أكاذيب سورية مبتكرة

خطيب بدلة1 ديسمبر 2017آخر تحديث :
خطيب بدلة

سنة 2009 كنتُ أكتبُ برنامجاً إذاعياً صباحياً لإذاعة دمشق، فيه شخصيتان، إحداهما لرجل اسمُه أبو عبدو، والثانية لأبي مصطفى. شخصية “أبو عبدو” ملتبسة، إذ لا يستطيع المستمع إليه أن يعرف إن كان يتحدث جاداً أو ممازحاً، كاذباً أم صادقاً..

في ذات مرة كان يقول لصديقه إن ابنه الصغير “فادي” توعك فجأة، وشرعت تظهر عليه أعراض ليست خطيرة، كأن يشعر بالسخونة، مثلاً، بينما جسمه بارد، أو العكس،.. وحينما قاسوا حرارته تبين أنها لم تتجاوز ثماني وثلاثين درجة، وربما سعل مرة أو مرتين، وهذه أمور ليست مخيفة على الإطلاق. لذلك اقترح على زوجته أم عبدو أن تسقيه حبة سيتامول وتغطيه بالبطانيات وتتركه ساعتين حتى ينام، ويتعرق، فيشفى..

ولكن السيدة أم عبدو لم يعجبها هذا الكلام، واستنفرت، وصارت تتحدث رشاً، زاعمة أن زوجها يأخذ الأمور، مهما بلغت من الخطورة والأهمية، بالهزل واللامبالاة،.. واقترحت عليه أن يستوقف أقرب تكسي ويأخذ الولد، بسرعة البرق، إلى أقرب مشفى خاص، ومهما كلفت المسألة فلتكلف.

اعترض هو على فكرة المشفى الخاص، وأفهمها، بالحسنى، أن المستشفيات الحكومية وجدت أساساً من أجلنا نحن الفقراء المعدمين، فلماذا نتركها خاوية على عروشها ونذهب نحن لـ(نبعزق) نقودنا هنا وهناك؟..

ولأن أبا عبدو يعرف أن لدى زوجته مقدرة استثنائية على الأخذ والرد، والمجادلة، فقد حسم الأمر، ووصل القول بالفعل، وحمل الولد ومشى إلى المستشفى، على الأقدام، موفراً أجرة التكسي، وزوجته تبعته، مثلما يتبع السيد قفة معلمَه (علي جناح التبريزي)، وهي ما تنفك تحكي وتبربر، منددة بعناده، وتمسكه برأيه.

ولكن الذي حصل هو أنهم، بمجرد ما أصبحوا داخل حرم المستشفى الحكومي، استنفر العاملون فيه من الفراش إلى المدير، وصاروا يمشون هرولة بدلاً من المشي العادي، وكل واحد منهم يعرف ما هو المطلوب منه على أكمل وجه، فترى مَنْ يعاين، ومن يخطط، ومن يصور، ومن يحلل، ومن يقيس الضغط، ومن يعمل الإيكو والطبقي المحوري والرنين المغناطيسي.. وحينما تيقنوا من نوع المرض، وهو نوع من “الجريب” العادي، وضع رئيس الأطباء قطعة من الشاش المعقم على جبين الولد ثم باسه.. تساءل أبو مصطفى: لماذا وضع القماشة؟

فرد أبو عبدو: من باب الاحتياط، لئلا تنتقل أمراض أخرى محتملة من الطبيب إليه.. وبعدما باسه قال له: معافى إن شاء الله تعالى.. هيا إلى صيدلية المشفى.

قال له أبو عبدو: ولكنك يا دكتور لم تعطني الوصفة.

فقال الطبيب: مؤكد أن الوصفة ارتسمت على شاشة الكومبيوتر في جناح الصيدلية، فما عليك إلا أن تذهب إليهم وتستلم دواء ابنك!

تساءل أبو مصطفى مندهشاً: هذا الاهتمام بالمريض كله موجود لدينا في المشافي الحكومية؟

قال: أنا أحدثك بما رأيت. وبصراحة أنا قلت لمدير المستشفى إن بعض الإجراءات الطبية التي طُبقت على الولد لم يكن لها لزوم، فقال لي: هذه الإجراءات يا أستاذ إذا لم تنفع فهي لا تضر.

المهم، طال عمرك، ذهبنا إلى الصيدلية، وقبل أن نسأل الممرضة الواقفة مقابل الباب باستعداد مثل عسكري واقف في حضرة لواء عن دواء ولدنا رأينا شاشة إلكترونية قد كتب عليها اسم ولدنا (فادي)، ورقم دخوله من الباب الخارجي، وثمة كيس فوسفوري أبيض أنيق عليه اسم الولد والرقم نفسه، والممرضة لم تفعل شيئاً سوى أنها دفعت الكيس باتجاهنا برفق، وهي مبتسمة، وقالت لنا: الحمد لله على سلامة المحروس فادي.

المهم في الموضوع.. أخذنا مخصصاتنا من الحبوب والإبر والسيرومات والسيرنغات.. وخرجنا إلى الشارع، فرأينا ممرضاً وسيماً يرتدي طقماً أسود ويضع ربطة عنق حمراء يلحق بنا خطوة خطوة والكعب على الكعب. سألته أم عبدو:

– عفواً يا أخ، ماذا تريد؟

قال: طلب مني المدير أن أوقف لكم سيارة أجرة، وأقول لكم بأمان الله!

وتنتهي الحلقة بأن يضرب أبو مصطفى رأسه بالجدار من هول الأكاذيب التي سمعها من صديقه!

المصدر مدونات العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل