القسري، كما لم تتوقف الهجمات العسكرية في عدة مناطق، في مقدمتها ريف دمشق الغربي وريف حماة، وحتى محافظة إدلب التي ارتكب فيها الطيران مجزرةً بحق المدنيين في جرجناز.

وقد تم في جولة أستانة الثامنة، في 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تم تعيين أحمد طعمة رئيسا لوفد المعارضة السورية، وهو ما يعطي الوفد طابعا سياسيا أكثر، بشكل يلائم بحث مؤتمر سوتشي الذي كان على جدول أعمال الجولة، ليؤكد ذلك تصريح الرئيس الجديد لوفد أستانة أن المشاركة في “سوتشي” مرتبطة بتحقيقه انتقالا سياسيا وفق دستور “عصري”، ليصرح بعده رئيس اللجنة الإعلامية للوفد إن على المعارضة ألا تترك مقعدها في سوتشي فارغا!

وعلى الرغم مما يشكله مؤتمر سوتشي من ترسيخ لمفهوم الاحتلال الروسي لسورية من خلال فرضه شكلا للدستور، وبالتالي نظام سورية السياسي وسلطاته، كان لافتا تصريح المتحدث باسم الهيئة السورية للمفاوضات إن الهيئة ستشارك في مؤتمر سوتشي إذا كان يخدم مسار جنيف.

وتطرح هذه التصريحات تساؤلات لدى جمهور الثورة، أبرزها كيفية خدمة مؤتمر سوتشي في روسيا، وبرعاية منها لمسار جنيف الذي تعطله روسيا نفسها، إلا إذا كانت الهيئة التفاوضية الجديدة تعتبر إنجاز دستور سورية المستقبل، بإشراف روسي في سوتشي، خدمة لمسار جنيف، باعتبار أن سوتشي أراح المتفاوضين في جنيف من عناء بحث سلة الدستور، وعن مبرّرات إنجاز انتقال سياسي في سوتشي، في وقت بذلت روسيا كل جهودها الدبلوماسية لإسقاط سلة الانتقال السياسي من أجندة التفاوض في جنيف، بتعاون من المبعوث الأممي “المحايد”، ستيفان دي ميستورا، وما هي قيمة مقعد المعارضة وسط مؤتمر رسمت روسيا أدق تفاصيل مخرجاته؟

ما البديل وما خيارات الثورة؟

السؤال عن بديل “سوتشي” تطرحه بعض الدول ومن تماهى معها من المعارضة، وهو امتداد لسؤال طرحت هذه الدول في بداية الثورة عن بديل بشار.

هي أسئلة تنطلق من استخفافٍ بعقول السوريين، واستخفاف بما استطاع هذا الشعب منفردا أن ينجزه من صمود وصبر وإصرار في وجه ترسانتي روسيا وإيران العسكريتين، كما أن الرهان على أن المرونة السياسية ستفضي إلى وضع روسيا وإيران في الزاوية طرح ينطوي على استخفاف أكبر بعقول السوريين وإدراكهم، لأن كلتا الدولتين المحتلتين سورية لم تكونا، في أي يوم، تؤمنان بالحل السياسي في سورية، وهو ما يؤكده تعطيل روسيا مسار جنيف منذ انطلاقه، كما يؤكده استمرار العمليات العسكرية في ريف دمشق الغربي، وحصار الغوطة وريف حمص وعمليات التغيير الديمغرافي المستمرة، على الرغم من اتفاق تخفيض التصعيد. وإلى جانب ذلك كله الخطوات الإيرانية التي شارفت على الاكتمال في بناء حزب الله السوري والضاحية الجنوبية في سورية، لتحكم سيطرتها على دمشق بشكل كامل.

لم يعد للسوريين من خيار سوى أن يخوضوا معركة استقلال بلدهم، وتحريره من الاحتلال الداخلي والاحتلالات الأجنبية، وهو ما يتطلب انطلاق موجة جديدة من الكفاح والمقاومة الوطنية، الأمر الذي يستدعي تشكيل جبهة عريضة من أبناء الثورة، أصحاب الموقف الجذري، من يقدّمون مصلحة سورية وحريتها واستقلالها على كل العالم، وممن هم على أتم الاستعداد أن يتحملوا أعباء رفض ضغوط الدول الصديقة والشقيقة. بات من الواجب والضرورة القصوى تذكير وفود التفاوض والدول الراعية لها وللمفاوضات أننا أبناء أعظم شعبٍ قدّم ما لم يقدمه أحد في معركة الحرية والاستقلال والكرامة.

نحن أحفاد الشهيد يوسف العظمة الذي على الرغم من تأكده من خسارته معركة ميسلون، إلا أن أنفة السوريين وكرامتهم التي ترفض أن يحتل بلدهم من دون مقاومة دفعته إلى ذلك القرار المشرّف الذي بات لزاما على الوطنيين اتخاذه. ولتكن أرواحنا فداء له، ولسورية الحرّة المستقلة.

المصدر العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل